قراءة في كتاب ‏ فكر ابن خلدون - العصبيّة والدولة

يوسف عبدالله محمود ‏

كاتب أردني

mabdelmasih@yahoo.com

 

في كتابه "فكر ابن خلدون- العصبيّة والدولة" يرى د.الجابري أنَّ ابن خلدون لم يحرص على ‏كتابة التاريخ الإسلامي بقدر إعادة النظر العلمي فيه، بهدف استفتائه واستنطاقه. وبحسب ‏رأي الجابري فإنَّ أهميّة مقدمة ابن خلدون بالنِّسبة إلى الفكر التاريخي والفلسفي المعاصر ‏كامنة في كونها شهادةً ثمينةً تُبرزُ العوامل الفاعلة في التجربة الحضاريّة في الإسلام. وفي ‏استعراضِه لهذه العوامل يحصرها في ثلاثة هي: الأيديولوجي والاجتماعي والاقتصادي.‏

 

 

بين يديّ كتاب تمّت طباعته ثماني مرات آخرها في العام 2007. الكتاب هو "فكر ابن ‏خلدون، العصبيّة والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي". أمّا المؤلف فهو ‏الأكاديمي والمفكر الراحل المغربي البارز د.محمد عابد الجابري أستاذ الفلسفة والفكر العربي ‏الإسلامي السابق في كلية الآداب بالرباط. ‏

ومع أنَّ فكر ابن خلدون قُتل‎ ‎بحثًا ودراسة، إلا أنَّ هذا الباحث العميق النظرة يرى أنَّ العالِم ‏ابن خلدون الذي فلسف التاريخ الإسلامي على نحو غير مسبوق ما زال في حاجة ماسة "إلى ‏عملية (تصحيح) تعود بالفكر الخلدوني إلى إطاره الأصلي وتحتفظ له بكليّته وهويّته ‏الحقيقية"(ص7).‏

في البداية يرى د.الجابري أنَّ "الخطأ المنهجي" الذي وقع فيه عدد غير قليل من المعجبين ‏بابن خلدون يكمن في أنَّهم نظروا إلى فكر هذا العالم والمفكر بعين الحاضر منطلقين -كما ‏يشير- من الفكر المعاصر إلى ما ورد في "المقدمة" من آراء ونظريات في الشؤون ‏الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، متناسين أنَّ الفكر الاجتماعي مرتبط دومًا بالعصر الذي ‏ظهر فيه، وبالتالي يفقد هويّته الحقيقية إذا ما حاولنا فهمه على ضوء معطيات عصر آخر. ‏

قرأ د.الجابري الفكر الخلدوني بمنهجية علمية رصينة، وهو يرى أنَّ صاحب "كتاب العِبر" ‏لم يحرص على كتابة التاريخ الإسلامي بقدر إعادة النظر العلمي فيه، بهدف استفتائه ‏واستنطاقه. لقد هال ابن خلدون عصر التراجع والانحطاط الذي شهدته الحضارة الإسلامية ‏خلال القرن الثامن الهجري، فراح يبحث عن أسباب ذلك. ‏

وفي رأي المؤلف "فإنَّ أهمية مقدمة ابن خلدون بالنسبة إلى الفكر التاريخي والفلسفي ‏المعاصر كامنة في كونها شهادة ثمينة تُبرز العوامل الفاعلة في التجربة الحضارية في ‏الإسلام. وفي استعراضه لهذه العوامل يحصرها في ثلاثة هي: ‏

‏-‏ العامل الأيديولوجي.‏

‏-‏ العامل الاجتماعي.‏

‏-‏ العامل الاقتصادي.‏

في حديثه عن العامل الأيديولوجي يشير الجابري إلى "الدين" الذي لعب دورًا لا يجوز إغفاله ‏في ما عرفه التاريخ الإسلامي من أحداث. إنه -كما يرى- "كان شرطًا ضروريًا لقيام دولة ‏العرب". ‏

ومع ذلك، فالمؤلف يرى "أنَّ الدعوة الدينية من غير عصبيّة لا تتمّ". بالطبع هو هنا يقتبس ما ‏آمن به ابن خلدون. وكدليل على أهمية "العصبيّة" آنذاك في عصرها أنَّ الحركات ‏الإصلاحية التي شهدها التاريخ الإسلامي دون اعتماد على "العصبيّة" آلت إلى الفشل الذريع. ‏

وحتى نفهم نظرية العصبيّة عند ابن خلدون لا بد من استحضار –أيضًا- العامل الاجتماعي ‏والاقتصادي؛ فهما يؤثران في (شؤون المعاش) وكثيرًا ما تسبَّبا في الصراع بين العصبيات ‏الأخرى التي ظهرت بعد اتساع رقعة دولة الخلافة أيام الأمويين والعباسيين، ناهيك عن ‏الصراع على السلطة والاستغلال الذي مارسته بعض الدويلات التي انشقَّت عن الدولة ‏المركزية إبان ضعفها. وفي مقدمة هذا الضعف الذي أصاب "الخلافة" استئثار العرب الملك ‏وثمراته، وفي مقدمتها الجاه والثروة، "ممّا أفسد عصبيتهم وأيقظ عصبيات الأمم سواهم ‏مشرقًا ومغربًا"(ص258).‏

وفي استعراضه للواقع الاجتماعي الذي ساد في العصور الإسلامية المختلفة يُبرز ابن خلدون ‏الهوّة العميقة التي تفصل حال البداوة عن طَوْر الحضارة متوصِّلًا إلى أنَّ "رِقة الحضارة" ‏التي عاشتها "الارستقراطية الحاكمة" ومَن عاشوا في كنفها، بعد وفرة الغنائم والأموال لديهم ‏نتيجة الفتوحات الإسلامية للبلدان المجاورة، تسبَّبت في ضعف ومن ثم انهيار الدولة ‏المركزيّة. ‏

وإنَّ ما حدث وعجّل في هذا الانهيار للدولة المركزية الإسلامية هو "الترف" الذي عاشه ‏الحكام والولاة بعد وفرة الأموال التي تدفّقت عليهم؛ وهو الأمر الذي أدّى إلى بروز "طبقية" ‏يقف وراءها "اقتصاد الغزو". ومع الأسف فإنَّ الأموال التي تدفّقت على الدولة الإسلامية لم ‏تكن تُستثمر، بل يتم توزيعها على المحاربين ورجال الدولة. "ولمّا كانت هذه الجماعة ‏الحاكمة بدويّة، قبليّة، فإنها لم تكن تستطيع بحكم تكوُّنها وعاداتها توجيه هذه الثروة غير ‏وجهة الاقتسام والاستهلاك"(ص266).‏

وفي رأي ابن خلدون "فإنَّ هذا النوع من الكسب أو من الإنتاج القائم على الغزو، كان ‏مسؤولًا عن النمط العام للحضارة العربية الإسلامية سياسيًا واجتماعيًا وعمرانيًا ‏وثقافيًا"(ص266).‏

وهو بحق نمط أخذ بمظاهر الحضارة البيزنطيّة على عهد الأمويين والحضارة الساسانيّة على ‏عهد العباسيين، إلا أنَّ هذه المظاهر لم تتغلغل في نفوس "العرب الحكام". ‏

وفي حديثه عن الناحية العمرانية يرى ابن خلدون أنَّ (خُلق البداوة) هو المسؤول عن جميع ‏نقاط الضعف في دولة العرب وحضارتهم. ‏

لم يُحسن العرب في عصورهم الإسلامية، وبعد عصر النبوة والخلافة الراشدة، استثمار ‏الأموال التي انهالت عليهم إثر الفتوحات الإسلامية. ‏

وبعبارة أخرى، أدّى الانتقال من عالم تسوده لُحمة المصلحة المشتركة إلى عالم يطغى فيه ‏نزاع المصالح الخاصة وتناقضها إلى فساد "العصبيّة". ‏

بدوره أدّى فساد "العصبيّة" إلى نشوب "حروب أهلية" ومنازعات داخل البيت الحاكم؛ ممّا ‏اضطرّه إلى الاعتماد على "الموالي" والمرتزقة من غير العرب. وبسبب "طور العظمة ‏والمجد وما رافقه من استفحال التَّرف" فإنَّ خزائن الدولة الإسلامية أمست فارغة أو كادت، ‏ممّا دفع الحُكّام -وكما يرى ابن خلدون- "إلى الإكثار من الضرائب والمغارم التي شكّلت عبئًا ‏على الرّعايا". أكثر من هذا، فحين يعجز الأفراد عن دفع هذه الضرائب يلجأ الحاكم ‏وأصحاب الجاه إلى مُصادرة ثروات ممَّن نمت ثروتهم بالتجارة، بل تمَّ اللجوء إلى تسخير ‏الرعايا بفرض "الخدمة المجانيّة" عليهم في قضاء حاجات الحاكم وأصحاب الجاه. ‏

كل هذا أدّى -وكما يرى ابن خلدون- إلى سقوط الدولة، بمعنى أنَّ سلطة العصبيّة الحاكمة ‏تلاشت وعمّت الفوضى، وهذا يؤكد مقولة هذا العالم والفيلسوف بأنَّ "الحضارة مفسدة ‏للعمران". ‏

وبعد، فإنَّ د.الجابري قد حاكم تجربة ابن خلدون وفكره محاكمة عقلانيّة، فحين تلاشت ‏وحدة الدين والعصبيّة انكمشت الدولة وغابت شمسها؛ ممّا فتح المجال أمام التدخلات ‏الخارجية الاستعمارية. وهنا يُسقط المؤلف الواقع الذي رصده ابن خلدون وهو يتتبَّع أطوار ‏قوة الدولة الإسلامية، ثم ضعفها وانحلالها بعد أن انتهت "وحدة الدين والعصبيّة"، على ‏واقعنا العربيّ المعاصر، فالرابطة القوميّة الجديرة بأن تجمع العرب حول أهداف مشتركة ‏وهنت إلى حدٍّ كبيرٍ، إنْ لم أقُل إنَّها تلاشت. ‏

إنَّ الدكتور محمد عابد الجابري قد قدَّم لنا ابن خلدون وهو يفلسف التاريخ الإسلامي على ‏نحوٍ فريدٍ في نوعِه، لا نجد له مثيلًا في تراثنا العربيّ. قدَّمه على نحوٍ مختلفٍ عمّا فعلته ‏بعض الدراسات الخلدونية التي -كما يرى- "وقعت في خطأ فهم أفكار ابن خلدون على ضوء ‏الفكر الحديث والمعاصر"(ص9).‏

انتقد الجابري ما فعله ويفعله بعض الكتاب المعاصرين حين ينتزعون بعض عبارات ابن ‏خلدون من فصول المقدمة، فيؤوِّلونها على نحو يبتعد عن نهج الفكر الخلدوني وعصره. ‏وفي رأيه أنَّ مثل هذا الانتزاع والبناء عليه لا يساعد البتّة على فهم آراء ابن خلدون على ‏حقيقتها وفي وحدتها الكلية وتناسقها الجدليّ. ‏

وانسجامًا مع هذه الرؤية حرص المؤلف على الانطلاق في دراسته من نظرة شمولية ‏‏"تحرص على أن تجد للأجزاء مكانها في الكلّ حرصها على النظر إليها على ضوء مشاغله ‏الشخصيّة وتجربته الاجتماعيّة وعلى اعتبار أنَّها امتداد وتطوُّر لمنازع الفكر العربي السياسي ‏والاجتماعي منه خاصة"(ص10).‏

في كتابه هذا، ظلَّ د.محمد عابد الجابري موضوعيًّا في قراءته لفكر ابن خلدون، قدَّم لنا ‏تحليلات هذا العالم والمفكر عن التجربة الحضارية في الإسلام إلى عهده والتي صوّرها ‏بالقتامة متأثرًا بالتجربة السياسية والاجتماعية التي خاضها صاحبها على نحو "عبَّر عن ‏جانب مهم من الحقيقة الموضوعية، الاجتماعية والتاريخية"(ص278).‏

وفي نهاية كتابه يتساءل د.الجابري تساؤله المشروع قائلًا: "ألا نجد في تحليلات ابن خلدون ‏ما يُلقي بعض الأضواء على جوانب من تاريخنا الحديث وواقعنا الراهن؟ ألا نجد ملامح ذلك ‏التناقض المزمن في حياتنا الجارية الآن؟"(ص279).‏

أسْهبَ الجابري في حديثه عن "التداخل بين الدين والدولة"، وهو هنا "الإسلام"، واصفًا ‏تأثيره على الدولة الإسلامية في عصره حيث "طبعها في نظمها وتشريعاتها بالنظم القبلية إلى ‏حد كبير"(ص273).‏

والحقّ أنّ ابن خلدون -وكما لاحظ المؤلف- كان يتتبَّع أخطر حقبة من التاريخ العربي ‏الإسلامي، تعكس بالدرجة والعمق نفسه واقعنا الراهن "حين تتواجد بنيات القرون الوسطى ‏والبنيات الجديدة التي خلقها عالم اليوم"(ص10).‏