إضاءة على كتاب ‏ ‏"الذكاء الاصطناعي والصراع الإمبريالي" لمهدي حنّا‏

سامر حيدر المجالي

كاتب أردني

samhm111@hotmail.com

 

 

في كتابه "الذكاء الاصطناعي والصراع الإمبريالي"، يبيِّن مهدي حنّا أنّ المؤسسات الرأسمالية ‏في العالم تتنافس في مضمار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بهدف الاحتكار وتحقيق السيطرة، ‏ويوضِّح أهميّة الذكاء الاصطناعي في الحرب بين الدول الكبرى؛ تحديدًا تلك الحرب بين ‏الولايات المتحدة والصين الدائرة رحاها الآن، الأمر الذي يعكس أهميّة هذا الصراع الرأسمالي ‏العالمي الطامح إلى قيادة العالم في السنوات القادمة في ظلِّ الظروف الدولية الراهنة والتقدُّم ‏التقني الهائل في مجالات العلوم المتعددة؛ خاصة تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي.‏

منذ قرن ونصف من الزمان، رأى الفيلسوف الألماني "نيتشه" أنَّ المعرفة علاقة سلطويّة بين ‏الإنسان بوصفه فاعلًا، والعالم بوصفه منفعلًا. غير أنه أبدى نوعًا من الحذر بخصوص هذه ‏العلاقة؛ إذ لم يكن متأكدًا من إمكانيّة السيطرة على مخرجاتها، وتنبّأ بأنَّ الشيء الوحيد الذي يُمكن ‏التحكُّم به هو الجانب الجماليُّ للمخرجات، لا غير(1).‏

لعلّ جزءًا لصيقًا بهذه الفكرة هو ما يدور حوله كتاب مهدي حنّا "الذكاء الاصطناعي والصراع ‏الإمبريالي"، الصادر حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان، إذ ينظر المؤلف فيه من ‏زاوية شمولية ترمي إلى استشراف مستقبلٍ هو قاب قوسين من واقع البشر العلمي والسياسي، ‏ذاك الواقع الذي يتَّجه نحو تغيُّرات دراماتيكية في موازين القوى العالمية، تقوده ثورة معلوماتية ‏قادرة على حسم ما كان لا يُحسَم من قبل إلا بالجيوش المدجّجة وحاملات الطائرات.‏

ما يميِّز هذا العمل هو طرحه هذا السؤال الأخلاقي عبر جمعِهِ بين الجانب العلمي من جهة، ‏والجانبين الفلسفي والاستراتيجي من جهة مقابلة؛ فمادة الكتاب قادرة على وصل الحقائق بعضها ‏ببعض، وهي -سواء اتفقت مع بعض جزئياتها أم اختلفت- تقدّم وجهة نظر عميقة تستحقُّ ‏الوقوف أمامها مطولًا، لا سيما أنَّ المكتبة العربية -بحسب علمي- تفتقد إلى كتاب يتناول هذه ‏القضية من زواياها كافة، بل إن معظم ما كُتب عنها تناولها من ناحيتها التكنولوجية فقط، أو ‏أشار إلى تبعاتها السياسية والاستراتيجية في شذرات ومقالات مترجمة عن لغات أخرى في أغلب ‏الأحيان.‏

وبحسب مهدي حنا فإنَّ كتابه "لا يتحدَّث عن علوم الذكاء الاصطناعي في تفاصيله الدقيقة" ذلك ‏أنَّ هذا الموضوع غاية في التخصص، والمراد هو غير ذلك؛ فالعمل يرمي إلى إيضاح أهمية ‏الذكاء الاصطناعي في "الحرب بين الدول الكبرى؛ تحديدًا تلك الحرب بين الولايات المتحدة ‏والصين الدائرة رحاها الآن (...) الأمر الذي يعكس أهميّة هذا الصراع الرأسمالي العالمي الطامح ‏إلى قيادة العالم في السنوات القادمة في ظلِّ الظروف الدولية الراهنة والتقدُّم التقني الهائل في ‏مجالات العلوم المتعددة؛ خاصة تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي".‏

فما هو الذكاء الاصطناعي؟

يعرِّفه المؤلف بأنه: "قدرة الآلات والحواسيب الرقميّة على القيام بمهام مُعيّنة تُحاكي وتُشابه تلك ‏التي تقوم بها الكائنات الذكيّة. كالقدرة على التفكير، أو التعلُّم من التجارب السابقة، أو غيرها من ‏العمليات الأُخرى التي تتطلب عمليات ذهنية معيّنة". وأوضح مثال على ذلك هو الروبوتات التي ‏تستطيع أن تتعلَّم وتفكر مثل الإنسان، بل إنها بدأت تؤدّي مهامه في مهنٍ عدّة؛ كخدمة العملاء، ‏والتمريض، وتقديم النشرات الإخبارية.‏

ولا يقتصر الأمر على الروبوتات، فموضوع الذكاء الاصطناعي واسع، ووعوده سخيّة. ومن ‏بين المجالات التي يشملها:‏

الألعاب، وهي من التطبيقات المبكرة للذكاء الاصطناعي التي ظهرت منذ تسعينات القرن ‏الماضي عبر لعبة الشطرنج.‏

التفاعل مع النظام المرئي وتحليل الصور والتعرُّف على الوجوه.‏

التفاعل مع الكتابة اليدويّة والتعرُّف على الخطوط وتحويل الخط اليدوي إلى كتابة على ‏الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب.‏

التفاعُل مع الصوت المنطوق وفهم اللغات واللهجات المتفرّعة عنها.‏

تقديم النصح والإرشاد وتحليل المعلومات كالفحوصات الطبيّة.‏

وسائل الترفيه.‏

أمن البيانات والمعلومات.‏

وسائل النقل.‏

المساعدة في الأعمال المنزليّة، وسوى ذلك كثير.‏

في الحقول السابقة جميعها يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدِّم خدمات جمَّة للإنسان؛ فهو أولًا ‏يضمن إنتاجية أعلى بسبب الاستمرارية في أداء العمل؛ ذلك أنّ الأجهزة يمكنها أن تعمل دون ‏انقطاع لأنها لا تتعب ولا تنام ولا تمرض ولا تحتاج إلى إجازات وتأمينات وضمان اجتماعي، ‏كما أنها لا تشعر بالملل، ولا تشكو من الروتين، ولديها قدرة على أداء المهمات بدقة عالية تقلُّ ‏فيها نسبة الأخطاء إلى أقصى حدٍّ ممكن.‏

ويمكنها كذلك أن تعمل في ظروف صعبة تتجاوز قدرة الإنسان على تحمّلها؛ كالتنقيب في باطن ‏الأرض والمحيطات، والمكوث فترات طويلة في المركبات الفضائية، والتعرض للإشعاع، ‏والتعامل مع كم هائل من المعلومات.‏

لكن، مثلما أنَّ للذكاء الاصطناعي مزاياه، فإنَّ له سلبيّاته التي من أهمّها: تكلفة الصيانة العالية ‏التي قد تتعدى الوفر في مصاريف العمالة البشرية المُستغنى عنها، النمطية والعجز عن التعلم ‏وتطوير الأداء، الاستغناء عن خدمات الأيدي العاملة من البشر ما يؤدي إلى ارتفاع في مستويات ‏الفقر والبطالة ومن ثم إلى ثورات اجتماعية عنيفة، الاعتماد على هذه الأجهزة إلى درجة تفقد ‏البشر مهاراتهم وتشجعهم على الكسل، غياب الدافع الأخلاقي وعدم التمييز بين الخير والشر ما ‏ينذر بعواقب وخيمة، لا سيما إنْ علمنا أنَّ هذا النوع من الأجهزة سيكون مسؤولًا عن أداء ‏مهمات عسكرية قتالية.‏

وأهمّ ما له علاقة بموضوع الصراع تلك العلاقة المباشرة بين تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي ‏والوفر في كلف الإنتاج الذي سينجم عن تقليل الاعتماد على العامل البشري. وهذا الوفر هدف ‏رأسمالي يسعى إليه المصنِّعون والشركات بغية مراكمة الأرباح. والتكنولوجيا التي يمثلها الذكاء ‏الاصطناعي في وقتنا الحالي هي أهم العوامل التي تسعى إليها المؤسسات الرأسمالية بهدف ‏الاحتكار وتحقيق السيطرة. هذه العوامل بالإضافة إلى التكنولوجيا هي: النظم المالية، والإعلام، ‏وأسلحة الدمار الشامل، والموارد.‏

وتبرز هنا المعضلة الأخلاقية التي تتلخص في عجزنا عن السيطرة على أطماع البشر متى ما ‏مكنتهم المعرفة من امتلاك وسائل السيطرة على العالم. ولعلَّ تاريخ الحضارة الغربية ‏الاستعماري المليء بظلم الشعوب ونهب خيراتها واستعبادها، يؤكد أنَّ هذه الحضارة سعت بالفعل ‏إلى السيطرة على الموارد ومراكمة رأس المال لتحقيق مصالح نُخَبها، وتخلّت في سبيل ذلك عن ‏كل قيمة إنسانية. إنه تاريخ أسود محكوم بلاعب شرس هو "الرأسمالية" التي تطوّرت -بحسب ‏حيدر عيد أستاذ الأدب الخاص في جامعة الأقصى- من رأسمالية السوق في القرنين الثامن ‏والتاسع عشر، إلى الإمبريالية والرأسمالية الاحتكارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأخيرًا ‏الرأسمالية الاستهلاكية متعددة الجنسيات منذ أواخر القرن العشرين. في هذا الواقع سيطرت دول ‏العالم الأول على أسباب التقدم العلمي، واستغلت التكنولوجيا استغلالًا بشعًا فاقم الفروقات بين ‏شعوب الأرض، وقسم العالم إلى طبقتين من أسياد وعبيد(2).‏

غير أنَّ الأمور بدأت تتخذ مسارًا آخر منذ نهاية سبعينات القرن العشرين، فقد استطاعت الصين ‏أن تحقق اختراقًا مهمًّا في مسألة التكنولوجيا هذه؛ ذلك أنَّ شركاتها -هواوي بالتحديد- انفردت ‏بامتلاك جانب من التكنولوجيا لم تستطع الشركات الغربية امتلاكه بالكفاءة نفسها حتى هذه ‏اللحظة؛ أي تقنية الـ ‏‎(5G)‎‏ التي هي العمود الفقري للذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، وهو ‏اختراق لم يحدث منذ الثورة الصناعية الأولى التي قامت في القرن السابع عشر. هذا الاختراق ‏الصيني يضع مركز الحضارة الغربية على المحك، وينبئ عن أوجه للصراع بدأت تظهر عبر ‏التصريحات المستمرة للقادة الأميركان، مثل تصريح وزير الدفاع الأميركي "باتريك شاناهان" ‏الذي قال فيه: "إنّ الولايات المتحدة لديها ثلاث أولويات: الصين، الصين، الصين".‏

والآثار الملموسة للتفوُّق الصيني تظهر في جوانب كثيرة منها:‏

‏-‏ القدرة الهائلة للصين على الاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي؛ فبراءات الاختراع ‏الصينية في هذا المجال هي أكثر بمرتين ونصف من براءات الاختراع الأميركية، كما أن ‏الصين تمتلك 219 كمبيوترًا عملاقًا في مقابل 116 تمتلكها الولايات المتحدة.‏

‏-‏ الصين تتفوق في مجال الروبوتات الهوائية التي يمكنها التحليق على ارتفاعات عالية، ‏والوصول إلى طبقات بعيدة داخل الغلاف الجوي.‏

‏-‏ الصين متفوقة في تقنيات الكلام المرتبطة بالذكاء الاصطناعي؛ فعدد المستخدمين في ‏شركة ‏iFlytek‏ الصينية يبلغ ضعفي عدد المستخدمين لـ ‏Apple Siri، والشركة نفسها ‏تفوقت على كل من ‏Google, Microsoft, IBM, MIT, Facebook‏ في تحدي ‏ستانفورد لفهم القراءة الآلية.‏

‏-‏ ثلاث شركات من العمالقة السبعة في عصر الذكاء الاصطناعي هي شركات صينية، ‏وتسع شركات من أهم عشرين شركة إنترنت في العالم هي أيضا شركات صينية.‏

هذا قليل من أشياء كثيرة تبرهن على تفوُّق الصين وقيادتها لهذه التكنولوجيا.‏

ويلخص مهدي حنا تبعات هذا التفوُّق الصيني بقوله: "من هنا يستشعر الأميركيون الخطر؛ ذلك ‏أن قواعد اللعبة في عالم السياسة اليوم قد شارفت على التغيُّر بصعود كلٍّ من الصين وروسيا ‏ليس على الصعيد العسكري فحسب، بل على صعيد استخدام الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا ‏المعلومات تحديدًا في خلق قواعد جديدة للسياسة العالمية، وكسر الاحتكار الإمبريالي الأميركي ‏من أجل إيجاد نوع من التوازن الدولي في عالم رأسمالي متعدد الأقطاب".‏

وهذه المنافسة عند النظر إليها بعمق فإنها تمثِّل منهجين متضادَّين؛ الأول تمثله الولايات المتحدة، ‏وهو منهج نيوليبرالي ينطلق من جوهر الرأسمالية "بوصفها نظامًا قائمًا على الربحية والاستغلال ‏من أجل تحقيق الكثير من المكاسب لصالح رأس المال على حساب الفقراء في هذا العالم"، ‏ومنهج مركزي موجّه تمثله الصين ويسعى "إلى وضع الاستراتيجيات التي تكفل للشركات ‏الرقمية والبحث الأكاديمي الصيني العمل معًا، وإلى إعطائها الفرص لزيادة الإنتاجية وتصريف ‏تلك التكنولوجيا لتفيد القطاع العام والتحديث العسكري".‏

ويرى مهدي حنا أنَّنا "نمر الآن في صراع جديد وتحديات جمّة، فلم يعُد التناقض بين المركز ‏والأطراف مرادفًا للتناقض بين الدول الصناعية والدول غير الصناعية، وما زال الاستقطاب ‏قائمًا بين دول المركز الرأسمالي ودول المحيط الفقيرة أو النامية".‏

كما أنَّ "هذا الصراع سيؤدي إلى ظهور تناقض جديد بين المركز الرأسمالي الذي تترأسه ‏الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وبعض الدول الآسيوية الصناعية من جهة، والصين ‏بالدرجة الأساسية، وروسيا والحركات السياسية المختلفة والبلدان المعادية للنهج الأميركي من ‏جهة مقابلة. إلّا أن هذه البلدان أصبحت قادرة على تطوير نفسها دون الوقوع في مصيدة التبعيّة ‏للغرب الرأسمالي المتوحش".‏

ولعلّ أهم ما يمكن أن تفعله هذه الدول، كي تحجّم الغول الرأسمالي، هو ترويض العولمة العالمية ‏وفك الارتباط بالدولار وضمان استغلال الموارد بمنتهى العدالة وبما يحقق مصلحة الشعوب ‏جميعها.‏

لقد تمكّن مهدي حنا في كتابه من الإحاطة بملامح الصراع وتقديمها ضمن معطيات مبسَّطة، ‏لكنها غير مخلّة، الأمر الذي يسهّل على القارئ استيعابها بكل تأكيد. وكانت منهجيّته في العمل ‏موفّقة؛ إذ تسلسل في تقديم المعلومات بمنتهى الحرفيّة، مبتدئًا بتعريف القارئ بالمفهوم المركزي ‏للعمل؛ أي الذكاء الاصطناعي، ثم انتقل به إلى تحليل الواقع الذي يعيشه طرفا الصراع، وتقديم ‏البيانات المحدَّثة المتعلقة بكل جانب من جوانب العمل، وأخيرًا طرح الفكرة الفلسفية- السياسية ‏التي توخّاها حين قرَّر أن يبحث في هذا الموضوع.‏

يبقى أن نشير إلى أنَّ مهدي حنا هو مهندس مدني مقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، ‏وحصل على شهادة الماجستير في الهندسة المدنية من الاتحاد السوفييتي عام 1989. وصدر له ‏قبل هذا الكتاب: "الشعبوية بين هوجو تشافيز وجمال عبد الناصر، وقائع التغيير وإخفاق المسير" ‏‏(2011)، و"الفقر صناعة الرأسمالية، عالم متبدل.. وآفاق واعدة" (2016).‏

الهوامش

‏(1)‏ انظر: مجموعة مؤلفين، ما بعد الحداثة.. دراسات في التحولات الاجتماعية والثقافية في الغرب، ابن النديم للنشر ‏والتوزيع ودار الروافد الثقافية، ص212.‏

‏(2)‏ المرجع نفسه، ص173.‏