الجيوسي؛ مؤسسةٌ ثقافيّةٌ تسدُّ فجوة غيابنا الحضاري

غازي الذيبة
شاعر وباحث أردني
تبعث سيرةُ الشاعرة والمترجمة والمثقفة الموسوعيّة سلمى الخضراء الجيوسي على التأمل، لما اشتمل عليه عملها الثقافي من تنوّعٍ في الانشغالات، فمن الشعر إلى الأدب فالترجمة والفكر والحضارة، لتضيء بذلك مسيرة، كرّست فيها جلَّ حياتها، لنقل وترجمة أطياف من الثقافة العربية إلى الإنجليزية، فيما غابت مؤسسات عربية، رسمية وغير رسمية، عن تبني مثل هذا النوع من المهام، لمنح ثقافتنا مكانًا على خريطة العالم، وبالذات "العالم الغربيّ"، الذي ظلَّ منطويًا على نفسه في التفاعل معنا، إلا في النطاقات التي تخدم مصالحه الكولونيالية.
حملت الجيوسي مشروعها الاستثنائي، على نحو فردي نسبيًّا، لنقل طيف من المنجز العربي الثقافي ونقله إلى ثقافات أخرى؛ ما يجعل قراءة مغزى انهماكها فيه، فاتحة للكشف عن آفاق الثقافة العربية الشاسعة، وعمّا كرسته من إمكانيات لإخراجه إلى النور، لتنشئ بذلك أساساتٍ صلبةً للتعريف بثقافة، ظلّت ملامسة منجزاتها بعد العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية، غائبة عن التناول عالميًّا.
أضعفت حالة الإحباط التي رافقت المثقفين والمفكرين العرب، من انتشار منجزهم خارج حدود المنطقة العربية الكبرى، وحتى خارج حدود أقاليمهم الصغرى، ما انعكس على أيّ مشاريع معرفية، كان يمكن لأفراد أو جماعات أو جهات حاكمة تبنّيها، لتقدمنا في نطاق، ينأى بنا عن التهميش والغياب، لكن مشروع الجيوسي، الذي عملت فيه على ترجمة مختارات من الأدب والفكر العربيين القديم والحديث، وإنتاج أبحاث ودراسات وتآليف ذات بعد موسوعي، جاء ليسدَّ هذه الفجوة، وليرسي إطار عمل تحددت ملامحه بقوّةٍ في الأكاديميات الغربية، من دون أن ترافقه احتفاليات أو ضجة تروّج لجدواه أو تصفق لصاحبته، لأنَّها أخلصت خلال انشغالها الطويل به، في نقل علامات من الثقافة والفكر العربيين القديم والحديث إلى الآخر، ذلك الذي بقي يراوغ في الاعتراف أساسًا بمكانتنا التاريخيّة في الحضارة الإنسانيّة، ويتعامل معنا بمنأى عن إرثنا وحاضرنا، وبلا اعتراف فعلي حتى بوجودنا الثقافي. وقد استمرت في تغيير هذه الصورة عمليًّا، حتى اللحظات الأخيرة من حياتها.
لم يُقْدم أحد على تدوين تجربتها ودراستها، سوى ما أتاحته بعض المقابلات الصحفية واللقاءات التلفزيونيّة والكتابات المتناثرة عنها، وهي لم تعرض نفسها كبطلة استثنائية وهي تخوض غمار عمل استثنائي، خدم الثقافة العربية، وقدّمها على نحو أصيل لعالم، تتشابك فيه المصالح وتهيمن عليه الانحيازات.
تفصح قراءة ما أنجزته الجيوسي، عن استعادة ذلك الزمن العبقري من تاريخ ثقافتنا إبّان عصور الازدهار والتأسيس للحظة حضارية فريدة، ما تزال تتجلّى منجزات أعلامها الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة في المعارف والعلوم والآداب، إلا اشتغلوا عليها بحثًا ودراسة وكتابة، وما تزال حاضرة إلى اليوم، بما خلفوه من إرثٍ لنا وللبشرية، لكنَّها بقيت بعيدةً عن التداول، لقصور المؤسسات والجامعات العربية والإسلامية عن رصدها، وإعادة نشرها، ومقاربتها مع ما أُنجز في العصور الوسطى والحديثة.
انهمكت الجيوسي في مهمتها هذه، لإدراكها بأنَّ العرب اليوم، يعيشون لحظة هشّة، مسكونة بالبكاء على الأطلال، وأنَّهم غير فاعلين، وليست لديهم أحلام في التوقف عن الجأر بمظلوميتهم، فغابوا عن المشاركة في المنجز الحضاري العالمي، ولكي يعوضوا خسارتهم، استعاروا المنجز الغربي، وتمثّلوه، لسدِّ فجوة عجزهم، ولم يؤصلوا للاشتباك مع العصر حضاريًّا.
وفي هذا النطاق، قرأت واقعنا المعاصر، ورأت ما يعتريه من تردٍّ، وسبرت عمقَ الفجوة الهائلة بيننا وبين من نتمثل منجزهم. في المقابل، لمست انسحاقنا تحت أقدام ديناصور الخوف والتردّد والشعور المتفاقم بالعجز عن الفعل والإنتاج والتفكير، ولم تجد في هذا المُناخ القاتم، ما يحمل أي تباشير، تذهب نحو التخفيف من قتامته، سوى أن تتقدم هي، لتفتح بابًا، تقدّم فيه ما يمكن أن يفتح أبواب مشاريع عربية أو إسلاميّة أخرى على هذا المنوال، في عالم يتسابق مع الزمن ولا يتوقف لرؤية المتلكئين يراقبونه عن بعدٍ بحسرة، أو يقلدونه بارتباك.
لم يكن أمام السيدة التي كرّست حياتها بنشاطٍ وحيويّة للعمل الثقافي والمعرفي والأكاديمي، سوى أن تصرَّ على المضي في عمل، تجلّت إرهاصاته الأولى في رحاب أجواء احتدم فيها السجال بين التراث والحداثة، وسط التباس التفسير والفهم لهما في مراكز الثقافة العربية الناشئة: القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، في أواسط القرن العشرين.
ولم تكن هذه الأجواءُ وحدها، من أسهمت بدفعها للاشتباك مع اللحظة العربية القاتمة، بكلِّ ما فيها من توقٍ للتغيير والانتقال من الانكفاء على الذات إلى المشاركة الحيوية في الثقافة العالمية، بل كان هناك دورٌ للعالَم الصغير الذي عاشت في كنفه، أسرتها، تلك التي أتاحت لها حرية التعلّم والتنقل بين أكثر من عاصمة ومكان؛ ما منحها القبض على قتامة الواقع العربي بتفاصيله الموجعة، ورأت ما يركض العالم إليه من تقدّمٍ علميٍّ وفكريٍّ وثقافيّ، وما نخمد فيه نحن من ضعف وهزال.
منذ بداياتها؛ عندما بُشّر بها كشاعرة، وهي بعد في سني عمرها المبكرة، حتى سجالاتها مع حركة التجديد الأدبي التي كانت تحتدم في مراكز الثقافة العربية، وتحديدًا في بيروت، أدركت أنَّ مهمة التجديد والتطوير والمعاصرة، لا يمكنها الجلوس على مقعد المحليات الضيقة، وأنَّ العرب لكي يكونوا فاعلين، عليهم خلق مساحة من السجال المعرفي مع الآخر، لفهمه وتفهيمه، وعدم تغييب إرثهم وحاضرهم عنه، لكي يكونوا مؤسسين لا تابعين، فتوقفت أمام التباينات التي تُخلّقها عصور الانهيار عادةً، وما تنهمك فيه من صراعات، بين من يرفضون الماضي بذرائع ترى فيه وجهًا للتخلف، ومن يرون فيه مددًا للحاضر، وأساسًا لا يمكن هدمه، بل البناء عليه.
وتحت وقع مطالب "الحداثيين" برمي التراث في سلة المهملات، والاستغناء عنه للذهاب إلى استعارة منجزٍ جاهزٍ لبلورة وجودهم، وهو المنجزُ الغربي والاتكاء عليه، أصبح العرب مضبوعون بما ألقته جحافل الاستعمار الغربي من خراب في المنطقه، لكنَّهم أمام فداحة ما أصابهم، أُخذوا بهذا الاستعمار ورموزه الثقافيّة والحضاريّة، عندما رأوا تفوّقه وقوّته.
لم يكن السجال المحتدم بين المأخوذين بالحداثة بكل مقاساتها والذاهبين لاستراجاع الماضي، ليمكّن العرب من تحقيق أي انتقال من التبعية للمستعمر إلى الاستقلالية والنهوض، بل إنَّ ذلك هشّم مشاريع تأصيل الثقافة والنهل من التراث، لبناء أساسات متماسكة عليه، تنتج في نطاق يتيح التفاعل معها، ودون استغراق طويل النفس في فهم تبايناته، بل معايشته والمشاركة فيه؛ من هنا، لمست مدى الحاجة للتوزان في فهم العصر، وتأسيس ما يدفعنا للذهاب نحو التقدم والتطور، بعيدًا عن التسمّر فوق كرسي المظلومية التي أصبحت ديدننا في تبرير عجزنا عن اللحاق بركبه، ورأت أنَّ الخروج من كهف المظلومية، لا يتأتى إلا بمشاريع كبرى، تنتشل غيابنا عن خريطة العصر.
وبالفعل؛ لم يكن هناك أيّ مبادرات لأيّ مشاريع ثقافية عربية كبرى، مع بدايات بلورة "الدولة القطرية"، وانهماك السياسيين والمثقفين في تخليق ذرائعهم، لبناء دولٍ تأسست على خرائط "سايكس وبيكو" الاستعمارية، في وقت كانت الحاجة فيه ملحة، لمشروع تتوحد فيه الجهود، لدخول العصر والمشاركة فيه، في نطاق لا يطلق الرصاص على الماضي، ولا ينبذ التقدم والتطور.
وفي اللحظات الحضارية الحرجة، تتخلق الرغبات الفردية في انتشال ما يمكن انتشاله من أحلام النهوض، وقد كان للجيوسي التي بقي مشروعها برغم أهميته، بعيدًا عن التناول والقراءة العميقة لتأثيراته، أن تصدت لجزءٍ من هذه المهمّة، وعلى نحو وزانت فيه بين التراث والمعاصرة في نقل الثقافة العربية إلى العالم، وتحديدًا العالم الغربي الذي ظلَّ منكفئًا على نفسه في ملامسة ثقافتنا ومتعاليًا علينا.
نشرت الجيوسي في بداياتها ديوانًا شعريًّا، لكنَّها انقطعت بعدها عن الشعر، ولم تنشر ديوانًا تاليًا إلا بعد عقود، مدركة وفي وقتٍ مبكرٍ، برغم شغفها بالشعر، أنَّ مهمّتها لا تقتصر على كتابته، فسعة الثقافة العربية وشموليتها، أكبر من الانطواء على نوع بعينه من المعارف والآداب، ورأت أنَّ التوقف عند الشعر في العمل على مشروع حضاري، لن يكون المهمة التي ستقدم الثقافة العربية إلى العالم.
وبعد أن تبدت لها المهمّة التي ساندها فيها، عملها الأكاديمي في أكثر من جامعة عربية وغربية، تبلوّرت رؤيتها التي حملت بذورها إبّان مشاركاتها في السجال الخمسيني حول التراث والأصالة والمعاصرة، وقيّض لها في ظلِّ حاجة المراكز الغربيّة للتعرف على الثقافة العربية من مظانها الأصلية، الحصول على تمويل لمشروع، يمكنها من ترجمة أعمال عربية إلى اللغة الإنجليزية.
كانت تلك لحظتها الكبرى في اقتناص الفرصة، وتكريس مهمتها لهذا العمل، الذي ستتبنى فيه ترجمة طيف من المنجز العربي، دون أن ترهن مهمتها لشروط الممولين والمانحين، لأنَّها أسّست عملها على مداميك علميّة أكاديميّة، لتنشئ بذلك "مؤسسة ثقافية فرديّة"، تختار فيها الأعمال المعاصرة والقديمة، وترسم الخطط لإنتاج أبحاثٍ ودراساتٍ وكتاباتٍ في الثقافة والحضارة العربيتين وترجمتها.
كانت الترجمة مفتاحها للاتصال الحضاري، ونقل روح الأمة إلى العالم، بعد أن بدأ النسيان والمحو والغبار يجثم عليها، فحطّمت جدار العزلة العربيّة، ورأت أنَّ الإقامة في مجاهل النسيان، سيفاقم المأساةَ التي تعيشها أمّةٌ، كانت شمس المعارف هي من تلحق بها في عصور الذهب والأنوار.