قراءة دلاليّة تأويليّة في قصيدة "مدار التكوين"

ليث سعيد الرواجفة

كاتب أردني

‏ ‏asmalaith201@gmail.com

 

تُعدُّ قصيدة "مدار التكوين" من أهمّ قصائد الشاعر عبدالكريم أبوالشيح في ديوانه (مدارات ‏التأويل)؛ الذي تناول فيه قضايا وجودية بطرق فلسفية معمَّقة، خصوصًا في بداياته، وذلك عبر ‏تقديم قراءات/ تأويلات جديدة للمواريث الثقافية والأطر المعرفية المسلّم بها؛ قراءات تنذر بقلق ‏وجودي يستدعي الغائب ويُسمِع صوته، ويكلّم المسكوت عنه عبر استنطاق الفيزيقي للبوح عن ‏كل ما هو ميتافيزيقي مجهول. ‏

تكمن أهميّة قصيدة "مدار التكوين" من ديوان (مدارات التأويل) في أنَّ الشاعر عبدالكريم ‏أبوالشيح اختارها لتكون ثاني القصائد، وهذا الاختيار ليس عبثيًا؛ بل يوحي بوجود ارتباط ‏عضوي وموضوعي بين قصائد الديوان؛ فالقصيدة الأولى كانت بعنوان (العرّاف) وتوزعت في ‏ستة مقاطع، هي: (سأبدأ)، (التأويل)، (حكاية)، (التأويل)، (حكاية اللون)، (التأويل)، بعد ذلك ‏جاءت قصيدة (مدار التكوين) بمقاطعها الأربعة: (الأم/ الطبيعة)، (الولادة)، (الخروج)، (القتل/ ‏أول المعرفة)، ثم قصيدة (الطوفان) ليُتمَّ معها الدّارة الأولى بالقصائد الثلاث. ‏

بعد ذلك انتقل سياق قصائد الديوان إلى جوانب ذاتية غنائية بقصيدة (هو وهي و...)، (هذا أنا ‏النبطي)، (رؤيا المرحلة)، (الغريب)، (بيت القصيد)، (حادي الماء) (لا توجع القلب... يكفي) ‏‏(وتزحم رأسي الصور) (مَن يثقب هذا الليل؟؟؟) حتى نهاية الديوان ليشكِّلَ دارته الثانية. ‏

فمدارات التأويل، هي مجموعة قصائد، كل قصيدة تشكل قراءة جديدة لموضوع غامض وغائب، ‏ترتبط مع بعضها بعضًا ارتباطًا عضويًا وموضوعيًا، لتشكِّل دارة مستقلة، فجاءت الدارة الأولى ‏متعلقة بتأويل مسألة الوجود وبداياته عبر محاكاة السرديات الكبرى التي عرفتها الإنسانية ‏واستنطاقها، بعد ذلك انتقلت إلى دارة يمكن أن يُصطلح عليها بـِ"دارة التاريخانية الجديدة" ‏بمقاطع من قصيدة (مدار التكوين) وهي مقطع: (الولادة)، (الخروج)، (القتل/ أول المعرفة)، ‏بالإضافة لقصيدة (الطوفان)، ومن ثم انتقلت إلى الغنائية الذاتية حتى نهاية الديوان، فيكون ‏التسلسل الموضوعي للديوان تنازليًّا؛ بدأ من أكبر وحدة وجوديّة (الكون/ التكوين) حتى وصل ‏إلى أصغر وحدة وجوديّة (الذاتية) المفردة. ‏

المحور الأوَّل: عالم المعاني والمضمون

تحليل المقطع الأوَّل: الأم/ الطبيعة

 

أولًا: قصيدة رعويّة أم فلسفيّة؟ ‏

إنَّ الرعوية مظهرٌ إبداعيٌّ في الشعر قادرة على التغلغل في الأشكال الشعرية، ذلك أنَّ اهتمامها ‏بالزمن هو الذي يجعلها أولًا وقبل كل شيء عالمية في طابعها؛ لأنَّ واحدةً من أعمق الغرائز ‏المتجذرة في البشر الادِّعاءُ بانشغالنا الشديد بالعالم المادي، والبحث عن مهرب من الحاضر الذي ‏يغمرنا إلى ماضٍ نقيّ، أو مستقبل مجهول ينقذنا؛ وهذا هو الجانب الرعوي الوحيد في قصيدة ‏‏(مدار التكوين) التي عادت بالمتلقي/ القارئ -باختلاف عرقه ولونه ودينه وثقافته- إلى الماضي ‏النقي في سردية جديدة غير مألوفة بين الأم (الطبيعة)، وطفلها (الإنسان) الذي ما زال يتشكّل في ‏رحمها من خلال المقطع الأول، لتطرق قضايا وجودية مشروطة بمفاتيح مُرمَّزة جاءت على ‏لسان الأم: (ألفًا، باءً، جيمًا، دالًا، تاءً، ثاءً)، ومنها ما جاء مباشرًا على لسان الجنين (الإنسان): ‏‏"أحتاج مسافة رؤيا وزوايا نظر أرقبُني منها". ‏

لتنتقل القصيدة بعد ذلك إلى جوانب فلسفية جعلت من (نبوءة) الأم مرادفًا (للحلم) المشروط؛ ‏فنبوءة الأم (الطبيعة) زرعتها في جنينها (الإنسان) أثناء تشكُّله في رحمها، وهي عبارة عن ‏أحلام وأماني تعلقها عليه بعد ولادته، وهنا يجد الباحث مسوغًا منطقيًا لغياب صوت الجنين ‏وسيطرة صوت الأم بعد ذلك، فهذه القصيدة بمثابة وصايا ونصائح وتوجيهات للجنين تساعده في ‏فهم نفسه أولًا، ومن ثم معرفة أمه الحقيقية، وخالق هذه الأم، وقيامه بواجب البرّ تجاهها: ‏

‏"يا هذا الخارجُ مني/ والخائضُ في كلِّ مساماتي/ ستكون تمظهريَ الأبهى/ وتمفصُلَ كلِّ ‏مرايايَ/ وتدركُ إنْ أنتَ نظرتَ إليَّ/ بعين القلب حقيقة ذاتي/ فأنا أتناسلُ منكَ وفي كفيّك أخطُّ ‏جهاتي".‏

إنَّ خطاب (الأم/ الطبيعة) اتخذ من الاستراتيجية التوجيهية سبيلًا لإيصال مقصديته النهائية، بعد ‏توظيف الاستراتيجية الحوارية؛ فهي تعلم ما لا يعلمه (الإنسان)، وتطلب منه أن ينظر إليها بعين ‏القلب؛ أي بعين ثالثة ترادف البصيرة والرؤيا في بعدها وعمقها وتأمُّلها المقرون (بالحب) ‏والجوانب الروحية الصافية؛ وبذلك تكون قصيدة (مدار التكوين) فلسفية تدعو إلى التفلسف عبر ‏التأمل واستنطاق الجماد والحرص عليه في آن واحد. ‏

ثانيًا: مركزية الهامش وتهميش المركز ‏

أودَت أنانية الإنسان ونرجسيته به إلى الانشغال بنفسه، والاقتتال مع أبناء جنسه، والاعتداء على ‏أمه (الطبيعة)، ونسيانها، وهذه القصيدة جاءت لتوقظه مما هو فيه، وتنبيهه إلى عقوقه: ‏

‏"هل تقدر يا ولدي/ أن تلقاكَ على بُعدٍ منّي؟/ هل تقدر أنْ/ تُلقي عينيكَ على صفحة مائي/ لتراكَ ‏فلا تأخذكَ الصَّبوةُ/ في عشق الذاتِ فتنساكَ وتنساني؟؟".‏

فالإنسان بطبعِه ثوريّ، ثار على الإله، وعلى العقائد، وعلى جنسه، فأصبح ينظر إلى نفسه على ‏أنه مركز هذا الكون، وقادر على تشكيله كما يشاء بذرائعيات براغماتية منفعية، في غفلة منه ‏عن مدار تكوينه الأساس؛ لذلك جاء خطاب القصيدة من طرفٍ مهمّشٍ مُقصى (الأم/ الطبيعة)، ‏وتحولت مركزية الخطاب الشعري (داخل النص)، ومركزية الوجود الإنساني (خارج النص) ‏إلى ما يُنظر إليه على أنه هامش (الأم/ الطبيعة) في الأساس؛ فالنسق الشعري اتخذ من الهامش ‏مركزًا في بنائه (بنية القصيدة)، والنسق الوجودي اتخذ من ما يُنظر إليه على أنه هامش مركزًا ‏‏(خطاب القصيدة). ‏

وعملية القلب العكسي بين المركز والهامش تمت عبر استدعاء النص لصوت الغائب على ‏الرغم من حضوره (الأم/ الطبيعة)، في محاولة استنطاق تغوص في أعماق الموجودات الفيزيقية ‏‏(الماديات)، ليصل إلى موجودات ميتافيزيقية (مفاتيح الأسرار) التي يجهلها الإنسان.‏

ثالثًا: مفاتيح الأسرار ‏

نهضت بنية القصيدة الفنية والدلالية وحتى التأويلية على استراتيجيات خطابية كان أولها ‏الاستراتيجية الحوارية بين (الجنين)، و(الأم/ الطبيعة)، لتفضي بعد ذلك إلى استراتيجية توجيهية ‏من طرف (الأم) ممّا فرض طغيان صوتها على كل الأصوات حتى نهاية القصيدة، ويرى ‏الباحث أنَّ (مفاتيح الأسرار) ما هي إلا مدارات متشكلة من اجتماع المفاتيح؛ فكل مفتاح خاص ‏بحقل دلالي وتأويلي معيَّن، يجمع في داخله مشهدًا مستقلًا وسابقًا لمشهد لاحق، وهذه المفاتيح ‏جاءت مسبوقة بحروف مُرمَّزة، ولاجتماع هذه الحروف دلالات وتأويلات ستشير إليها الدراسة ‏لاحقًا، وأوَّل هذه المفاتيح هي (اللغة): ‏

‏"ستكونُ عصاكَ تهشُّ بها/ قطعانَ الغيم لمرعاكَ/ فتهطلُ قطعانَ أيائلَ ترعاكَ/ وترضعُكَ اللغة ‏البكرَ إلى/ أنْ تمشيَ فوقَ الماءِ نبيّا".‏

واستدلَّ الباحث على أنَّ المفتاح الأوّل للأسرار (ألِفًا) هو (اللغة)؛ من جانبين: الأول عقلي ‏فيزيقي، والآخر تأويلي ميتافيزيقي، أما الجانب الفيزيقي فيتمثل بأنه لا توجد عصا يمكنها أن ‏تهش قطعان الغيم، والغيم لا تهطل قطعان أيائل، والأيائل لا يمكن لها أن ترعى الإنسان إنما ‏العكس، وبذلك تصبح هذه الموجودات الفيزيقية علامات مجردة من معانيها المباشرة، وما هي ‏إلا علامات لدلالات غير مباشرة سيميائيًا كما أشار الفيلسوف الأميركي "بيرس"، وبعد عملية ‏التجريد تنتقل الدراسة إلى عملية التأويل؛ فالعصا المقصودة هي التي يمكن لها أن تحلق عاليًا ‏عبر يد الخيال والتوظيف الفني الإبداعي، لتكون زادًا يسد جوع الإنسان وماءً يروي ظمأه -‏بالمعاني المجازية- حتى يتسنى للإنسان أن يصبح نبيًّا يمشي فوق الماء بمعجزاته، قال الشافعي: ‏‏"لا يحيط باللغة إلا نبي"، كما أنَّ نبيّ الله موسى عليه السلام طلب أن يكون هارون معه في ‏دعوته لفصاحة لسانه، ومعجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم (اللغة). ‏

أمّا المفتاح الثاني للأسرار (باءً) هي (الرؤيا) الناجمة عن الفلسفة والتأمل التفكُّري الذي ينتج عنه ‏خلع ثوب الحكمة الزائفة: ‏

‏"هي بابُ الرؤيا/ ستفيضُ عليكَ الأسماءَ جميعًا/ تتهجّاها/ تتلوها في السّرِّ/ فتخلعُ فوقَ شرايينكَ ‏ثوبَ الحكمةِ/ كي تجترحَ الطينَ/ فينبتُ في شفتيكَ الحرفُ نديّا".‏

فالإنسان يعيش في وهم زائف، أعماه بريق الموجودات والإنجازات التي حققها، ولكن حين ‏يطرق باب (الرؤيا) عبر الفلسفة، ويتأمل كل ما هو موجود بتمعن، سيخلع عن جسده ثوب ‏الحكمة المزيفة التي ألبسته إياها المواريث والمسلّمات الثقافية التي جعلت ابن الطبيعة (الإنسان) ‏حبيسًا داخل أطرها المعرفية (التابوهات)، ونتيجة هذا الخلع لذلك الثوب؛ هي اجتراح/ تجريح ‏الجسد المخلوق من طين لينبت من شفتيه حروف اللغة (المفتاح الأول للأسرار) ندية؛ أي طازجة ‏وجديدة غير مألوفة.‏

وفي هذه الصورة الفنية ارتباط وثيق بموضوع القصيدة (خطابها)؛ فالإنسان هو ابن الأرض ‏ومخلوق من طين، ودمه بمثابة ماء يروي ذلك الطين حين يتم اجتراحه وتجريحه، فتنبت ‏الحروف من فمه ندية، كما تنبت الأعشاب من باطن الأرض بفعل ريّ تربتها. ‏

بينما المفتاح الثالث للأسرار (جيمًا) هو (الحب) المشبَّه بالجمر لشدة حرارته وقوته، والذي يتفتح ‏في ماء الحنين لامرأة: ‏

‏"جمرٌ يتفتّح في ماء حنينك لامرأةٍ/ ستفتّشُ عنها/ في كلِّ امرأةٍ تعبرُ بوابة أحلامكَ/ تنهلُ من ‏ماء غوايتها/ حتى يثقلَكَ البحثُ وحينَ تكلُّ وتيأسُ/ سوف تراها/ تنبتُ من بين ضلوعكَ تلقي بين ‏يديكَ مفاتنَها/ وتشيرُ إليك بأنْ (هيّا).../ ستكون اليومَ/ فلم تكُ قبلَ اليومِ وقبليَ شيّا".‏

يدور هذا المفتاح في فلك الحب ومعجزاته، التي تجعل من كل مستحيل متاح، فممكن أن يتفتح ‏الجمر في الماء، وممكن في لحظة اليأس أن يولد الأمل، فلا حب مع المستحيل، ولا مستحيل مع ‏الحب، وتوجيه خطاب النص إلى (الذكر) ليس بالمعنى الجندري السطحي، وإنما بالمعنى الذي ‏فرضه الإنسان على نفسه في هذا الكون، فالممارسات الإنسانية تجاه الطبيعة (الأم) جعلت منه ‏ذكوريًا سلطويًا فحوليًا في تصرفاته؛ فقد تكون المرأة الإنسانة أيضًا مشمولة في هذا الخطاب ‏حين تمارس أعمال ذكورية تخريبية وسلطوية تجاه الطبيعة، كما أنها وردت نكرة (لامرأة/ ‏امرأة) مختلفة عن (المرأة) المعرَّفة والمعروفة، وهذا ينطبق على (المرأة) المذكورة في خطاب ‏النص؛ فهي ليست المرأة الأنثى بالمعنى الجندري السطحي، وإنما هي (الطبيعة) التي فتش عنها ‏الإنسان على الرغم من وجودها وحضورها وتجاهلها ببحثه عن بدائل أخرى (مثلًا: رحلات ‏علمية استكشافية إلى الكواكب وغوايته في البحث عن بصيص حياة فيها)، وهنا تتحقق مقولة ‏الدراسة فيما يخص استحضار الغائب وتحويله كمركز كان مهمَّشًا. ‏

والصور الفنيّة تسير بخطٍّ موازٍ لخطاب القصيدة؛ فجاءت مستوحاة من الطبيعة، فجعلت الغواية ‏ماءً ينهل منه الإنسان، وجعلت مفاتن (المرأة) تنبت كالنبات من بين ضلوعه، وهنا تشير ‏الدراسة إلى تحوُّل تأويلي ودلالي في سياق الخطاب الشعري؛ فاللقاء الجنسي في الصورة الفنية ‏ليس بالمعنى السطحي بين الابن والأم؛ وإنما هو بالمعنى التأويلي الذي يحيل إلى عمليات البناء ‏والتلاقح والتقارب والتجاذب، فالإنسان دون الطبيعة لا يساوي شيئًا، فعليه أن يحافظ عليها عبر ‏مفتاح (الحب)، ولن يتعرف عليها، ولن ينهض بنفسه إلا عبر مفتاح (الحب) الذي يجعل من كل ‏مستحيل ممكنًا ومتاحًا. ‏

أمّا رابع مفاتيح الأسرار (دالًا) هو (التصوُّف)، الذي أشار إليه النص عبر علامة (الدالية) ‏المصنوع من عنبها الخمر: ‏

‏"تتدلّى دالية/ تمتدُّ لأقصى حالاتِ الحلمِ/ وتُدني من قلبكَ بلّور الرغباتِ/ عناقيدَ من الخمرِ/ تمدُّ ‏إليها في الحلم يديكَ/ تفيضانِ جداولَ من حبرٍ/ وتضيئانِ/ وريقات العمر اليمضي بينَ العدمين ‏حفيّا".‏

إنَّ حالة التصوف التي جعلها النص مفتاحًا من مفاتيح الأسرار، ليست بالمعنى الديني المعروف، ‏وإنما بالمعنى الروحي النوراني الذي يشرق على قلب صاحبه في حالات اللاوعي معارفًا كبيرة ‏ربما لا يجوز له أن يصرِّح بها، وحالة التصوف -كما هو معروف- تُدخل صاحبها في حالة تشبه ‏‏(الحلم) أشار إليها النص وذكرها صراحةً، وهنا انزياح دلالي وسياقي في توظيف المعجم ‏الصوفي؛ فالغاية من الحالة الصوفية التي سيعيشها الابن (الإنسان)، ليست البحث عن الذات ‏الإلهية والتوحد معها مباشرة؛ بل الغاية هي أن يتخذ من عناقيد العنب (الخمر) التي مدَّ إليها يديه ‏في حالة اللاوعي حبرًا يكتب به تفاصيل مجهولة عاشها بين العدمين؛ العدم الأول قبل وجود ‏الطبيعة (الأم) "لم تك قبلي شيّا"، والعدم الثاني ناجم عن تجاهله للطبيعة وغيابها عن وعيه على ‏الرغم من حضورها ووجودها؛ أي الإجابة عن الأسرار المجهولة، والتي ورد ذكرها في ‏النصوص المقدّسة على أنها مبهمات يجب التعامل معها كما هي مذكورة، وهذا ما سيتم ‏توضيحه في دراسة المقاطع التالية من القصيدة.‏

ونجد هنا أنَّ خطاب القصيدة قد انعكس أيضًا على الصور الفنية داخل النص كما هي الحال في ‏المفاتيح السابقة، حين استمدّ مكوّناته الأساسية من الطبيعة (الدالية/ عناقيد)، لكن الإضافة ‏الحقيقية تكمن في الثورة على النحو العربي وإدخال (ال) التعريف على الفعل (يمضي) ليحقق ‏بذلك غايات دلالية تحمل تأويلات متشظية يصعب حصرها، أذكر منها: أنّ حالة مضيّ العمر ‏مستمرّة وثابتة لأنَّ الفعل اكتسى برداء الاسم، وتفسير آخر هو أنَّ حالة مضيّ العمر معروفة ‏للجميع لذلك جاءت معرَّفة، و(ال) التعريف للتوكيد على مدى شهرة ومعرفة ذلك المضيّ. ‏

وخامس مفاتيح الأسرار (تاءً) هو (إشاعة الحب)، واستدلّ الباحث على ذلك من علامة (التوق)، ‏وعلامة (سلطان القلب): ‏

‏"توقُكَ/ لتُحرِّر سلطانَ القلبِ فتبقى/ أنتَ كما أنتَ سريّا/ .........".‏

إنَّ الخيط الرّفيع الذي جمع المفاتيح مع بعضها بعضًا هو (الحب)، فحرص (الأم/ الطبيعة) في ‏خطابها التوجيهي التصاعدي انطلق من محبّتها لابنها، وحرصها على وصوله إليها عبر نظره ‏بعين القلب والتعمُّق التأمُّلي الروحي، وفي هذا المفتاح وصيّة بضرورة إشاعة الحب وفلسفته ‏التي تميّز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، فعبر الحب يصل الإنسان إلى مدار تكوينه ‏الأساس، ويعرف نفسه، ويتخلى عن الأنانية فتشيع حياة السلام والتسامح، وواضح تنبؤ (الأم/ ‏الطبيعة) بأنّ الحب سيكون مسجونًا ومقيّدًا؛ لذلك نعتت مَن يحاول أن يحرره ويُلمح إليه ‏‏(بالسري)؛ أي بالإنسان الشريف صاحب المرؤة، وربما قصدت بالسري أنه كالسيد المسيح قد ‏يموت في سبيله، وربما تعني أنه كالنهر الجاري الذي لن ينقطع أبدًا مهما انتشر خطاب ‏الكراهية، وهنا تجد الدراسة تأويلًا لانتهاء هذا المفتاح بعلامة حذف طويلة: أنَّ الحب موجود ‏وسيبقى كذلك ولا يمكن حصره أو تقييده أو سجنه. ‏

وآخر مفاتيح الأسرار (ثاءً) هو (التهيؤ والاستعداد)، واستدلّ البحث على ذلك من علامة (تهيّا): ‏

‏"هذا ثامن أيامِ التكوينِ...تهيّا".‏

بعد أن قدّمت (الأم/ الطبيعة) مفاتيح الأسرار لابنها (آدم وذريته) الذي ما زال في رحمها يتشكل، ‏وجدت أنه أصبح جاهزًا ومستعدًا للخروج منها إليها، فهي قامت بكل ما عليها فعله تجاهه ‏والباقي عليه. ‏

وبعد تتبُّع مفاتيح الأسرار وتفسير مضامينها، يُلاحظ الباحث أنها مدارات ارتبطت مع بعضها ‏بعضًا بخيط (الحب)، وجاءت متسلسلة تصاعديًا بدأت من (اللغة) التي تعني نمو الفكر والتشكل ‏الثقافي المعرفي، وتلاها مفتاح (الرؤيا) التي تنتج عن الفلسفة، ومن ثم مفتاح (الحب) الذي تجلّت ‏فيه لحظة تنوير القصيدة وأفشت عن ستر خطابها، بعد ذلك جاء مفتاح (التصوف) الذي يعد ‏تمظهرًا عميقًا للحب وللقصيدة أيضًا، ومن ثم جاء مفتاح (إشاعة الحب) وتحرير قيوده في نبوءة ‏متوقعة من الأم، وختمت المفاتيح بتهيؤ الإنسان واستعداده للخروج، فالمفاتيح ليست مرتبطة ‏بالنمو الجسدي وإنما بالنمو الفكري والثقافي، وحين أفرغت (الأم/ الطبيعة) كل ما لديها أذنت ‏لابنها الذي ضاق عليه رحمها أن يخرج، فلم تسمح له بالخروج قبل أن يسمع هذه الكلمات، ‏ودون أن تضع بين يديه تلك المفاتيح. ‏

جاءت المفاتيح مسبوقة بحروف، وهذه الحروف لها دلالاتها وعلامات تأويلها، كما أنها جاءت ‏على شكل مدارات تنقسم إلى دارتين: ‏

الدارة الأولى: (ألفًا)، (باءً)، (جيمًا)، (دالًا)= أبجد ‏

الدارة الثانية: (تاءً)، (ثاءً)= تث ‏

والتأويل الذي يراه الباحث؛ هو أنَّ النص أراد أن يوهم القارئ بأنَّ (الأم/ الطبيعة) تقدّم تعدادًا ‏رقميًا متخذًا من مستوى الحروف سبيلًا لتحقيق ذلك: (أ، ب، ج، د)، ليُباغت القارئ بذكر حرفين ‏‏(ت، ث) خارج إطار التعداد المتعارف عليه، وهذا ما دفع الدراسة إلى البحث عن دلالات (تث) ‏خارج القصيدة، ووصلت إلى أنَّ (تث) اختصارًا لسفر (التثنية) من العهد القديم، يُشار بأوَّل ‏حرفين منه عند نهاية كل آية من آياته، ولاحظ الباحث أنَّ الآية الثامنة من سفر التثنية يبدأ معها ‏الاصحاح الثامن، وهي عبارة عن مجموعة وصايا موجَّهة للبشر كي يحيوا ويتكاثروا ويملكوا ‏الأرض، وهنا نتيجة مهمة جدًا متعلقة بالتناص؛ فالنص أعمق ممّا هو ظاهر استفاد من سفر ‏التكوين في بدايته، وأشار إلى سفر التثنية في نهايته، وداخل القصيدة كان إيقاع التناص القرآني ‏بارزًا عبر توظيف إيقاع سورة مريم تحديدًا في قوله: (نبيّا/ شيّا/ حفيّا/ سريّا)، وهنالك اقتباس ‏حرفي من القرآن بقوله: (عصاك تهشّ بها)، وهذا يفيد بأنّ النص دمج بين جميع الديانات بآنٍ ‏واحدٍ، في إشارة ذكيّة على أنّ خطابه عالمي إنساني. ‏

 

تحليل المقطع الثاني: الولادة

 

فصّلت هذه الدراسة تحليل المقطع الأوَّل من القصيدة، ومن أجل تجنُّب الإطالة سيكون تحليل ‏باقي المقاطع مقتضبًا ومختصرًا لأهم محاورها الخطابية، فالمقطع الأول اختزل سردية المقاطع ‏اللاحقة وفلسفتها، وجاء ترتيبها متماشيًا مع خلق الكون والإنسان، فبدأت القصيدة من (الطبيعة) ‏لأنَّ الله خلقها قبل الإنسان، بعد ذلك جاءت المقاطع اللاحقة لتقدّم تأويلات وقراءات جديدة متعلقة ‏بآدم وحواء في الجنة، وفي الأرض، لتختم الأم خطابها في المقطع الأخير بإظهار وجهها ‏الحقيقيّ. ‏

جاء مقطع (الولادة) مسرودًا وفق صوت (الأم/ الطبيعة)، ويعدُّ بداية دارة التاريخانية الجديدة في ‏القصيدة وفي الديوان -كما أسلفت الدراسة- أخذ هذا المقطع على عاتقه إكمال سردية الوجود ‏الإنساني من زوايا نظر مختلفة عن التي وصلت إلينا عبر المقدَّس الديني، وهذا لا ينفي وجود ‏التناص والتأثُّر به؛ فجاء مقطع (الولادة) ليقدّم تأويلًا جديدًا لإحدى مبهمات القرآن الكريم ‏‏(الشجرة) التي حُرِمَ منها آدم وحواء، وكانت سببًا مباشرًا في خروجهما من الجنة. ‏

والتاريخانية الجديدة التي يكتبها النص بمداد عناقيد الدالية في هذا المقطع متعلقة بالعدم الأوّل؛ ‏أي قبل نزول آدم وحواء إلى الأرض، وتفصيل ما جرى بينهما، وتبيان ماهيّة الشجرة التي ‏تسبّبت في طردهما من الجنة وهي (شجرة الأحلام).‏

فالنص يحيل إلى أنّ آدم حين نهض (نُفخت فيه الروح) وجد بين يديه ضلعًا مميّزًا من أضلاعه، ‏وكان محظورًا عليه الحلم؛ لكن غريزته الإنسانية دفعته إلى التفكّر والتأمل بذلك الضلع فأعجبه، ‏وغازله، وأراده له، وفكّر بكيفية إعادته إلى مكانه في جسده، فظهرت أمامه حواء، فأسماها ‏‏(الأنثى) ليكون هو الذكر. ‏

ومثل هذا النوع من القراءة الجديدة ناجم عن تأمل عميق في محاولة تقديم إجابات عن تساؤلات ‏وجودية غامضة، وفي الوقت ذاته تسعى إلى تقوية أواصر الترابط الإنساني بين (الأنا والآخر) ‏الذكر والأنثى، فالتاريخانية الجديدة هنا تبحث عن إيجاد ثقافة نموذجية تجمع بين طرفي الوجود ‏الإنساني وفق المحبة والسلام التي تطغى على كل جانب عقلاني براغماتي، فالحب يوازي الحلم، ‏والحلم صاحبه التحدي وعدم الخوف من عواقب الغضب. ‏

تحليل المقطع الثالث: الخروج

 

تستمرُّ (الأم/ الطبيعة) في تقديم سردية الوجود الإنساني، عبر الانتقال بالقارئ إلى مشهد يبدو ‏مألوفًا نوعًا ما، وهو مشهد طرد/ وصول آدم وحواء إلى الأرض، نتيجة أحلامه، دون علم منهما ‏أنهما يؤسسان مدائن للحب وأخرى للقتل، ودون علم منهما أنَّ مِن ذريتهما مَن سيقتتل على ‏امرأة أو جغرافيا أو لأسباب أخرى، كما أنّ المرأة التي غامر (آدم) من أجلها لم تتركه، فواسته ‏وخففت ألمه وحزنه على الرغم من حزنها ونهر الدموع المنهمر من عينيها.‏

والتاريخانية الجديدة في هذا المقطع تتقاطع مع المقطع السابق، عبر كتابة قصة العدم الثاني؛ ‏الناجم عن اقتتال البشر بين بعضهم بعضًا وجهلهم وعقوقهم بأمهم (الطبيعة) وأذيتها، كما أنّ ‏التاريخانية الجديدة تسعى إلى تقديم نموذج ثقافي يحتذي به أبناء آدم وحواء عبر تأكيدها على ‏دور الحلم ورهان آدم عليه، ودور حواء في تحقيق جميع الآمال، وتخفيف الآلام. ‏

تحليل المقطع الرابع: القتل/ أول المعرفة

 

هذا المقطع عبارة عن عتب ممزوج بألم شديد من (الأم/ الطبيعة)، إلى ابنها (الإنسان)، الذي وُلِدَ ‏فيها بعد اكتماله فكريًا وتعلَّم الأسماء كلها، وبعد أن وضعت بين يديه مفاتيح الأسرار، لكنه بقي ‏صامتًا ولم يقل ما أرادته في نبوءتها وحلمها الذي زرعته فيها -كما أسلفت الدراسة في المقطع ‏الأول- خيّب ظنها، فبقي متمركزًا حول نفسه (كأنكَ تعلم أنك شرط الوجود)، لكنها ستعاقبه بأمر ‏من الله تعالى، وتعيده إلى بدايته الأولى؛ أي إلى عالمه الأصلي الميتافيزيقي الماورائي. ‏

إنَّ (الأم/ الطبيعة) في حالة حرج كبير مما ستقوله لله جل جلاله عمّا صنعه ابنها، وهنا ترى ‏الدراسة أنّ (الأم/ الطبيعة) طيلة النص ليست مجرد سارد فقط، بل مصدر للعلوم والمعارف التي ‏وضعها فيها الله جل جلاله؛ فهي مظهر من مظاهر قدرة الله وتجليه، وهي آية كبرى على وجوده ‏وقوته؛ لذلك نجد النَفَس الاستشرافي في سردها، كما وجدنا النَفَس الاستذكاري الذي استنطق ‏الغائب الغامض، وهنا تتحقق مقولة الدراسة في استنطاق الفيزيقي لمعرفة الميتافيزيقي/ الله جلّ ‏جلاله. ‏

المحور الثاني: عالم المباني والأسلوب ‏

إنَّ التفاعل الذي يحدث بين العناصر المكونة للبناء اللغوي لا يقف عند عملية إحصاء الجمل ‏الاسمية والفعلية وأدوات الشرط والاشارة، والتقديم والتأخير وجرد الصور البلاغية الجزئية وما ‏إلى ذلك، كل ذلك لا يؤدي إلى الكشف عن الرؤيا الشعرية؛ وإنما يساعد في إظهار جانب منها؛ ‏فتتحول اللغة من كلام عادي ومعجمي عام إلى لغة تطفح بالإشارات والعلامات السيميائية. ‏

لذلك، فإنَّ عملية البحث في عالم المعاني والمضمون عبر المحور الأول من الدراسة أفضت إلى ‏مجموعة نتائج، سيتم إثباتها في محور عالم المباني اللغوية والأسلوب، وسيتفرع هذا المحور ‏إلى: ‏

أولًا: كيف بنى الشاعر نصّه؟ ‏

للإجابة عن هذا السؤال يرى الباحث أن تنطلق الدراسة بناءً على فرضية "جوكوفسكي" ‏و"ششيكلوف" الملخّصة في المعادلة التالية: ‏

‏[النص = موضوع النص + توسيع موضوع النص]، وهنا نجد أنفسنا أمام مصطلح (التوسُّع) ‏الذي يقصد به أن الشاعر ينطلق عند تشكيل النص من موضوع معين يكون قاعدة للتوسع بها ‏عبر صياغتها بطرق متعددة يتوالد عنها مجموعة من القضايا، وتتركب هذه القضايا لتشكل ‏نصوصًا صغرى ذات موضوعات فرعية، فتلتحم هذه النصوص في قضية كبرى ذات بنية ‏مميزة لتوصل خطابًا في سياق تاريخي واجتماعي يعيشه صاحب الخطاب والمتلقي يخص انتماء ‏الاثنين إلى جنس واحد (الإنسان)، يمارس عقوقه ضد أمه (الطبيعة) ضمن سياق يهدد بالفناء كما ‏حدث ذلك بعد أولى لحظات الولادة (قصة آدم وحواء). ‏

فجاء النص ضمن سياقين أحدهما يضرب في أعماق التاريخ المجهول (قبل خلق آدم)، من خلال ‏الخطاب الذي قدَّمته (الأم/ الطبيعة) بفعل أسبقية وجودها وخلقها قبل (آدم)، والثاني آني يهدّد ‏وجود الإنسان؛ لأنهم يسيرون في طريق كتابة عدمهم الثاني كما جاء في القصيدة. ‏

ومن أجل إيضاح الانتشار الدلالي أو التوسع وكيفية انتظام القضايا في بنية كبرى ستستعين ‏الدراسة بالرسم الذي يقتطع جزءًا من الشبكة الدلالية:‏

 

هذه القضايا المركبة المشمولة بالنصوص في مقاطع القصيدة الأربعة، تتضام وتتوحد في النص ‏الكبير الكلي (مدار التكوين) في علاقات واضحة أهمها الرابط المعجمي الذي يكرر المفاهيم ‏بأشكال متعددة، ويبدو مفهومًا أنَّ جدلية الإنسان والكون من أكثر الروابط المعجمية قوة بين ‏القضايا المركبة في النص. ‏

وتتعدد أنواع الروابط بين القضايا التي تحدَّث عنها الباحثون في لسانيات النص، وتختار الدراسة ‏أبرزها في القصيدة: ‏

العلاقة المكانيّة: يشكل المكان القاعدة الدلالية التي بُني عليها الموضوع كما يسيطر على كثير ‏من العلاقات الرابطة بين المفاهيم، فانطلق النص من (الرحم) الذي جاء بالمعنى المجازي للأم ‏المجازية (الطبيعة) بهدف استنطاق المكان الحقيقي (الجنة) للبوح عن المجهولات الميتافيزيقية ‏الماورائية، لتختم القصيدة دارتها بالمكان الذي هو بمثابة الأم الحقيقية للإنسان (الأرض).‏

علاقة التضاد: يُمكن أن يُطلق عليها (ثنائيات متوحدة)؛ ظهرت في القصيدة على أنها متنافرة ‏ومتخاصمة ومتباعدة، لكن العمق الدلالي للنص يشير إلى تضامّها وتآزرها مع بعضها بعضًا في ‏وحدة موضوعية تحيل إلى معانٍ مقصودة لذاتها، ومن هذه الثنائيات: (البقاء/ الفناء، الوجود/ ‏العدم، الظهور/ الاختفاء، اليقين/ الشك، الحلم/ الواقع، الفيزيقي/ الميتافيزيقي، تذكر/ نسيان، أنا/ ‏أنت)، وغيرها. ‏

علاقة السببيّة: مثلّت هذه العلاقة ركيزة مهمة من ركائز الخطاب الحجاجي الإقناعي داخل ‏القصيدة، ومنها: إصرار الجنين على الخروج بسبب اكتماله وضيق الرحم عليه، تقديم الأم ‏مفاتيح الأسرار حتى يتسنى للإنسان امتلاك الكون والتعايش في حب وسلام، محاولة إرجاع آدم ‏ضلعه إلى مكانه لأنه أعجبه، نزول آدم وحواء إلى الأرض بسبب اقترابهم من شجرة الأحلام، ‏اقتتال ذرية آدم وسفكهم للدماء بسبب امرأة أو جغرافية، خجل الأم/ الطبيعة من الله عز وجل لأن ‏ابنها خيّب ظنها... وغيرها.‏

العلاقة الزمانيّة: كانت بمثابة الرابط الذهني الذي انتقل بخيال المتلقي/ القارئ إلى مدارات ‏القصيدة التي بدأت حواريتها في عالم لاوعي الإنسان، لتقدّم بعد ذلك صيغ استشرافية مستقبلية ‏ليست بالبعيدة عن وجوديته الآنية من خلال الوصايا (مفاتيح الأسرار)، لتعود بعد ذلك إلى زمان ‏مجهولة معالمه الدقيقة وهو زمان آدم وخلقه، لتنتقل القصيدة في قفزة سريعة إلى نهاية العالم، ‏وإبادة الإنسان وانتظار بعثه من جديد بأمر من الله. ‏

إنَّ هذه العلاقات هي التي سمحت بإقامة علاقات ثابتة بين موضوع النص (مدار التكوين) ‏والنص عندما أخذ في التوسُّع، ونصل إلى أنَّ النص حقّق معيار (الحبك) (‏Coherence‏) أحد ‏أهم معايير النصية السبعة، إذ يمكن أن يتوافق النص هنا مع تعريف "برنكر": "كمية منتظمة ‏من القضايا... ترتبط بخلفية قاعدة النص الموضوعية بواسطة علاقات دلالية موضوعية". ‏

ثانيًا: ما هي البنية الشكليّة للنص؟ ‏

في تحليل البنية الشكلية للنص تبحث الدراسة عن عناصر التماسك في مستوى البنية السطحية ‏النحوية له ومدى تحقق معيار السبك (‏Cohesion‏) أو (النظم) وفقًا لتعبير الجرجاني، وهنا ‏نتساءل هل استخدم الشاعر عناصر ربط قوية كما فعل في ربط القضايا وحبكها لتشكل البنية ‏الدلالية المتماسكة للنص؟ ‏

إذا عدنا إلى القصيدة وجدنا التكرار من أكثر الروابط المعجمية استخدامًا؛ فجاء التكرار باللفظ ‏ومشتقاته: (أخرج/ خروج، أنك/ أني، وحدك/ وحدي، عينك/ عيني، متَّ/ أنت، مِنْ/ مني، عنك/ ‏عني، الضحك/ ضَحِكا/ ضحكًا، لمرعاك/ ترعاك، أُصِبت/ أَصَبت، قبل/ قبلي، أُخبِّر/ أأخبره، ‏القتل/ يقتتلون، يسكنهم/ يسكن)، والتكرار بذكر المرادف: (يحيق/ ينال، أرسم/ أشكّل، نبوءة/ ‏الحلم، تمظهر/ تمفصل، صبوة/ عشق، تهن/ تحزن)، وتكرار صيغة الاستفهام: (هل أخرج منك ‏الآن؟ هل تقدر؟ كيف أسمي ما فيه...؟ كيف أعيد المقدود...؟ ماذا لو قدمت له سرًا...؟ بماذا ‏أخبِّر ذاك العجوز...؟ كيف أواريك...؟)، وتكرار صيغة النفي المثبت: (لم تقلْ...).‏

فالتكرار مرتبط بالإحالة إلى مرجعيات الخطاب الأساسية (مدار التكوين)، في محاولة واعية من ‏الشاعر على تكوين مفردات النص عبر توالدها من بعضها بتعدد اشتقاقاتها وصيغها الصرفية ‏والمعجمية والدلالية، كأنَّ النص كون مُصَّغر عن مدار التكوين محور موضوعيته الأساسية، بعد ‏ذلك جاء تكرار صيغ الاستفهام للإحالة إلى حالة القلق الوجودي المنبثق عن لاوعي تام بمدار ‏التكوين الأصلي، ليصل إلى تكرار صيغ النفي المثبت؛ أي نفي قول الابن وإثبات عكسه عبر ‏استحضار مشاهد غائبة في ذهن المتلقي دون ذكرها. ‏

والذي ساعد على تحقُّق معيار السبك في القصيدة مقدرة الشاعر الفريدة -التي تُذكر له- على ‏اللعب بالضمائر، ودمجها في مواضع معيّنة وفصلها في مواضع أخرى؛ فتؤدّي إلى تشظي ‏دلالات وتأويلات يصعب حصرها في هذا الحيز، أذكر منها مواضع الاندماج مع الابن (أبانا، ‏أنك أني، عينك عيني، وحدك وحدي..)، ومواضع الانفصال عنه (أيتها الأم/ يا ابن أمَّ/ يا هذا ‏الخارج منّي). ‏