الشاعرة العُمانيّة عائشة السيفي: ‏ القصيدةُ هي ذاكرة التفاصيل التي لا أريد لها أن تغادر

حاورها: جعفر العقيلي

كاتب أردني

 

 

تكتب عائشة السيفي الشعر ضمن إيقاع تفعيلي لا يقيّد فضاء الحرية والحلم. تحتشد قصائدها ‏بالرؤى والتشكيلات والتعابير الصوفية، وتمسك بتفاصيل الحياة اليومية وتكشف المستور في ‏الذات المنطوية على نفسها. أمّا في مقالاتها فهي تشتبك مع الراهن، وتكتب بجرأة حول ‏مسائل مجتمعيّة ملحّة، وهي ترى أنَّ هذه الكتابة مرآة لهواجسها وتفرِيغ صادق للقلقِ الذي ‏تمتصّه من القضايا اليوميّة التي تلامسها وهي في الشّارع تتقاسم الحياة بضيقها واتّساعها مع ‏آخرين لا يملكون قدرة الكتابة.‏

 

 

 

وُلدت الشاعرة العُمانية عائشة السيفي عام 1987، درست الهندسة المدنية في جامعة ‏السلطان قابوس وتخرجت فيها عام 2010، ثم عملت في مجال اختصاصها وأدارت ‏شركة استشارات هندسية هولندية في عُمان قبل أن تسافر إلى لندن لتواصل دراستها ‏العليا في الهندسة.‏

أشرفت السيفي على مختبر الشعر ببيت الزبير في مسقط، وكان لها عمود ثقافي يُنشر كل ‏يوم أربعاء في صحيفة "الوطن" العُمانية (2006-2010)، وأعدّت لإذاعة السلطنة ‏برنامجًا ثقافيًا بعنوان "مرافئ شعرية" (2007) التقت فيه بعدد من التجارب الشعرية ‏البارزة في الوطن العربي.‏

نالت السيفي جوائز في المسابقات الجامعية ومن وزارة التراث والثقافة والمنتدى الأدبي ‏ومهرجان الشعر العُماني السادس، وهي عضو في جمعية الكتاب والأدباء العُمانيين، ‏وجماعة الخليل للأدب.‏

صدر لها ثلاث مجموعات شعرية هي: "البحر يبدل قمصانه" (2014)، و"أحلام البنت ‏العاشرة" (2016)، و"لا أحبّ أبي" (2017).‏

تاليًا حوار مع السيفي عن رؤاها وتصوراتها، وموقفها من التفعيلة والوزن، ودور العائلة ‏في صقل تجربتها، والتجسير بين الشكل التقليدي والحداثة في الصوغ والتعبير ‏والأسلوب، وعلاقتها بالقارئ، ورسالة الشعر.‏

‎ 

 

تحتشد قصائدك بالرؤى والتشكيلات والتعابير الصوفية، خصوصًا ذات الصبغة الحلّاجية، ‏ما مدلولات هذا التوجّه، وما الذي يمثّله الحلّاج لك؟

‏-‏ الحلّاج وآخرون نافذة للجمال أركن إليها بوعيٍ ودون وعي ثمّ أراها بطريقةٍ ما عالقةً كرائحةٍ ‏جميلة في نصوصي.. حضوره كحضور شجرة السفرجل التي تتوسط بيتنا.. أقف أتأمّلها ‏لساعات ثمّ أرى أثر رائحتها في قصيدةٍ ما. حضوره كأثر كوبِ شايٍ بالقرفة شممته في ‏مقهى عابر لا أتذكّره. فتنت بالحلّاجِ أيّام الجامعةِ وما أزال.. إنّ لديهِ قدرةً هائلةً في أن يبدو ‏غير مرئيٍ ولكنْ مرئيّ في آن.. أن يحيط بك دون أن تحيط بهِ.. أن يكون خفيفًا بشكلٍ هائلٍ ‏ولكن متجليًا في كلّ كلمة من قصائدهِ.. تشعر أنّه كان يعرف نهايته وأنه متصالحٌ تمامًا معها.‏

 

يقول الشاعر سيف الرحبي إنك تكتبين الشعر ضمن إيقاع تفعيلي لا يقيّد فضاء الحرية ‏والحلم، بل هناك سعيٌ يبتعد عن قسْر الوزن وإكراه القافية. هل ترين أنَّ الوزن والقافية ‏ما زالا معيارًا للقصيدة؟

‏-‏ لا أعرف ما معيار القصيدة سوى أنّك حين تقرؤها تعرف أنّها قصيدة.. القصيدة الجميلة لا ‏تحتاج معايير لتقول حين تقرؤها: "الله!". دعني أستحضر في ذلك ما قاله لي يومًا الشاعر ‏العراقيّ عدنان الصّائغ حين قرأ لي مجموعتي الأخيرة: "اسمعي.. أنا لست ناقدًا ولا أجيد ‏تحليل النصّ.. أعرف فقط حين أقرأ شعرًا حقيقيًا أن أقول إنّه شعر.. يكفي ذلك". ‏

ودعني أيضًا أقول شيئًا آخر؛ نحن شعوبٌ موسيقيّة بالفطرة.. منذ الأغاني الأولى التي ‏تحرسنا بها الأمهات في المهد.. والأناشيد التي نرددها في الحواري، وتلك التي تكبرُ معنا في ‏المدرسة.. إنّها مغموسة تمامًا في الذاكرة البعيدة وبالتالي فليس من السّهل أن ننسحب من ‏الوزن والقافية. ‏

أُسألُ كثيرًا إنْ كنت سأجرّب كتابة قصيدة النّثر وهذا السؤال يدهشني.. على القصيدة حين ‏تولد ألّا تحدث بنيّة مسبّقة في تحديد شكلها وصيغتها. القصيدة تخرج حرّة من التصنيف. من ‏أجل ذلك فإنّ تجربة الوزن والقافية ما تزال مساحةً خصبةً أستمتع بها لأنّ نصوصي تخرج ‏موزونة بطبيعتها الفطريّة دون أن أُكْرِهَ الوزنَ عليها.‏

نحن نقرأ قصائد شعراء عالميين مترجمةً دون وزن، وقد تكون في طبيعتها الأولى موزونة، ‏ومع ذلك فإن متعتنا بها مدهشة، واحتفاءَنا بها عالٍ، وربّما أعلى من احتفائنا بالقصائد ‏الموزونة.. هناك شعراء نثر عرب يرفعون سقف توقّعاتك كشاعر. إنّك تقلق من أن تُقْدِم ‏على التجربة النثريّة بدهشةٍ أقلّ من تلك التي يغمرونك بها. تصبح أكثر حذرًا وأكثر انتقائيةً ‏وأنت تقرأ للدهشة التي يغمرونك بها وأنت برفقةِ نصوصهم. عندما تكتب قصيدة النّثر عليك ‏أن تكون قارئًا شرسًا وناقدًا أكثر شراسةً لنصّك.‏

 

يقول الناقد حسونة المصباحي إنَّ قصيدتك تمسك بتفاصيل الحياة اليومية، وتكشف ‏المستور في الذات المنطوية على نفسها. متى تكون القصيدةُ ابنةَ الحياة و"فضّاحة" من ‏غير مواربة؟

‏-‏ عندما تبلغ بك الحساسيةُ تجاه الأشياءِ أن تقضي يومًا وأنت تتأمّل صنبورًا صَدِئًا أو ورقةَ ‏شجرةٍ متآكِلةً أو تُبكيك فردةُ حذاءٍ على الشّارع تفكّر في حكاية مَن تركها. ‏

عندما تؤلِمُك ليومينِ، ندبةٌ غائرةٌ لمَحْتَها في وجهِ بائعٍ في الشّارع.. تفكّر في حكايةِ وأثرِ ‏بقائها في حياتهِ للأبد.‏

عندما تتأمّل النقوش على كوبِ شايِك وتفكّر فيما حدث لليدِ التي خطّت هذه التعرّجات خَطًّا ‏خَطًّا.‏

التفاصيل التي لا تعني أحدًا سوى الشّاعر الذي يعيش ملتقطًا كلّ ما يخلفه الآخرون.. وكلّ ما ‏لا يعني أحدًا.‏

عندما تقضي ثلاثَ ليالٍ وأنت تفكّر في آيةٍ قرأتَها قبل أيّام دون أن تتركك للحظةٍ واحدة.‏

القصيدة عندي هي ذاكرة التفاصيل التي لا أريد لها أن تغادر. وهذا متعبٌ جدًا. كيف للشاعرِ ‏أن يتخلّص من حساسيتهِ المفرطة تجاه الأشياء؟

 

يرى نقاد أن قصائدك أغنيات تفيض بالشجن الذي يذكّر بشجن السياب وكذلك درويش في ‏قصائده الخريفيّة. كيف تعيشين هذه التجربة وتختبرين الخريف وأنت ما تزالين في ‏‏"ربيع الحياة"؟‏

‏-‏ أعتقد أنّ لدى الشّاعرِ قدرة على القفزِ على تجربته العمريّة لأنّه مدرّبٌ على اختصارِ ‏الأشياء.. اختصار المشاهِد واختصار التفاصيل، واختصار الأحداث، والبشر..‏

لمْ يحتج أجود مجبل أن يقول الكثير ليصف "داخِل حسن" كمْ كان مضيئًا:‏

‏"هل سيكفيهِ أنّ شمسًا أحبّته... لديها من ليلهِ أضواءُ؟!".‏

أو البؤس في أجَلِّ صُوَرهِ كما تصفه كاتيا راسم: ‏

‏"تعالي ولو بيدكِ السّكين أيّتها النهاية!".‏

أو توحّش الرغبة على طريقةِ ميسون الإريانيّ:‏

‏"أريد أن أقتلك حتى آخرِ العالم

حتى آخرِ سحليّة تنقرض

وآخر فستانٍ يجلب الضّجر".‏

نحن نعيش مراتٍ كثيرة ونموت مرّاتٍ أكثر.. هذه القدرة الهائلة على الانبعاث على هيئة ‏مشاعر وصور وحيَوات وأناس وجمادات، تمنحنا القدرة على القفزِ على تواريخ ميلادنا إلى ‏أعمارٍ أخرى.. أكبر منّا أو أصغر.‏

 

واجهتِ سلطة العائلة حينما حاولتْ منعك عن ممارسة الكتابة/ الحلم. من زوّدكِ بالقوة ‏الكافية للمواجهة، وكيف تنظرين الآن إلى ما حدث؟ لو رضختِ حينها؛ أين كنتِ ستكونين ‏الآن؟

‏-‏ لم أكنْ لأواصل تجربة التشكّل الشعريّ هذه دون مساندة عائلتي. غير أنني أعترف أنّ خروج ‏شاعرةٍ من عائلة محافظةٍ من قلبِ "نزوى" تريد للعالم أن يسمع صوت قصائدها، كان صادمًا ‏لهم ولآخرين.‏

أكثرهم كان والدي، الذي ضحك في المرةِ الأولى التي قلت له فيها إنني أكتب الشعر وأنشدت ‏له قصيدةً في مديح القبيلة رغبةً في اجتذابِ اهتمامه. كان ذلك أيّام دراستي الابتدائيّة ولم يكن ‏يخطر في باله -وفي بالي أيضًا- أنني سأواصل هذه الرّحلة الشاقة. حين بدأتُ المشاركة في ‏المسابقاتِ الشعريّة والأماسي والخروج العلنيّ كشاعرة لم أكنْ أدرك أنّ الأمر يحتاج استعدادًا ‏أُسَريًا وقد انطلقتُ بحريّة المناضلة من أجلِ حقّي الفطري في أن أكون ما أريد أن أكون. ‏واحتاج الأمر سنواتٍ ليتقبّل والدي واقعَ الأمر وليدرك ما يعنيه الشّعر لي. لكنّ ذلك لم يكنْ ‏ليَحدُث لولا إيمان عائلتي بجديّة أثرِ الشّعر في حياتي وبأنّ كتابته ليستْ نزوةً عابرة أو حلمًا ‏سريع التلاشي. لقد ساندوني حين تخلّى عني كثيرون، وحموني حين اتُّهِمَتْ نصوصي ‏بالفضائحيّة وقلّةِ الحياء، وكانوا ظهرًا وعونًا لي، وفي كثيرٍ من الأحيانِ أشفقت عليهم لأنّ ‏عليهم تبرير ما لمْ يقترفوه للآخرين، ربّما ليس عنِ اقتناعٍ منهم، ولكنْ لأنّهم يعرفون ابنتهم ‏أكثر من أيّ شخصٍ آخر.. يعرفون رسالتي، بجمالها وعواقبها وبسعادتها وآلامها.‏

 

تكتبين العمودي والتفعيلة. متى تختارين هذا النمط أو ذاك. وكيف تنجحين في التجسير ‏بين الشكل التقليدي والحداثة في الصوغ والتعبير والأسلوب، وهو ما يعني النأي عن ‏النظْم قبل أيّ شيء آخر؟ ‏

‏-‏ بدأتُ بالعمودي، ثمّ تركتُه لسنوات قبل أن أعود إليه مؤخرًا. كلّ ذلك يحدث دون اختيارٍ مني. ‏إنّها اللحظة الشعريّة التي تبدأ ببيتِ شعرٍ أو بمقطعِ قصيدة تفعيلة. لكنْ دعني أقول إنّ القصيدة ‏العموديّة أصعب كثيرًا.. أصعب في بلوغِ الدهشة من حيث المساحة التعبيرية من قصيدة ‏التفعيلة. لكنني حادّةٌ في استبعاد ما لا أحبّ.. أعني أنّ علَيّ أن أندهش حتّى أقرر نشر قصيدةٍ ‏عموديّة لي. ويحدث كثيرًا أن أترك نصًا لأعوام لأنّه لا يدهشني ولا يقنعني لأنشره.‏

كما إنّ تجارب شعريّة تكتب العمود تجعلني أكثر حذرًا فيما أكتب. إنّهم رائعون في جعلِ هذا ‏النصّ المحكوم بالصدرِ والعجزِ حُرًّا ومتجلّيًا وواسعًا لغويًا دون أن تشعر بإكراهِ القافيةِ عليه.‏

 

تؤثّثين نصّك الشعري بتشكيلات من النص الديني، إلى جانب الإحالات إلى المدونة ‏الصوفية، والتعالقات مع الأسطورة.. ما الذي تبغينه من التفاعل مع التراث؟ وإلى أيّ حدّ ‏يمكن الاشتباك معه وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بمسافة كافية عنه لنراه بوضوح؟

‏-‏ أنا مفتونة بالنصّ القرآني عمومًا. أستطيع أن أقضي أيامًا وأنا أفكّر في جمال آيةٍ واحدة. في ‏السّيارة، بين أطفالي، وأنا في حديقة منزلي لا أنفكّ أفكّر في عمقها ومدلولاتها. لا يمكن ‏لشاعرٍ يقدّر الجمال ألّا يُفتَن بالنصّ القرآني بعيدًا عن مرجعيّته الدينيّة. النظر إلى النصّ ‏القرآني كنصٍّ جميل هو مساحة تفكّر خصبة لشاعرٍ يقدّر الجمال والسياقات الفنيّة واللغة ‏المعجِزة.‏

أمّا التعالق مع الصوفيّة فهو مساحة تجريبيّة، ولكنني لا أستطيع ادّعاءها. ما أزال أبني ثقافتي ‏ووعيي بها مع الوقت وإن حضرتْ أحيانًا في نصوصي. يساعدني في ذلك اشتغال مجموعة ‏مجتهدة من الشّعراء العُمانيين على تجربة السّفر الروحي في الشّعر والتّصوف ورفع مستوى ‏وعي الجماهير -وأنا منهم- بهذهِ المدرسة الخصبة شعرًا وروحًا.‏

 

تراهنين على القوّة الجمالية التي تتمتّع بها قصائدك، وعلى تحقّق الغنائية التي تحفز ‏القارئ لتأمّل الموسيقى والاستجابة لنداء الرومانسية. هل تكتبين وأنت تفكرين بالقارئ ‏لحظة الشرارة؟

‏-‏ أوه لا.. مطْلقًا! أنا لا أفكّر مطْلقًا حين تحْدُثُ القصيدة. كيف أجبر وعيي على القفزِ على ‏اللاوعي والقصيدة تشكّل لحظتَها ملامحَها الأولى؟

أنا أفكّر في القارئ حين تنسحب اللحظة الشعريّة وأتأمل القصيدة تأمُّلَ الغريب، وأخاف منه ‏أحيانًا إلى حدّ أنّ عدمَ اقتناعي بكلمة واحدة في النصّ قد يقود إلى امتناعي عن نشرهِ حتّى ‏يجيزه القارئ داخلي.‏

الأمر يصبح أكثر تعقيدًا حين تقرر نشرَ النصّ في كتاب.. النشر هو تجربة محمومة لديّ. إنّه ‏يصيبني بكلّ حالات الفوبيا التي تتخيّلها. أن تترك قاربك يبحر من الشاطئ وأنت تعرف أنّه ‏لن يعود. تترك نصّك للقارئ والنّاقد وأنت تدرك ألّا مجال لاسترداده. ذلك حتمًا هو الهاجس ‏الذي يعنيه القارئ لي.‏

‏ ‏

في بعض قصائدك تلاقُحٌ بين الفصيح والعامية، وتوظيفٌ للأدب الشعبي أيضًا. متى ‏تستعينين بالعامية، وكيف يمكن توظيف العامية بما لا يُخلّ بالمستوى الفني للنص؟ ‏

‏-‏ ربّما لو سألتَني هذا السؤال قبل سنوات لأجبتك بشكلٍ مختلف.. من الصّعب جدًا توظيف ‏العاميّة في نصّ فصيح دون أن يخلّ بانسيابيته. حتّى إنني اليوم أنظر إلى نصوصٍ دمجتُ ‏فيها بين الفصيحِ والعاميّة -قليلةٍ جدًا على أيّ حال- وأفكّر: "أوف! لقد كان خطأً مريعًا!".‏

على الشّاعر، إن أراد تضمين العاميّة بوعيٍ، ألّا يفعل ذلك إلا ليثري النصّ، وعليهِ أن يمتلك ‏رؤيةً واضحةً ورسالةً مهمّة في تضمينه له. دون ذلك فإنّ ما سيقوم به محض عبث أو ‏تجربة عابرة دون أثر.‏

 

هل يكفي الجمال والاحتفاء به لنضع التراب على الوجه البشع للحرب؟ هل يكون الشعر ‏بوصفه جمالًا، خلاصًا في زمن الحرب؟

‏- لا أراه خلاصًا، فهو لا يعيد الموتى، ولا يبني سقوف البيوتِ الخائرةِ ولا يفتح مدرسةً ‏أغلقت أبوابها أو هدّمت جدرانها. لكنّه حتمًا قادرٌ على رتقِ وجعِ قلب أو تكريمِ راحلٍ لا ‏يتذكّره أحد. إنّه الوردة التي تكسر حصار الصّحراء. كلّ شيءٍ بشعٌ في الحرب. الألم بشعٌ ‏كذلك.. ولكنّ قدَرَ الشّعر أن يخرج من تلك العصارة ومن وسطِ الدّموع والاحتراق. ما بوسعنا ‏أن نفعل إزاء كلّ هذا القبح الذي تخلّفه الحرب سوى الاحتفاء بقصيدة جميلة لن تعيد حيًّا، ولنْ ‏تعيل أسرةً، ولكنْ ستذكّرنا دائمًا بأنّ على الحياةِ أن تمضي كما يراد لها، وتذكّرنا بمهمّتنا ‏كشعراء أنْ نقول للعالمِ إننا القادرون على أنّ نصنع من قبحِك شيئًا جميلًا يُنعش انكسار قلبٍ ‏وحيدٍ في هذا العالم.‏

 

أنتِ من منطقة نزوى العُمانية؛ حيث التاريخ والميثولوجيا والطبيعة البكْر؛ وعشتِ في ‏العاصمة مسقط، ولك تجربة في الإقامة بهولندا، ثم انتقلتِ إلى لندن للدراسة. هل تحْضُر ‏الأماكن في نصوصك، وهل من نكهةٍ تخصّ كلًّا منها؟ ‏

‏-‏ كلّ مساحةٍ من هذه المدن تمنحنيْ أثرًا مختلفًا عن ذلك الذي تمنحنيْ إيّاه مدينةٌ أخرى. البشر، ‏الشجر، الهواء، الرائحة، التراب، الشّمس، السّحاب.. كلّ شيء.. الوجوه، والأحاديث واللغة. ‏المنظر الصباحي الذي تمنحني إيّاه النافذة حين أستيقظ كلّ يوم. كلّ شيءٍ له نكهته الخاصّة ‏وأثره في نفسي وفي الذّاكرة والقصيدة أيضًا.‏

 

في غمرة الأحداث التي تنشُد الإصلاح والتغيير في المنطقة العربية، تَوارى صوت ‏المثقف، وبدا واضحًا غياب المثقف العضويّ أو النخبة التي تقود الشاعر وتُلهمه. على ‏مَن نلقي باللائمة في هذا؟

‏-‏ شخصيًّا، مع الزّمن أصبحتُ أكثر حذرًا تجاه تصدير صوتي مع قضيّة ضدّ أخرى أو طرفٍ ‏دون آخر. على الأغلب فإنّ رأيك يُحَزَّب ويُحسَب على طرفٍ ما حتّى وإن حاولتَ أن تكون ‏حياديًا. في ظروفٍ كهذهِ تشعر أنّ عليك أن تصمت وتتابع وأنت ترى ما يحدث حولك من ‏الجنون. أن ترى كثيرًا من المثقفين يحترقون وسط الحزبيّة الحاصلة اليوم. التحزّب وراء ‏الحكومات، والأحزاب السياسيّة والتيارات الوطنيّة والدينيّة والمذهبيّة. وفي كثيرٍ من الأحيان ‏تفقد احترامك لهذهِ الأسماء التي تواصل إحراق ما بنته من تجربة تراكميّة في آراء لحظيّة ‏قائمة على مواقف سياسيّة قصيرة المدى قد لا تدرك أثرها وحقيقتها إلّا بعد زمن. مَن يفهم ما ‏يحدث اليوم في منطقة مشتعلة تمامًا بكلّ الأجندات السياسيّة والمذهبيّة والاقتصاديّة المعقّدة؟ ‏من يدّعي فهم الأطراف النزيهة والوصوليّة؟ من يدّعي إدراكه حقيقةَ ما يحدث على الواقعِ ‏أمام ما يُنقل أمام الشاشات؟!‏

يصعب على كثيرٍ منّا فهم ما يحدث.. ومن أجلِ ذلك فإنني لا ألوم المثقفين إذا خفتَ صوتهم ‏وسط الأصوات المتعالية وأمام موجة الفذلكة العامّة التي كرّستها مواقع التواصلِ الاجتماعيّ.‏

أنا لا أفهم لماذا يطالب المثقّف بالخروج من المساحات الإبداعيّة التي هو جيّد فيها إلى ‏أحاديثِ السياسة ومواقف الدّول ودفعهِ دفعًا لتصديرِ آرائه في قضيّة سياسيّةٍ ما؟ أفهم أنّ هذا ‏خيار شخصيّ، ولكنّ فهمنا لرسالتنا في الحياةِ ووضوحنا فيها ضروريّ جدًا لنواصل التركيز ‏على بناء التجربة الإبداعيّة التي انطلقنا منها.‏

 

تشتبكين في مقالاتك مع الراهن، وتكتبين بجرأة حول مسائل مجتمعيّة ملحّة. هل تعتقدين ‏أنَّ الكاتب/ المبدع بمقدوره إحداث التغيير حقًا؟ أم إنّ حَسْبُه أن يحلم!‏

‏-‏ الحلم نفسه قد يكون شرارةً لإحداث التغيير. نعم؛ غَيّر الكثيرون حياتنا بما كتبوا. ألمْ يكنْ ‏جورج أورويل رائيًا حين كتب "1984"، ومعلّمًا محترفًا حين كتب "مزرعة الحيوان"؟!‏

أليس ملهمًا أن تقرأ لجابرييل جارسيا ماركِيز حين يصف أثر الشّعر في مراهقته وكيف كانت ‏حياتهم آنذاك غير متخيَّلة دون حضورِ الشّعر؟ سيخرج بعدها أعظم روائيٍ في الواقعيّة ‏السحريّة كما عرَفَتْه أميركا اللاتينيّة والعالم. ألم يكن ثمّة كاتبٌ ما ألهم كلّ هذه الأسماء ‏العظيمة التي لم تخرج بتجربةٍ هي ابنة يومٍ واحد ولكن بتجربة تراكميّة خلقتها أسماءٌ ملهِمة ‏غيّرت واقع حياتهم.‏

غير أنّنا أيضًا ينبغي ألّا نثقل كتف الكاتبِ بسقف توقُّعاتٍ قصيرةِ المدى للتغيير وسريعة ‏الأثر. إذ إنّ إحداث التغيير على المدى البعيد هو حالة مستمرّة أجدى وأوعى. على المثقّف أن ‏يعمل بصبرٍ على رؤيته وعليه أن يعمل بصبرِ النحّات وبحساسيّةِ المزراعِ تجاه وردة. عليه ‏أن يكون صبورًا وواسع البال ومدركًا إلى أنّ ما كان مرفوضًا بالأمسِ أصبح حالَ اليوم. ‏

 

لك مدوّنة تحمل اسم "حرية بثمن الخبز" تكتبين من خلالها في قضايا سياسية واجتماعية ‏وثقافية، أيّ صدى حقّقته هذه المدوّنة؟

‏-‏ في عُمان تحديدًا، عرفني النّاس كاتبةً في الشأن العام عبر هذهِ المدوّنة أكثر من كوني شاعرة. ‏لقد أتاحتْ لي مساحةً في الكتابة دون رقابةٍ من أحد كتلك التي اختبرتها لأربعة أعوام حين ‏كنت أنشر في الصّحف. اجتذَبت المدوّنة أكثر من مليون ونصف المليون زيارة، وشخصيًا ‏كانتْ مساحة ضروريّة احتجتُ إليها في زمنٍ ما وما أزال. ما أزال بين حينٍ وآخر ألجأ إليها ‏للتنفيسِ عن قلقي وعن شأنٍ ما يتعلّق بوطني يؤرق ذهني.. إنّها مرآة لهواجسي وتفرِيغ ‏صادق للقلقِ الذي أمتصّه من القضايا اليوميّة التي ألامسها وأنا في الشّارع أتقاسم الحياة ‏بضيقها واتّساعها مع آخرين لا يملكون قدرة الكتابة.‏