صباح شتوي غائم إلى عزت القمحاوي

نص: هشام بنشاوي

كاتب مغربي

 

 

تتوقف –برهة- عند قمّة الدَّرج، تحكم إغلاق الزّر العلوي لـ"الجاكيت" الجلدي الأسود، ويدك ‏متشبّثة بحقيبتك الجلدية الصغيرة، ترنو إلى السماء المتجهمة، الملبّدة بالغيوم، تسفع الريح الشتويّة ‏وجهك، وتتغلغل في مسام نصفك السفلي، تداهمك رغبة عارمة في أن تعاتب هذه المدينة -التي ‏سكنت دمك منذ ربع قرن- على هذا الاستقبال القاسي.‏

لم تحاول معرفة التوقيت، في تلك اللحظة؛ لا تثق في الهاتف الجوال، أثناء عبور السماء، فهو ‏يلعب مع خطوط الطول والعرض، ويتأرجح بين شبكات شركات الجوال الأخرى.. وغيوم الشتاء ‏تخدع المرء في النهارات القصيرة، لا تستطيع أن تميز الوقت إن كان ظهرًا أو عصرًا.. لا يهم، ‏يكفي أنك تستنشق هواء مدينة أحببتها قبل أن تراها، والريح تعوي في أسى، وهي تكنس بقايا ‏الشتاء، حتى تفسح مكانًا لربيع خجول، يحبو على استحياء، تدرك في تلك اللحظة، أنَّ مدينتك ما ‏زالت تغط في السبات، والأب يتثاءب، ينفض عنه عباءة ليل طويل، مثل ليل امرئ القيس، ‏وينتظر أذان الصبح، بينما أصدقاؤك الأدباء يمرحون في مقهى "ريش".‏

إنها لعبة الجغرافيا الأثيرة، مع غريمها المشاكس: الزمن.‏

بالأمس، فقط، تخلّيتَ عن ملابسك الشتوية، اكتفيت بــ"التي شيرت" وسروال الجينز الأسود ‏اللامع، وأنت تتجوّل في شوارع الخرطوم. تأنس إلى هذه المدينة الأليفة، وأهاليها الطيبة قلوبهم، ‏وتشفق على فقر العاصمة، حين تتوغل في شوارعها الخلفيّة، وأنت ترمق الغبار الطيني، يعلو ‏بناياتها، وأشجارها. فيما بعد، ستدرك، بأنك مدين بسياحتك الأدبية لتلك المدينة القريبة/ البعيدة، ‏التي استوطنت شغاف القلب، مثل ذلك الحزن المقيم، الذي ذقت طعمه مبكرًا، فشهقت بالبكاء قبل ‏الأوان. ‏

أليس غريبًا أن تجاهد هذا الحنين، المخضّب بالنشيج المؤجل، منذ عشر سنوات؟ منذ أيام، وأنت ‏تحاول أن تدجّن حنينك القروي، المتّشح بعباءة الغياب، المتوغل في ليل الفجيعة، تقاوم مخاض ‏هذا النص الهارب، تتوكأ على يتم قلبك الأزلي، وشجنه الأبدي الشفيف، تمازح أصدقاءك، تسخر ‏من تفاهة اليومي، الموغل في نثريّته الفجّة والرديئة، كانت تلك الأيقونات الضاحكة، المتناثرة ‏هنا وهناك تشبه ضحكًا كالبكاء. ‏

يتواطأ الموّال الأمازيغي النازف لوعة، الذي تدمنه في لحظات الكتابة، على الرغم من أنك لا ‏تفقه كلماته، لكن تحس أنك تتلاشى، تتفتت... على إيقاع هذا "التماويت"، الذي يدلقك في درب ‏النهايات؛ تتخيّل نفسك ورقة يابسة، ذرة غبار، تذروها ريح "شرقي" صيفية، تحت سفح جبل ‏مهجور، ذات قيظ...‏

تحاول أن تجاهد الدمع، وأنت تكتب مسودة هذا النص، لكنه يطفر من عينيك، وأناملك تداعب ‏شاشة اللوح الإلكتروني، فتسارع إلى محو معالم هذا الضعف الإنساني. إحساس فادح باليتم، ‏يندلع في أعماقك، على إيقاع هذا الموال الأمازيغي، تفحم في البكاء، وأنت لا تعرف لم تتهاطل ‏من مخيلتك، في هذه اللحظة مشاهد‎:‎‏ ممرات زراعية ترابية، آثار أقدام وحوافر، حقول جرداء، ‏هاجرة ظهيرة، تجاعيد غائرة في وجوه سفعتها الشمس؟ لماذا نلوذ بالذاكرة الخؤون تحت وطأة ‏الزمن؟ لماذا يراودك هذا الحنين القروي، الذي بدأ يستفحل، مثل خلايا سرطان خبيث، كلما ‏تقدمت في السن، فرحت تستعيد قريتك البعيدة، طفولتك الهاربة في نصوص يوسف أبو رية، ‏وسعيد الكفراوي؟

قبل ربع قرن، كان أصدقائي الشعراء يتحدثون، بشغف، عن قصائد سيف الرحبي، أمجد ناصر، ‏وآخرين، كانوا يرمقونني بريبة، حين أتفوّه وجلًا باسم: أسامة أنور عكاشة، أسمع ولا أسمع ‏تعاليقهم الهازئة... ‏

لم أكن متفوقًا في مادة اللغة العربية، لكن محبّة الأدب، كانت السبب في رسوبي في الدراسة... ‏في الصف الثانوي، عثرت في درج طاولتي على ورقة شبه مدعوكة، كتبت في حصة درس ‏المؤلفات، لفت انتباهي اسم بطل رواية "بداية ونهاية" حسن، في الوقت نفسه، كان التلفزيون ‏المغربي يعرض حلقات مسلسل "أرابيسك". اشتريت رواية نجيب محفوظ، لأنني اعتقدت أنَّ ثمّة ‏صلة ما بين الرواية والمسلسل، وسوف أحتاج إلى سنوات، لكي أدرك أنني لم أكن مخطئًا في ‏ذلك التصوُّر! ‏

هل كنت أحتاج إلى عشر سنوات، لكي أروّض هذا النص القديم؟ هل كنت مشغولًا بترميم ‏خرائبي الداخلية، أم كنت أعيش طفولتي بأثر رجعي؟

لم أكن أريد زيارة الأهرام، مثل سائح مبهور‎!‎‏ فقط، كنت أريد مقابلة محمد البساطي، كنت أريد ‏التسكع في تلك الحواري، التي فتنت نجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة، كنت مسكونًا بسطوة ‏تلك الألفة الغامضة للمكان، التي ترتسم بشاشةً ورضا على وجوه البسطاء، تتذكر جيرانك، الذين ‏صرت تتفادى رؤيتهم قدر الإمكان.. بعد صلاة الصبح، يتبادلون دعاباتهم في همس بليد، تحاول ‏أن تتجاهل وجوههم الكالحة، المسلّحة بذلك التجهُّم الأبدي. أنت في نظرهم شخص غير جدير ‏بالتحية، لهذا تنظر إليهم في ازدراء. تعتبرهم جزءًا من هذه الرداءة السمجة، التي تحاصرك من ‏كل الجهات. تتساءل بينك وبين نفسك: هل خدعنا أسامة بحميميّة شخوصه، ونبلهم النادر؟ ‏

في انتظار وصول طائرة الدار البيضاء، لاح مطار القاهرة، مثل أي مطار، بلا روح.. كنت ‏تتجول في أرجائه، مثل شبح، وأنت غير قادر على مغادرته.. تلعن من ابتكر الحدود، وتغبط ‏العصافير على قدرتها على عبور السماوات، دون أن يعترض سبيلها أحد، ودون حاجة إلى ‏جواز سفر.‏

انتفض قلبي، تذكرت طفولتي البعيدة، التي تداهمني كلما شممت رائحة أوراق شجرة التين ‏المميزة، جرفني إحساس مريع بالفقدان، على الرغم من أنني درَّبت قلبي على الفراق مبكرًا.. ‏قلت لنفسي: "يستطيع السودانيون دخول الأراضي المصرية من دون تأشيرة"، ومثل صرخة ‏مكتومة، تمطط في أعماقي سؤال عاق: "لماذا، نحن المغاربة، لا يمكننا ذلك!؟".‏

القاهرة...‏

تبدو لك مثل حبيبة نائية، تزهد في حبك، وتمعن في الصد، وترتمي في أحضان الآخرين. ‏يجتاحك إحساس فادح بالغربة، وذاكرتك البصرية المعطوبة لا تسعفك، لهذا يغيب وصف المكان ‏دومًا في نصوصك، لأنك تنسى التفاصيل بسرعة..‏

‏"الناس يمضون سراعَا

لا يحفلون ‏

أشباحهم تمضي تباعَا

لا ينظرون"(*).‏

تقف خلف الزجاج السميك، تسدد عدسة الهاتف المحمول، صوب اللّاشيء، متشحًا بعباءة حزن ‏جليل. خلف الزجاج، يكفن الأشياء ضباب مبهم، كأنه أسى أبدي، يحجب كل شيء، ذات صباح ‏شتوي، بعيد.. بعيد جدًا، ومع ذلك تحس كأنَّ ذلك حدث بالأمس فقط. قلت لنفسي مواسيًا: "نعم أنا ‏مشتاق وعندي لوعة"؛ لوعة لم أفلح في مداراتها، ومن فرط ما خذلني الحب، عصف حزن بهيم ‏بالفؤاد، انداحت من الأعماق آهة ملتاثة، وامتلأت عيناي بدموع، كانت مخبّأة في صدري.. في ‏‏"خابية الفجيعة".‏

‏- - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) مقطع من قصيدة "الطريق إلى السيدة"، أحمد عبدالمعطي حجازي.‏