كتابة تاريخ الأردن...‏ تأمُّلات على أعتاب المئويّة الثانية للدولة

جاءت جهود المؤلِّفين الروّاد الذين كتبوا عن تاريخ الأردن الحديث عبر مبادرات فرديّة محكومة ‏بمحدوديّة المصادر والوثائق المتاحة، ناهيك عن الافتقار إلى منهجيّة أكاديميّة علميّة، وهو الأمر ‏الذي اختلف بعد تأسيس الجامعات والمراكز الأكاديميّة. وهنا يتوجَّب التمييز بين الدراسات ‏الأكاديميّة المنهجيّة وما يُنشر من كتب تحت مسمّى "تاريخ الأردن"، فالمنهجية مطلوبة في كتابة ‏التاريخ؛ بمعنى الاعتماد على المنهج العلمي في التعامل مع المعطيات التاريخيّة التي توفرها ‏المصادر.‏

وإذْ تفتح هيئة تحرير مجلة "أفكار" ملف "كتابة تاريخ الأردن" فإنها تُدرك أنَّ الإحاطة بهذا ‏العنوان الضخم والمهم تحتاج إلى ملفات، بيد أنَّ ما نقدّمه هنا هو محاولة أوّليّة تضافَرَتْ فيها ‏أوراق الملف لتقيِّم حال كتابة تاريخ الأردن عبر المئويّة الأولى للدولة، ولتلقي الضوء على ‏مصادر كتابته من رحلات الرحالة الأجانب والعرب، والسجلات والوثائق... ومن جانب آخر ‏تعرِّف هذه الأوراق بأبرز الجهود في مجال كتابة تاريخ الأردن.‏

استهلَّت الدكتورة هند أبوالشعر الملف بتوطئة دعت فيها إلى كتابة التاريخ للجيل القادم بمنهجيّة ‏يتقبَّلها ويفهمها، لأنَّنا نكتب للمستقبل، ولا يجوز لنا أنْ نستمرَّ في الكتابة بلغة القرن التاسع عشر ‏أو العشرين‎.‎‏ وتوقَّفت أبوالشعر عند تجربة التَّوثيق في "كتابة تاريخ الأردن"؛ فهي ترى أنَّ ما ‏كُتب في تاريخ الإمارة والمملكة الأردنيّة الهاشميّة استُخدمت فيه مصادر محدَّدة، وتدعو لإعادة ‏كتابة هذه المرحلة التأسيسيّة في حياة الوطن، ولكن مع التَّجديد بالبحث عن مصادر جديدة ‏وتحليلها، لتقديم فهم جديد لهذه التجربة الجمعيّة التي نتشارك جميعًا بها. ‏

وعن مؤلّفات الرحّالة بوصفها مصدرًا من مصادر كتابة التاريخ الأردني، قام د.جورح طريف ‏برصد الكتب التي ألّفها رحّالة أجانب زاروا الأردن، ويرى أنه على الرّغم من أهميّة المعلومات ‏التي توفرها كتب الرِّحلات إلا أنه يتعيَّن على الباحث التعامل مع هذا المصدر بحذر شديد ودقة ‏متناهية؛ ويرى أنَّ من الضروري للباحث في هذه الكتب إخضاعها لمنهج البحث العلمي التاريخي ‏ومقارنة المعلومات الواردة فيها مع غيرها من المصادر ومع ما يتمّ الكشف عنه من وثائق ‏تاريخية بين الحين والآخر لتصبح الفائدة أعمّ وأشمل. ‏

أمّا الباحث كايد هاشم فقدَّم خمسة نماذج من نصوص رحلات عربية إلى شرقي الأردن في عهد ‏الإمارة، كتبها مثقفون من ذوي النزعة القوميّة العربيّة الصريحة، تبيّن ملامح اجتماعيّة وجوانب ‏عمرانيّة مختلفة من حياة الناس وأحوالهم، وتمثل خطابًا نهضويًّا يضيء مقوّمات التحرُّر ‏والاستقلال والتقدُّم في الدولة الأردنيّة وهي في طور النشوء والتشكُّل.‏

وكتب د.أمجد الفاعوري عن "مصادر جديدة لدراسة تاريخ الأردن" وأكّد على أهمية فتح باب ‏السجلّات، وإتاحتها للباحثين والطلبة (سجلّات المحاكم الشرعيّة ودفاتر الطابو وسجلّات التسوية ‏وسجلّات الأديرة والكنائس والأوراق المحلية ودفاتر مقررات المجالس البلدية والوقفيات ‏والمدارس)؛ حيث تساعد هذه المصادر على تقديم الرُّؤية المحلية المباشرة التي كانت تغيّبها ‏دراسات التاريخ التي تعتمد الوثائق الغربية فقط. وتمثلت هذه التجربة بتحقيق وطباعة ونشر هذه ‏السجلّات المتنوعة والتي تكتنز بتفاصيل الحياة اليومية، وتحمل الخصوصية التي لا نجدها عادة ‏في المصادر التقليديّة.‏

يعرض هذا الملف لسيرة وجهود مؤرخين أردنيين كانت لهم بصمات مميزة في كتابة تاريخ ‏الأردن، وهذا لا يعني بأيّ حال أنَّ صفحات المجلة المحدودة يمكن أن تْحيط بالجهود المميَّزة ‏للمؤرخين الأردنيين عامّة، فثمّة أسماء لم تُفرد لها مادة مستقلّة، وإنَّما جاء التَّنويه بجهودها في ‏سياقات مختلفة، وهناك أسماء لم تحضُر في الملف لأعلام قدّموا الكثير في هذا المجال؛ ونحن ‏في هيئة تحرير مجلة "أفكار" لا ندّعي أننا أوفينا الجميع (الأفراد والمؤسسات) ما يستحقون من ‏تعريف بجهودهم، ونرحّب بالكتابات الجادّة حول أعلام كتابة تاريخ الأردن، والمراكز ‏والمؤسسات الرصينة ذات العلاقة، لتُنشر هذه الكتابات على صفحات المجلة في أعداد قادمة.‏

في هذا الملف كتب د.عليان الجالودي عن "محمد عدنان البخيت مؤرِّخًا"، وتأمّل د.حسين ‏محافظة في شخصية ومنهج "سليمان الموسى"، كما قدّم د.أمجد الزعبي مادة حول الشيخ المُعلّم ‏عبدالكريم غرايبة ومشروعه "إنارات فريدة"، أمّا د.عبدالله العساف فقدَّم شهادة تحمل صورًا عن ‏قرب لكلٍّ من: "علي محافظة- هند أبوالشعر- نوفان السوارية".‏

ولم يغب عن البال، عند الإعداد لهذا الملف، الجهود الأردنيّة في الكتابة عن تاريخ القدس؛ فلا ‏يمكن إغفال الدَّور الأردني المؤسّسي والفردي في التوثيق لتاريخ مدينة القدس السياسي ‏والاجتماعي والاقتصادي؛ وينبع هذا الاهتمام من الحرص على حماية تاريخ المدينة وصون ‏هويّتها الدينيّة والحضاريّة أمام ممارسات الاحتلال الساعية لتغيير شخصيّتها التاريخية عبر ‏طمس المعالم وتبديل الحقائق وخلق واقع ثقافي وسياسي جديدين فيها لنفي أصالتها والعبث ‏بهويّتها. كما اعتنى المؤلفون الأردنيون بصورة خاصة بموضوع الإعمار الهاشمي لمدينة القدس ‏من منطلق الدَّور الأردني منذ مئة عام في الحفاظ على الأماكن الدينيّة الإسلاميّة والمسيحيّة في ‏المدينة، وفي ذلك يقدِّم د.رياض حمودة عرضًا للمؤلَّفات الأردنية عن تاريخ القدس.‏

 

مجدولين أبوالرُّب

مديرة التحرير