البنيويَّة التكوينيَّة...‏ المفاهيم والتصوُّرات

د. فاطمة علي عبُّود

ناقدة وأكاديمية سورية مقيمة في تركيا

 

يعكس العمل الأدبيُّ العلاقة الجدليّة بين البنى الفوقيّة والتحتيّة، فتلك العلاقة تربط العمل الأدبيَّ في ‏أقلِّ دوائره إلى أكثرها اتِّساعًا بالمجتمع من خلال عمليّة التأثُّر والتأثير المباشر على البيئة ‏الاجتماعيّة، وعلى العلاقات بين الأفراد، فالعمل الأدبيُّ يحمل بنى دلاليّةً، ومهمّة النَّاقد كشف تلك ‏الدِّلالات التي سعى من خلالها الفاعل الجماعيُّ لإقامة توازناتٍ بين بنى النَّص الداخليّة والخارجيّة؛ ‏لذلك فإنَّ حَدْس الناقد يجب أن يكون حاضرًا في الكشف عن تلك الدِّلالات التي لا ترتبط بالفرد ‏بوصفه مبدعًا فقط، بل بالمبدع بوصفه فاعلًا جماعيًّا. ويدرس النقد البنيويَّ التكوينيَّ تلك الأعمال ‏العظيمة التي امتلكت رؤيةً للعالم بدرجةٍ كبيرةٍ من الانسجام مع بنى المجتمع الذهنيّة.‏

 

تمتلك البنيويَّة التكوينيَّة تصوُّراتها النَّقديَّة لتقارب النُّصوص الأدبيَّة برؤيةٍ شموليَّةٍ، منطلقةً في ‏إجراءاتها من بنى النَّص الدِّلاليَّة التي تحيلنا، من خلال علاقتها الجدليَّة مع الذهنيَّة الاجتماعيَّة، إلى ‏الرُّؤى والتَّطلعات التي تجمع هذه الفئة الاجتماعيَّة أو تلك، وتؤكِّد البنيويَّة التكوينيَّة أهمية الانطلاق ‏من بنية النَّص الأدبيِّ في مرحلة الفهم، بوصفه نصًّا يمتلك موضوعًا يمارس عليه النقد نشاطه ‏الفكريَّ، وتعدُّ هذه المرحلة، مرحلةً أولى وأساسية في الدِّراسة الأدبيَّة، لكنَّ البنيويَّة التكوينيَّة تجد في ‏دراسة بنية النَّص بمستوياته الأدبيَّة مرحلةً غير كافيةٍ، لذلك رفض "غولدمان" ‏L.Goldman‏ -أحد ‏أبرز أعلام البنيويَّة التكوينيَّة- سكونية البنى؛ إذ إنِّها "لا تُفهم بحدِّ ذاتها خارج حدود الزمان والمكان، ‏وإنَّما من خلال تطوُّرها وتحرُّكها وتفاعلها وتنافرها داخل وضعٍ محددٍ زمانيًّا ومكانيًّا"(1)؛ بمعنى أنَّه ‏أعطى تلك البنى أنساقًا خارج اللغة. ‏

ويعكس العمل الأدبيُّ العلاقة الجدلية بين البنى الفوقية والتحتية، فتلك العلاقة الجدلية تربط العمل ‏الأدبيَّ في أقلِّ دوائره إلى أكثرها اتساعًا بالمجتمع من خلال عملية التأثُّر والتأثير المباشر على البيئة ‏الاجتماعية، وعلى العلاقات بين الأفراد، وذلك سينعكس بلا ريب على البنية الذهنية لدى الجماعة ‏التي ينتمي إليها الكاتب.‏

ويحدِّد "غولدمان" البنيويَّة التكوينيَّة بقوله: "تنطلق البنيويَّة التكوينيَّة من الفرضية القائلة إنَّ كلَّ سلوكٍ ‏إنسانيٍّ هو محاولة إعطاء جوابٍ دلاليٍّ على موقفٍ خاصٍّ، ينزع به إلى إيجاد توازنٍ بين فاعل الفعل ‏والموضوع الذي يتناوله؛ أي العالم المحيط، ويحتفظ هذا النزوع نحو الموازنة على الدوام بطابعٍ ‏متغيّرٍ ومؤقتٍ(3)، فالعمل الأدبيُّ يحمل بُعدًا دلاليًا، ولا يمكن أن يبقى منحصرًا في مستواه اللسانيِّ، ‏وهذا البعد يُعرف من خلال ربط العمل الأدبيِّ بفكرة المادية الجدلية؛ إذ تبدو فكرة الانعكاس التي ‏يشير إليها "غولدمان" ديناميكيةً وغير ثابتةٍ؛ لأنَّ العالم الخارجيَّ في تغيُّرٍ دائمٍ ومستمرٍ، لذلك فهو ‏يشير إلى محاولةٍ للتوازن، هذه المحاولة هي الهمُّ الأوَّل للناقد وهو يقوم بعمليتي الفهم والتفسير؛ أي ‏ربط البنى الدَّالة ببنى أوسع منها، وهكذا... ولا بدَّ لنا من إيضاح أبرز التَّصورات النَّقديَّة للبنيوية ‏التكوينية، ومناقشة هذه التَّصورات من جميع جوانبها لتوضيح الخطوات التي يسير عليها المنهج في ‏أثناء التحليل النقديِّ. ولنبدأ بـِ:‏

‏1-البنية الدلاليّة:‏

يحمل العمل الأدبيُّ بنى دلاليةً، ومهمة النَّاقد كشف تلك الدِّلالات التي سعى من خلالها الفاعل ‏الجماعيُّ لإقامة توازناتٍ بين بنى النَّص الدَّاخلية والخارجيَّة؛ لذلك فإنَّ حَدْس الناقد يجب أن يكون ‏حاضرًا في الكشف عن تلك الدِّلالات التي لا ترتبط بالفرد بوصفه مبدعًا فقط، بل بالمبدع بوصفه ‏فاعلًا جماعيًا. إنَّ هذه البنى غير ساكنةٍ، بل هي في حالة تغيرٍ دائمٍ، كما أنَّها ليست مستقلةً ‏ومنفصلةً؛ ومن هنا تأتي الأهمية الدِّلالية للبنى، فقد تأثر "غولدمان" بـِ"جان بياجيه" ‏J.Piaget‏ الذي ‏بنى نظريّته المعرفيّة على مفهوم تكوين البنى المتطوِّرة والمتحوِّلة، فلا يمكن أن يُكتفى بتجميع البنى، ‏بل يجب أن تكوِّن نسقًا ما؛ إذ لا يمكن أن تعطي نتائج خارج نسقها(3)، وبهذا تكتسب البنى معنى ‏أكثر ثباتًا من الناحية المعرفيّة لدى "بياجيه"، ولكنَّها على الرَّغم من ذلك الثبات النسبيِّ ليست جامدةً ‏على الإطلاق، وقد أُعجب "غولدمان" بفكرة البنى عند "بياجيه"، فتبنَّاها وأعطاها بُعدًا اجتماعيًا ‏جدليًا، وربط بذلك العلوم التطبيقيَّة بالعلوم الإنسانيَّة، بشكلٍ دقيقٍ ومنهجيٍّ واضحٍ.‏

إذ يتمُّ النظر إلى العمل الأدبيِّ على أنَّه بنيةٌ دلاليةٌ شاملةٌ، تحتوي على بنى جزئيةٍ مشمولةٍ، وهذه ‏البنى تحمل سلوك الجماعة الاجتماعيَّة ومشاعرها ومعتقداتها التي يعبِّر عنها الفاعل الجماعيُّ ‏مستخدمًا أسلوبه وخياله، لذلك يهاجم "غولدمان" دراسة البنى الدِّلالية في إطارها الضيِّق من دون أن ‏ندمجها في أُطرٍ تسمح لهذه البنى بالتَّعبير عن دلالاتٍ أوسع وأشمل، ليتمَّ فهمها من خلال جدلية ‏العلاقة بين الأجزاء والكلِّ التي تتَّسق ضمنه، فلا يمكن فهم بنية النَّص من خلال دراسته البنيويَّة ‏الشكليَّة، ولا من خلال دراسة التأثير المباشر لما هو خارج النَّص على النَّص الداخليِّ.‏

‏2- الفهم والتفسير:‏

إنَّ أولى الخطوات الإجرائيَّة في النقد البنيويِّ التكوينيِّ هي مرحلة الفهم التي تتناول بنية النَّص ‏الأدبيِّ، للكشف عن البنى الدَّالة، وإعطاء هذه البنى اللغويَّة والأسلوبيَّة معنى أعمق وأكثر شموليةً من ‏خلال ربطه ببنى أكثر اتساعًا كلَّما تقدَّم سير البحث، هذا الرَّبط من شأنه تغيير دلالة البنى؛ لأنَّ "الفهم ‏مسألةٌ تتعلَّق بالتماسك الباطنيِّ للنَّص، وهو يفترض أن نتناول النصَّ حرفيًا، كلَّ النصِّ ولا شيء ‏سوى النصِّ، وأن نبحث داخله عن بنيةٍ شاملةٍ ذات دلالةٍ"(4)، وهنا يقوم الناقد بعملية تجزيءٍ للعمل ‏الأدبيِّ الذي يقوم بدراسته، هذا التجزيء سرعان ما يتمُّ ربطه مجدّدًا ببنى أوسع بعد أن تتمَّ دراسته ‏وفق مستوياتٍ معينةٍ يحدِّدها الناقد؛ فالناقد حين يجزِّئ العمل الأدبيَّ يعطي كلَّ بنيةٍ دلالةً خاصةً، لكنَّ ‏هذه المدلولات تتغيَّر عندما تتحوَّل في مرحلةٍ تاليةٍ إلى بنياتٍ أكثر شموليةً وتماسكًا.‏

أمَّا "التفسير فليس سوى إدراج هذه البنية، من حيث هي عنصرٌ مكوِّنٌ وظيفيٌ، في بنيةٍ شاملةٍ ‏مباشرة، لا يسبرها الباحث مع ذلك بطريقةٍ مفصَّلةٍ، وإنَّما فقط بالقدر الضروريِّ لجعل تكوين العمل ‏الذي يدرسه مفهومًا، ويكفي هنا أن نأخذ البنية الشاملة موضوعًا للدرس حتى يصبح فهمًا ما كان ‏مجرَّد تفسيرٍ، وحتى يجد البحث التفسيريُّ نفسه مرغمًا على الاستناد إلى بنيةٍ جديدةٍ أكثر اتساعًا"(5)، ‏فما كان تفسيرًا سيكون فهمًا في مرحلةٍ تاليةٍ، وذلك حين سيُدرج في بنياتٍ لاحقةٍ تزيد من توضيح ‏علاقته ببنى المجتمع للوصول إلى رؤية العالم المنشودة.‏

‏3- الوعي القائم والوعي الممكن:‏

يقسِّم "غولدمان" الوعي إلى مستويين؛ وعيٍ قائمٍ فعليٍّ ووعيٍ ممكنٍ؛ إذ يرتبط الوعي القائم زمنيًا ‏بالماضي؛ لأنَّه يشكِّل خبراتٍ ماضيةً تراكميةً، تكوَّنت عند الأفراد الذين يفيدون منها في تعاملهم مع ‏الواقع، حتَّى اللحظة الراهنة التي يعيشونها، وهو وعيٌ يرتبط بالجماعة الاجتماعية كافَّة، "فالوعي ‏الفعليُّ هو الوعي الناجم عن الماضي ومختَلَف حيثيّاته وظروفه وأحداثه، فكلُّ مجموعةٍ اجتماعيةٍ ‏تسعى إلى فهم الواقع انطلاقًا من ظروفها المعاشيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والدينيَّة والتربويَّة"(6)، ‏وبذلك فإنَّ الوعي القائم هو وعي المجموعة، بما فيها الفاعل الجماعي أيضًا.‏

أمَّا الوعي الممكن فهو "أقصى درجةٍ من التَّماثل مع الواقع يمكن أن يبلغه الوعي الجماعيُّ دون أن ‏تضطر الجماعة إلى التخلِّي عن بنيتها"(7)، فالجماعة التي غالبًا ما تشكِّل طبقةً واحدةً تسعى إلى ‏تحقيق التماثل بين الواقع وبين الممكن، لتحقيق الانسجام بين واقع الجماعة وطموحها، وذلك كلُّه ‏شريطة ألَّا يخرج الأفراد عن الطبقة التي تضمُّهم، ويتعرَّضون فيها للمشاكل ذاتها، فالوعي الممكن ‏يستوعب الواقع الفعليَّ ويتجاوزه، لتحقيق الأحلام التي تصبو إليها الجماعة، عن طريق فهم حقيقة ‏المشكلات التي تعيق وصولها إلى الأهداف المنشودة، ولذلك فإنَّ الفاعل الجماعيَّ هو القادر على ‏امتلاك الوعي الممكن، أمَّا الكاتب العاديُّ فيبقى في حدود الوعي الفعليِّ، ويكون عمله انعكاسًا للواقع، ‏وتصويرًا لحيثياته، وهذا ما يميِّز الأعمال الخالدة التي ارتفعت بالوعي الفعليِّ إلى الوعي الممكن من ‏الأعمال التي اندثرت عبر التاريخ الإنسانيِّ.‏

إنَّ الوعي الممكن ليس وعيًا طوباويًا، فهو لم يأت من تلقاء ذاته، بل هو محاولةٌ لإيجاد توازنٍ بين ‏الواقع والممكن؛ لأنَّ ما كان طوباويًا لا ينطلق من أرضيةٍ واقعيةٍ، بخلاف الوعي الممكن الذي ينطلق ‏من وعيٍ فعليٍّ أساسه العلاقات الاجتماعية المتشابكة، ضمن الإطار الثقافيِّ والسياسيِّ والاجتماعيِّ، ‏فالعمل الأدبيُّ بتجاوزه للوعي الفعليِّ يكون خلَّاقًا وحقيقيًا؛ لأنَّه يعبِّر عن تطلعات أفراد المجتمع، ‏فحين يحصر الكاتب عمله في حيِّز الواقع، فإنَّه لا يقدِّم سوى انعكاساتٍ مرآتيّةٍ، ويخفق في الوصول ‏لرؤية العالم، وحينها سيقدِّم وعيًا طوباويًا لا يخضع للشرط التاريخيِّ.‏

‏4- الفاعل الجماعيّ:‏

إنَّ الفاعل الجماعيَّ هو الفرد الاستثنائيُّ الذي تملَّك عبقرية التعبير، وتملَّك أيضًا دوافع التصعيد ‏للتعبير عن تلك العبقرية؛ إذ يؤكِّد "لوكاتش" أنَّ الفاعل الجماعيَّ "جزءٌ من حياة زمنه، سواء كان ‏واعيًا بهذا أم لا، وسواء أقرَّه أم لم يقرُّه، فهو جزءٌ من كلٍّ اجتماعيٍّ وتاريخيٍّ أكبر، ولهذا فإنَّ حياته ‏ذاتها ليست ثابتةً أو جامدةً على الدوام، فهي عمليةٌ مستمرةٌ، معركةٌ دائمةٌ بين الماضي والحاضر ‏والمستقبل"(8)، فالتأكيد على انتماء المبدع للجماعة أكَّده اصطلاح الفاعل الجماعيِّ على مبدع النَّص ‏الأدبيِّ الذي يحمل داخله وعي الجماعة الاجتماعيَّة، بوعيٍ أو بغير وعيٍ منه.‏

إنَّ الكلية التي يتمسَّك بها "غولدمان" بوصف الفاعل الجماعيِّ يمثِّل الكلَّ لا تعود إلى أصولٍ ماركسيةٍ ‏في فكر "لوكاتش" فقط، بل تعود إلى فكرة "هيغل" في أنَّ الحقيقة تكمن في الكلِّ. فالذي يبدع النصَّ ‏الأدبيَّ هم الجماعات الاجتماعيَّة، وليسوا الأفراد المنعزلين، "إذ نادرًا ما يبلغ بعض الأفراد ‏الاستثنائيين الانسجام الكامل، أو يقتربون منه على الأقل، فإذا ما تمكَّنوا من التعبير عنه، على ‏المستوى الإدراكيِّ أو التخييليِّ، فهم: فلاسفةٌ وكتَّابٌ، وأعمالهم تزداد أهميةً كلَّما اقتربوا من التجانس ‏البيانيِّ لرؤية العالم؛ أي تجانس أعلى قدرٍ من الوعي الممكن لدى المجموعة التي يعبِّرون عنها"(9)، ‏لذلك فإنَّ النقد البنيويَّ التكوينيَّ يدرس تلك الأعمال العظيمة التي امتلكت رؤيةً للعالم بدرجةٍ كبيرةٍ من ‏الانسجام مع بنى المجتمع الذهنيّة.‏

فالفاعل الجماعيُّ يحمل على عاتقه مهمَّتين، الأولى هي تملُّك البنى الذهنيَّة للجماعة الاجتماعيَّة، ‏ووعيها وعيًا تامًّا، والثانية المقدرة على نقل هذه البنى وتحويلها إلى رؤيةٍ للعالم من خلال إبداعه ‏الأدبيِّ والفلسفيِّ، وبذلك، يحقِّق الفاعل الجماعيُّ الانسجام بينه وبين الجماعة بوصفه فردًا، ويحقِّق ‏الانسجام بين البنية الذهنية ورؤية العالم التي تنشدها الجماعة الاجتماعيَّة.‏

‏5- البنى الذهنيّة:‏

أشار "لوكاتش" إلى مصطلح (القيم الأصيلة) وهي القيم "التي تنظم بصورةٍ ضمنيةٍ مجموع عالم ‏الرواية دون أن يكون حضورها فيه واضحًا"(10) بحسب تعبير "لوكاتش" نفسه، وهو ما سمَّاه ‏‏"غولدمان" فيما بعد "البنى الذهنيَّة"، التي يكون حضورها أيضًا غير صريحٍ في العمل الأدبيِّ، فهي ‏تشكِّل المحتوى الذي يعمل الفاعل الجماعيُّ على صياغة شكله من خلال اللغة والخيال، معبِّرًا عن ‏التماسك بين تلك البنى من خلال المستويات الشعريَّة التي تخلق النَّص الأدبيَّ، وتبثُّ هذه البنى في ‏لاوعيها، فالفاعل الجماعيُّ الذي يرتبط بالواقع الاجتماعيِّ ويعبِّر عنه، لا يكون تعبيره مباشرًا عن ‏هذا الواقع، بل عبر البنى الذهنيَّة التي لا يمكن أن تكون فرديةً لسببين؛ أوَّلهما لأنَّ التجربة الفرديَّة لا ‏تعبِّر عن التنوُّع الفكريِّ والثقافيِّ والاجتماعيِّ للمجتمع بأكمله، ولأنَّ البنى الذهنيَّة ثانيًا تحتاج إلى ‏فترةٍ زمنيةٍ ممتدةٍ ليتمَّ بلورتها بشكلٍ واضحٍ؛ لأنَّ الواقع الاجتماعيَّ يتَّسم بالديناميكية المستمرة، إذًا ‏‏"ليست هذه البنيات الذهنيَّة ظواهر فردية، بل ظواهر اجتماعيَّة"(11)؛ بمعنى أنَّها لا تتعلَّق بما هو ‏فردانيٌّ محضٌ على الإطلاق، لكنَّها تتعلَّق بالجماعيِّ المتمثِّل ببنى المجتمع الذهنيَّة التي يمكن وصفها ‏بأنَّها خارجةٌ عن الذات، ومتغلغلةٌ فيها معًا.‏

ويمكن لنا هنا أن نتساءل: هل يغيب الفرديُّ عن الجماعيِّ في لحظة الإبداع؟ بالتأكيد لا يمكن أن ‏ينسلخ الفرديُّ عن الجماعيِّ؛ لأنَّ "بنيات عالم العمل الأدبيِّ مماثلةٌ للبنيات العقلية لبعض المجموعات ‏الاجتماعيَّة، أو أنَّها في علاقةٍ عقليةٍ معها، في حين أنَّها على صعيد المحتوى؛ أي صعيد إبداع ‏العوالم الخياليَّة المحكومة بهذه البنيات، حريةٌ كاملةٌ للكاتب"(12)، فهذه البنى لا تفرض نفسها بشكلٍ ‏كاملٍ ومعيقٍ على الفاعل الجماعيِّ، بل تترك للمبدع حرية التعبير من خلال لغته ومشاعره ‏وانفعالاته، ولكن تبقى البنى الذهنية حاضرةً في عمليةٍ جدليةٍ، وبذلك يبقى النَّص الأدبيُّ محتفظًا ‏بجماليّته، ورؤيته للعالم الاجتماعيِّ معًا.‏

‏6- رؤية العالم:‏

لا يمكن تقديم رؤيةٍ للعالم في فترةٍ تاريخيةٍ محايثةٍ؛ لأنَّ البنى الذهنية ما تزال في حالة تشكُّلٍ على ‏المستوى الجماعيِّ، لذلك فإنَّنا نبحث عن هذه الرؤية في الأعمال الأدبيَّة والفنيَّة التي استقرَّت زمنيًّا ‏في مرحلةٍ تاريخيةٍ؛ "إذ ليس ثمَّة في المجال الإنسانيِّ واقعٌ ثابتٌ ومعطى، مرَّة وإلى الأبد... إنَّ ‏جوهر الواقع الإنسانيِّ هو نفسه جوهرٌ حركيٌ، ومتغيِّرٌ عبر التاريخ، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ هذا ‏التغيُّر هو بدرجاتٍ متفاوتةٍ بالطبع عمل جميع الناس"(13)، فكلُّ ما يتعلَّق بالإنسان وعلومه يتَّصف ‏بالتغيُّر والصيرورة؛ لأنَّ خط الزمن ممتدٌ، ولا يمكن إيقافه، فعندما نقوم بدراسة الأعمال الأدبية في ‏فترةٍ زمنيةٍ مستقرةٍ يمكننا رصد هذه التغيرات التي أخذت شكلها النهائيَّ، فالفرد نفسه يبقى في حالةٍ ‏من التقلبات على الأصعدة النفسيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، ممَّا يؤثِّر في البنى الذهنيَّة للمجتمع، فوعي ‏الفرد يشكِّل جزءًا من الوعي الجماعيِّ، إضافةً إلى أنَّه كلَّما اتسعت الدائرة من الفرديِّ إلى الجماعيِّ ‏أخذ التغيُّر طابع البطء، باستثناء بعض المنعطفات التاريخيَّة التي لا يمكننا إلَّا أن نقف عندها مليًّا، ‏لأنَّها ما كانت إلا نتيجة التغيرات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة الحادَّة، ممَّا ينعكس على رؤية ‏العالم في الأعمال الأدبيَّة للفاعل الجماعيِّ صاحب الإبداع.‏

فرؤية العالم "بالتَّحديد هذا المجموع من التطلُّعات والأحاسيس والأفكار التي توحِّد أعضاء مجموعةٍ ‏معيّنةٍ، وفي الأغلب طبقة اجتماعية، وتجعلهم في تعارضٍ مع المجموعات الأخرى"(14)، وبذلك ‏نصل إلى نتيجةٍ منهجيةٍ تتحكَّم بالعمل الأدبيِّ، تتمثَّل برؤية العالم المنسجمة، التي تحمل صفة ‏الشمولية، فهذه التطلعات والأحاسيس والأفكار التي أشار إليها "غولدمان" مهما كانت ذاتيةً، إلَّا أنَّ لها ‏بعدها الاجتماعي؛ لأنَّها تجمع الأفراد الذين يعانون مشاكل وظروفًا واحدةً، وهذا ما يجعلهم في ‏الغالب فئةً واحدةً، هذه الفئة في حالة صراعٍ وجوديٍّ اجتماعيٍّ دائمٍ مع الفئات الأخرى التي تمتلك ‏هي الأخرى رؤيةً للعالم مختزنةً في بناها الذهنيَّة، تترقب فاعلًا جماعيًّا موهوبًا، يرفعها إلى مستوى ‏الرؤية التي تعبِّر عن طموح أفراد المجتمع جميعًا.‏

 

‏* الهوامش:‏

‏(1) جمال شحيد، في البنيوية التركيبية، دراسة في منهج لوسيان غولدمان، دار ابن رشد للطباعة والنشر، ‏بيروت، ط1، 1982م، ص76.‏

‏(2) لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، تر: بدرالدين عرودكي، دار الحوار للنشر والتوزيع، ‏سوريا- اللاذقية، ط1، 1993م، ص229.‏

‏(3) جان بياجيه، الأبستمولوجيا التكوينية، تر: السيد نفادي، دار التكوين، دمشق، 2004م، ص25.‏

‏(4) لوسيان غولدمان، المنهجية في علم الاجتماع الأدبي، تر: مصطفى المسناوي، دار الحداثة، بيروت- لبنان، ‏ط1، 1981م، ص14.‏

‏(5) المرجع السابق، ص17.‏

‏(6) جمال شحيد، في البنيوية التركيبية، ‏ص40.‏

‏(7) المرجع السابق، ‏ص22.‏

‏(8) جورج لوكاتش، معنى الواقعية المعاصرة، تر: أمين العيوطي، دار المعارف، مصر، 1971م، ص68.‏

‏(9) لوسيان غولدمان، ‏ الإله الخفي، تر: زبيدة القاضي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة ‏الثقافة، دمشق، 2010م، ص41.‏

‏(10) ‏ لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، ‏ص14.‏

‏(11) لوسيان غولدمان وآخرون، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، راجع الترجمة: محمد سبيلا، مؤسسة ‏الأبحاث العربية، بيروت-لبنان، ط1، 1984م، ص45.‏

‏(12) لوسيان غولدمان، ‏ الإله الخفي، ‏ص12.‏

‏(13) لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، ‏ص197.‏

‏(14) لوسيان غولدمان، العلوم الإنسانية والفلسفة، تر: يوسف الأنطكي، مراجعة: محمد برادة، المجلس الأعلى ‏للثقافة، 1996م، ص17.‏