المرحلة الثانية من مشروع الرحاحلة الرقمي ‏"نظرية الأدب الرقمي ‏II‏ ‏ الأدب الاصطناعي وقضايا الحساسيّة الإلكترونيّة" ‏

 

مجدي دعيبس

كاتب أردني

mdaybes@yahoo.com

 

هذا الكتاب هو الثاني في مشروع الدكتور أحمد زهير الرحاحلة حول نظرية الأدب ‏الرقمي، ويتمحور حول السؤال الرئيس: هل يمكن للآلات الذكيّة أو البرمجيّات أن ‏تنتج شعرًا يحاكي ما ينتجه الإنسان؟ وهل يمكن أن يكون هناك برمجيات لنقد الشعر؟ ‏وحول ذلك يطرح المؤلف أسئلة تتعلق بإنتاج الشعر بشكل عام، وهي: حول المشاعر ‏والعاطفة والموهبة، وكيف يمكن للآلة أن تتجاوز هذه العقبات؟ ويشير كاتب هذا ‏المقال إلى اللغة التي سطّر فيها رحاحلة كتابه، فجاءت المفردة وتركيب الجملة ‏متوهجة تثير الدهشة والفضول في نفس القارئ.‏

 

لعلَّ الدكتورة زهور كرام -وهي أكاديميّة وباحثة ورائدة بالأدب الرقمي- التي قدّمت ‏للكتاب قد حرّكت فينا روح المغامرة في رحلة القراءة والتّلقّي عندما وصفت المؤلف ‏بقولها "الباحث المغامر"؛ لأنّه يذهب مذاهب غير مألوفة ويطرح طرحًا مختلفًا قد لا ‏يلاقي هوًى عند الكثيرين. وربّما يدين العالم بالكثير إلى هؤلاء المغامرين الذين تجرّأوا ‏وحاولوا استكشاف وسبر غور الأشياء التي أقلقتهم وأثارت اهتمامهم، الأمر الذي عاد ‏بالخير الوفير على حياة الإنسان ورفاهه وزاد من حصيلة معرفته وفهمه لهذا الكون ‏الفسيح. وتشير كرام إلى أنَّ هذا القبول أو الرفض سيتحوّل مع الوقت إلى واقع ‏ملموس لأنّ التكنولوجيا أصبحتْ جزءًا من حياتنا، وفي قادم الزمان ستمتدّ ظلالها إلى ‏تفاصيل معقّدة لم نتوقّع في يوم من الأيام أن يكون لها أيّ دور فيها مثل الإبداع الأدبي ‏من شعر ورواية. ‏

ما شهدته البشرية من قفزات حضاريّة في الثلاثين عامًا الماضية يدفعنا للتّأمُّل فيما ‏يمكن أن تؤول إليه العقود القادمة من تغلغل صادم للتكنولوجيا في حياتنا، وما كان ‏مستهجَنًا سيصبح مألوفًا جدًا لأنّ حلقة الاستهجان ما زالت في بداياتها المتواضعة.‏

وقبل الخوض في المباحث الستة التي يتألف منها الكتاب لا بدّ من عرض الفكرة أو ‏السؤال الرئيس الذي تتمحور حوله الدراسة والكتاب وهو: هل يمكن للآلات الذكية أو ‏البرمجيات أن تنتج شعرًا يحاكي ما ينتجه الإنسان؟ وهل يمكن أن يكون هناك ‏برمجيات لنقد الشعر؟ ‏

نجح المؤلف من خلال المبحث الأول بشدّ القارئ إلى محتوى الكتاب عندما عرض ‏تجربتين للأدب الاصطناعي -الذي كنت أظن أنّه ما زال في مرحلة التّنظير- الأولى ‏وهي إنتاج رواية من قبل فريق ياباني بقيادة "هيتوشي ماتسوبارا" عام 2016 حيث ‏اجتازت هذه الرواية المرحلة الأولى من جائزة "نيكي هوشي شينيشي"، والثانية وهي ‏من إنتاج شركة أميركية (‏Human Mode‏) والتي قامت بتصميم روبوت ‏‏(‏Robot Newman‏) كتب مجموعة شعرية بعنوان "فن الشعر الاصطناعي: كتبتُ ‏هذا في ثلاث ساعات". ويمكن أن تجد هذا المجموعة على موقع أمازون وثمنها ‏خمسة عشر دولارًا. لا أثبّت هذه المعلومة هنا للترويج للشعر الاصطناعي أو للشركة ‏الصانعة أو لموقع أمازون، بل هي محاولة لتحريك مستنقع الاستهجان الراكد في ‏أعماقك.‏

يطرح المؤلف أسئلة مهمّة تتعلق بإنتاج الشعر بشكل عام وهي: المشاعر والعاطفة ‏والموهبة، وكيف يمكن للآلة أن تتجاوز هذه العقبات؟ تقدم الدراسة أفكارًا وإجابات ‏بسيطة ومباشرة. قبل أن يكون هناك أدب اصطناعي كانت العاطفة المصطنعة التي ‏نسبها النقّاد إلى بعض القصائد التي لمسوا فيها قصورًا بنقل العاطفة إلى المتلقّي، ‏ووسموها بالاصطناع والتكلف وهو ما يمكن أن تكون عليه العاطفة بشكل مبدئي في ‏شعر البرمجيات التي يمكن أن تتطور إلى أبعد من هذا بكثير في المستقبل، فما زال ‏التجريب والاشتغال في بداياته. أمّا الموهبة فهي موهبة من يلقّن الآلة بالمدخلات ‏اللازمة لإنتاج شعر يشتمل على المقومات الفنيّة واللغة والخيال والصور الشعرية. ‏

في المبحث الثاني يعود المؤلف ليؤكد على أنَّ تجربة الغرب مع الشعر الاصطناعي أو ‏التوليدي بدأت في خمسينات القرن المنصرم وتطورت خلال العقود اللاحقة في ‏أوروبا وأميركا بسبب تطور الحواسيب والبرمجيات وتعاون المهندسين والشعراء ‏لإنتاج نصوص شعرية تقارب شعر البشر، كما ظهرت حركات وجماعات أخذت ‏على عاتقها الاشتغال بتوليد الشعر من خلال الآلة، فظهر ما يشبه الحراك الجمعي ‏الأمر الذي دفع بهذا "الجنس الشعري" إن جاز التعبير إلى بؤرة الاهتمام. ‏

قبل الانتقال إلى التجربة العربية في الشعر التوليدي يعمد المؤلف إلى الإشارة إلى ‏منهجية عمل الخوارزميات لإنتاج الشعر بشكل عام وتتراوح بين محاكاة سمات ‏النصوص الشعرية ومحاكاة السمات اللغوية للمواد الملقَنة أو الجمع بين الطريقتين. مع ‏تطوُّر الإنترنت والتطبيقات المرافقة لهذا التطور ظهرت برامج لتوليد الشعر على ‏طريقة الألعاب الإلكترونية. يُطلب منك إدخال كلمات بمواصفات محددة لتكون النتيجة ‏قصيدة مكشوفة حيث تقوم الكلمات التي اخترتها بملء الفراغات المدروسة بعناية.‏

تشير الدراسة إلى أنَّ تجربة الشاعر العراقي ناصر مؤنس مقنعة إلى الحدّ الذي يجعل ‏منها نموذجًا عربيًّا ناضجًا للشعر التوليدي. في كتابه "مهرج زرادشت: ليس لعبة- ‏ليس كتابة" والصادر عام 2015 يورد مؤنس ألف قصيدة وقصيدة أنتجتها برمجية ‏من تصميم نديم كوفي وطلال رفعت أطلقا عليها اسم (آلة الحكمة) جاءت كنتيجة ‏لتعاون الشاعر والمبرمجين. وعند التدقيق في هذه القصائد يتبين أنَّ القصيدة لا ‏تتجاوز سطرًا وحدًا:‏

لم أنتِ متورمة أيتها اللغة؟

الصمت لا يريد أن يهتك الستر.‏

كل سلطة ملطخة بلطخة الدم.‏

الحجر لا يقدر أن يقفز قفزة الغزال.‏

وكما أكَّدت الدراسة في نظرتها لهذه النصوص على أنها أقرب إلى قصيدة النثر في ‏إيجازها وتكثيفها ورمزيّتها، لكنها بالمقابل لم تتّسق على مستوى الموضوع لتؤدي ‏غرضها بالشكل المناسب على غرار قصيدة النثر المعروفة. ظهرت محاولات لنظم ‏الشعر العمودي ونجحت بتحقيق الشرط المتعلق بالشكل من حيث أوزان البحور ‏والقوافي وانتفى شرط المنطق في تركيب الجملة، فأصبحت الأبيات الشعرية كلمات ‏مصفوفة بلا معنى؛ مجرد ثرثرة أو هلوسة حاسوبيّة.‏

في المبحث الثالث تتناول الدراسة موضوعة اللعب في الأدب الورقي والأدب الرقمي ‏وتسوق الدراسة أمثلة تطبيقيّة لتوضيح المعنى المقصود. يحيل الباحث مفهوم اللعب ‏في الأدب الورقي إلى الألغاز والأحاجي، وهي حالة من التكثيف اللغوي المعروف ‏واللعب على الكلمات بطريقة ذكية مثل:‏

‏      يا أيها الرشأ الذي ‏        أملي من الدنيا رضاه

‏      يرجو العذول إلى السلو ‏        لا زال معكوسًا رجاه

معكوس رجاه يكون: هاجر. ويشبه هذا الأمر إلى حدٍّ ما اللعب بالكلمات المتقاطعة. أمّا ‏اللعب في الأدب الرقمي فيعني المشاركة في صنع أحداث العمل السردي أو تشكيل ‏القصيدة التفاعلية من خلال الروابط التي تفضي إلى روابط أخرى في عملية تفريخيّة ‏متتالية. تعرض الدراسة "قصة ربع مخيفة" لأحمد خالد توفيق كمثال على لعبة أدبية ‏رقمية حيث تتم عملية التّلقّي من خلال الشاشة التي تشتمل على سرد وصور وألوان ‏وروابط، على اللاعب أو المتلقّي اختيار إحداها للاستمرار باللعب. ‏

في المبحث الرابع تتناول الدراسة قضية جدلية وهي دور اللغة في الأدب الرقمي ‏العربي ومستوياتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التجربة الرقمية العربية ما زالت في ‏بداياتها وأنّ فضل الريادة على مستوى الرواية يعود للأردني محمد سناجلة (ظلال ‏الواحد، 2001) وعلى مستوى الشعر للعراقي مشتاق عباس معن (تباريح رقمية ‏لسيرة بعضها أزرق، 2007). تطرح الدراسة الانقسام حول هذا الموضوع من خلال ‏عرض وجهتي نظر لكل منهما أنصار ومريدون. الأولى تدعو إلى إفساد اللغة أي ‏نقضها وتأسيس لغة جديدة تتناسب مع المعطيات الرقمية والتي هي سمة العمل الأولى ‏وتميّزها عن الأجناس الأدبيّة التقليديّة المقابلة. بمعنى أنّ اللغة يجب أن تتخلّى عن ‏دورها المعروف وتصبح شفّافة ومختصرة وسريعة. وجهة النظر المقابلة تدعو إلى ‏الاعتدال في النظرة للغة من منطلق أنها ركيزة أساسية للأدب مثلها مثل الخيال ولا ‏يجوز تحييدها لأننا نصبح أمام معضلة أكبر وهي الجنس الأدبي؛ فهل هناك شعر بلا ‏لغة ورقيًّا كان أم توليديًّا؟ بمعنى أن اللغة الركيكة والمحدودة ستنتج على الأغلب شعرًا ‏له السمتين نفسهما. ‏

ترى الدراسة أنه عند التّعمّق بأعمال رائدي الرقمية العربية يتّضح أنّ اللغة حاضرة ‏بقوة كأداة حاضنة للأحداث وردود الأفعال والصور الشعرية وأنّ العناصر الرقمية ‏من صوت وصورة وفيديو ورابط ما زالت تلهث خلف اللغة وتبحث عن دور أساسي ‏بحيث إذا انتفى هذا الدور يسقط بعده العمل برمَّته. ‏

إنّ هذا التزاوج بين اللغة والتكنولوجيا في عملية العرض الأدبي قد أنتج حالة لغوية ‏هجينة تجلّت في مظاهر عديدة أبرزها: الازدواجية (الإفراط باستخدام لهجات عاميّة ‏متعددة)، الثنائية (استخدام أكثر من لغة أو كتابة لغة بأحرف لغة أخرى)، الرومنة ‏‏(كتابة الحرف العربي بالحرف اللاتيني)، الترقيم (استبدال الأرقام ببعض الحروف ‏العربية التي لا نظير لها في اللغة الإنجليزية)، الاختزال (استعمال بعض الحروف ‏والأرقام للدلالة على جملة) والوجوه الصفراء (الإيموجي).‏

في المبحث الخامس تقف الدراسة على البنية الرقمية في نص شعري لمشتاق عباس ‏معن بعنوان (لا متناهيات الجدار الناري) حيث تقوم الدراسة بتوصيف العناصر ‏الرقمية في القصيدة والتي قسمتها إلى الصوت والصورة والحركة واللون ‏والهايبرتكست. وتخلص الدراسة بعد الخوض في كل عنصر من هذه العناصر ‏بالتحليل والتفكيك والتمحيص والإحالة أنَّ اللغة ما زالت العنصر الأكثر تأثيرًا وأنّ ‏الوسائط الرقمية كانت ثانوية والإضافة المتحصّلة منها لم تزل في حدودها الدنيا. بعد ‏أن اطّلعتُ على القصيدة من خلال الرابط التّالي المثبّت في الدراسة(*) تشكّل لديّ رأي ‏بخصوص القصيدة التفاعلية الرقمية ابتداءً من المسمّى وانتهاءً بعملية التّلقّي. ولو كان ‏لي رأي يعتدّ به في هذا المجال لأسميتها (قصيدة متعدِّدة الوسائط أو قصيدة الوسائط ‏المتعدِّدة) لأنّ تعدُّد الوسائط يعبّر عن واقعها بشكل أفضل من كلمة الرقمي وهو ‏مصطلح أو مفهوم بدلالة واسعة وفضفاضة. أوَّلًا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ النص ‏اللغوي في القصيدة يشتمل على شاعريّة عالية ويستطيع النهوض بنفسه دون مساعدة ‏من العناصر الأخرى، ولا يعني هذا أنني أتفق مع الدراسة فيما ذهبت إليه من قلّة حيلة ‏وقصر يد المؤثرات التكنولوجية وذلك لأكثر من سبب: إنّ عملية التّلقّي والإحساس ‏بالصورة والصوت واللون متفاوتة من شخص إلى وآخر إلى حدّ كبير، بل إنَّ مزاج ‏الشخص ذاته عند التلقي يلعب دورًا مهمًا بتقبّل العمل أو إنكاره، كما أن الحواس ‏المنخرطة باستقبال إيحاءات القصيدة في الحالة الرقميّة تذهب إلى تخوم أبعد بكثير من ‏التخوم التي تصلها القصيدة اللغوية. ولو زادت الجرعة الرقمية إلى الحدّ الذي توازي ‏به الجسم اللفظي، لتحوّلت القصيدة إلى حالة من التجريد المنغلق على ذاته. على اللغة ‏أن تقود الأوركسترا حتى يستقيم الأمر. ‏

خصَّصت الدراسة المبحث السادس والأخير لنقد الأدب الاصطناعي. التركيز على ‏النقد خلال مرحلة النشوء والتطور يأتي للتأكيد على تصحيح المسار من خلال ‏ملاحظات التغذية الراجعة للنهوض بهذا الفرع الأدبي الصاعد انطلاقًا من مقولة (النقد ‏الواعي ينتج أدبًا ناضجًا). بعض النقاد الرقميين يستخدمون مناهج النقد الكلاسيكية ‏للنظر في النصوص التي يقعون عليها وبعضهم يرى ضرورة التسلح بأدوات جديدة ‏لنقد الجانب التقني من الأعمال الرقمية. في المقابل طرحت الدراسة إمكانية أن يكون ‏الناقد آلة أو برمجيّة؟ ترى الدراسة أنَّ النقد الإلكتروني ما زال في مرحلة التنظير ‏ويحتاج الأمر سنوات للانتقال إلى مرحلة التطبيق. ‏

وقبل أن نختم هذه الالتفاتة السريعة لا بدّ من الإشارة إلى اللغة التي سطّر فيها الباحث ‏مئتي صفحة من القطع الكبير تعيدنا إلى أحضان ماضٍ بعيد على مستوى المفردة ‏وتركيب الجملة التي جاءت في عمومها متوهجة تخطف الأبصار وتحفر عميقًا في ‏ذاكرة تلبس ثوب الدهشة والذهول كلما نكشتها عبارة محكمة التركيب. ‏

هذا جهد كبير وطيِّب من الباحث الدكتور أحمد الرحاحلة ويستحق عليه كل التقدير لما ‏فيه من معلومات تثقيفية لمن غاب عنه هذا الموضوع، ونواحي بحث وتمحيص ‏وتقديم الخلاصة والتوصيات للمختصين والباحثين، وهو الجزء الثاني في موضوع ‏الأدب الرقمي، للمؤلف الحائز على جائزة كتارا للعام 2019 عن فئة الدراسات غير ‏المنشورة. ‏

‏- - - - - - - - - - - - ‏

‏(*)‏https://dr-mushtaq.iq/My-poetry-works/Interactive-‎digital/‎‏ ‏