تشكّلاتُ السخريةِ في روايةِ (بيضة العقرب..السيرة السرطانيّة) لمحمود عيسى موسى.

عطاف جانم
كاتبة أردنية
في ثمانينيات القرن الماضي تعودنا أن تكونَ المكتباتُ ودورُ النشرِ والصحفِ والروابطِ الأدبيةِ مراكزَ للمعنيين بالهمّ الثقافي، غير أن الوضعَ كان مختلفًا في إربدَ، حيث كانت صيدليةُ الشمال وعيادةُ الدكتور إبراهيم الخطيب -رحمه الله-، ومركز هاشم غرايبة للأسنان، ومنازل الأصدقاءِ مثل ناجح الخطيب وسليمان الأزرعي، روابط َ للكتاب قبل افتتاح فرعٍ للرابطة هنا، في عروس الشمال. وبعد ذلك أيضًا ظلّت أبوابُ الصيدليةِ كما هي أبوابُ قلبِ صاحبِها الروائيِّ والفنانِ التشكيليّ والدكتور محمود عيسى موسى مشرعةً على مدار الأسبوع، على محدوديةِ المساحةِ المخصّصةِ لمكتبه وضيوفه. فلا تكادُ "غلايةُ" قهوتِه بحجمها الكبير تبردُ على الطاولة، كما لا تغيبُ صورةُ الشاعرِ "خالد أبو خالد" عن حيّزها على الجدار منذ عقود، وظلّت صيدليته ملتقى للجميع أدباء وفنانين وأكاديميين ومبدعين على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم الفكرية أو السياسية، وملاذاً للقلوب وأريكةً للمتعبين، وصندوقَ بريدٍ لكثيرٍ منا قبل دلالِ التقنيات، فيها نتداول الشعرَ والنثرَ والكتبَ والهمَّ القوميّ، والمناقشاتِ والمثاقفاتِ، والقراءاتِ لما يستجد، والاطلاعَ على المخطوطاتِ قبل النشر، وغير ذلك من هموم ومواضيع..
حين عرفتُه كان خليةَ نحلٍ مجتمعة، من أنشطِ أعضاءِ الرابطة وأكثرِهم فاعليةً، منشغلاً بالفن التشكيلي والشعرِ والروايةِ والمسرح، لوحاتُه وعشراتُ المعارضِ التي شارك فيها تشهدُ على تميّزهِ وبراعتِه في هذا الفن، كما كانت أولى إصداراتِه (محمد مريش.. سيرةٌ ونقدٌ تشكيليّ) ليقلَنا بعد ذلك بقاطرة الدهشة لسلسلة من الروايات بعوالمها المدهشة التي حطمت دون أن تجاهرَ أقفالَ "سايكس بيكو" موسعةً فضاءاتِ بلاد الشام. ابتداء من (حنتش بنتش) عام 1995 ولن تكونَ انتهاء ب(حبيبتي السلحفاة) 2020.
في هذا الملتقى - صيدليةِ الشمال- تعرفتُ منذ بداياتي على رموز الحركة الأدبيّة والثقافيّة في إربد: (ومع حفظ الألقاب، والرحمةِ على روح من غاب ولم يغب): "خالد ابو خالد، نايف أبو عبيد، سليمان الأزرعي، نمر حجاب، إدوارد حداد، ابراهيم الخطيب، ناجح الخطيب، هاشم غرايبة، حسن ناجي، محمود الشلبي، محمد مقدادي، ناريمان الروسان، ومنيرة قهوجي، ويحيى يخلف، ونضال القاسم، وأحمد الخطيب، وعمر أبو الهيجا، خليل قنديل، وسواهم كثير، وليعذرْني من لم أذكر اسمَه."
ولا أكاد أجدُ وصفًا أدقَ لمحمود عيسى المبدع والإنسان مما وصفَه به صديقُه الأديبُ محمد رفيع ب(الجبل)! كيف لا يكونُ جبلًا ونحن نتهرب من مجردِ تسميةِ مرضِ السرطان باسمه فنكني عنه ب( هذاك المرض) أو (بره وبعيد) وإذا ما تجرأنا وسميناهُ نطقنا اسمه بالإنجليزية ! CANSEL
أمَّا محمودٌ فقد سمَّى روايةَ مرضِه ب(بيضة العقرب.. السيرةُ السرطانيّة) ومضى يكتب سيرةَ المرضِ في جسده! لتكونَ روايتَه الرابعة ربما بتحريض من هاشم غرايبة ومؤنس الرزاز، وتحايلٍ من ابن عمَّتِه الدكتور حسن نمر حجاب. بعد أن لاقى ذلك في نفسه هوى. فالكتابةُ عندَه كما يقول: تسحرُه وتسكرُه وتبلغُ به مصافًا عاليًّا، أنسته آلامَ السرطان وفُحشَ الكيماوي، وأسهمت إسهامًا فعالًا في شفائه من المرض!
(بيضةُ العقرب) إذن هي روايةُ السيرةِ المرضيّةِ التي مرّ بها الروائيُّ في بدايةِ الألفيةِ الثانيةِ تقريبًا، حينما اكتشف مرضَه أولَّ مرةٍ خلسةً وسَط ثلةٍ من الأصدقاء في جَلسة أُنس بعد ألم شديد صعد إلى وجهه قبل أن يكتمَه، ويعودَ للغناء والفُكاهةِ التي خدمته في التخلص من حرجِ موقف وجد نفسَه فيه. وتتحدث الروايةُ عن تفاصيلِ مرضِ السرطان الذي عانى منه معاناةً قاسيةً ليست أهونَ منها تلك الأزماتُ النفسيةُ التي تسببت عنها، ودارت بينهما معركةٌ شرسةٌ، وشُفي منه والحمد لله، وقد تعددت الأحداثُ المُرةُ خلال هذه الفترة واحدًا إثر الآخر؛ من مرض الأب الذي رحَّل بسببه محمود البدءَ في العلاج لثمانية أشهرٍ تالية، إلى اعتقالِ الأخ، فموتِ العمّاتِ الثلاث واحدة إثر واحدة.
وقد اعتمدَ الروائيُّ في روايتِه على أسلوبِ المشهدِ والتقطيعِ والاهتمامِ بالتفاصيل الدقيقةِ بأسلوبٍ ساخر، هدفُه من وراء ذلك مجابهةُ هذا النوع من الأمراض بشَجَاعة بالغةٍ، وعدمِ الرضوخ والاستسلامِ للرعب إذ إنَّه مرضٌ ككل الأمراض يمكن التعامل معه بصبر وشَجاعة، ويرسلُ من خلالها رسالةً غيرَ مباشرةٍ لزملائه السرطانيين كما وصفهم!، خاصةً وأنّ الأعمالَ الروائيةَ التي تناولت تجربةَ السرطانِ نادرةٌ في الأدب العربي·
وقد تبدو (بيضة العقرب) للوهلة الأولى مجرّدَ سيرة ذاتية كما نوهْتُ من قبل، لكنَّه يراها أكثرَ من ذلك؛ فهي كما يقول "سيرةٌ ذاتيةٌ للعالَم وليس لشخص بعينه"، وقد استعان في هذا المجال ب(الرزنامة) أو الأجندة ليربط َالمفاصلَ البشعةَ والفاجعةَ في تاريخِ الدنيا مع تاريخِه الشخصيّ، فمثلًا حين يتحدث عن جُرعةِ الكيماوي ذكَر باليوم والتاريخِ القنبلةَ الذريةَ وهيروشيما·
وتكادُ السخريةُ في السيرةِ السرطانية أن تكونَ منهجًا اعتمدَه الكاتب في روايته، ربما لأجل رفعِ روحِه المعنويةِ أولًا؛ والحفاظِ على نشاطه الذهني وعدم الاستسلامِ لكآبةِ المرض، وقد لاحظت خلال قراءتي للرواية أنَّه كلّما استبدَّ به المرضُ أو الألمُ الجسديّ أو المعنويّ فرّ الى الدُعابة والنكتة والسخرية.
إذن أسلوبَ السخرية أو مفارقةِ الاستهزاء والفُكاهةِ والدُعابةِ وغير ذلك من التسميات التي تصبُّ في المفهوم نفسه في روايةِ محمود عيسى، انسحب أيضًا على العناوينِ الفرعيةِ داخلَ الرواية، فلم تنج في معظمها من روحِ دُعابة أو ومضةٍ ساخرةٍ او نكتةٍ مضحكة. تستلُّ الوجوم وتَبْذُر الضحكَة على الملامح الجادة الصارمة!، فمن تلك العناوين ( امرطْ بيضةَ العقرب ) ( وطاقيةُ الإخفاء ) (امطوّل؟ الكعبورات ) (صوّر يا مصوّر) (مقدمة ٌمنها.. ليدز فيرست) (مقدمةٌ مني: الخباثة ) (الفيروز ولائحةُ حقوق السرطان)..الخ . .
أهي رشوةٌ ذكية من الراوي كي تتابعَ القراءةَ هاشًّا باشًّا؛ أم إنَّه مصلٌ ضد الألم ؟!.
• اللغة
واستطاع محمود في روايتهِ هذه السيرةِ السرطانيةِ بما أُوتي من مهاراتٍ أن يحوّلَ اللغةَ البسيطة َوالمحكيةَ الدارجةَ والعاليةَ والرشيقةَ روايةً؛ موظفًا تقنياتٍ عديدة لتقعَ في نفس القارئ حيث شاء لها من ناحية، وليحقّقَ مبتغاه من الكتابةِ من ناحية ثانية، فاللغةُ العاميةُ عندَه تزاحمُ الفصحى طريفةً ساخرةً، تدخلُ النصَّ على جَناح نسمة في عفويةٍ محببة، في أوج ساعاتِ القلق المفترض، لتعملَ - هذه اللغةُ - على تعزيز الروحِ المعنوية له ولمحدثه وللقارئ وتكونَ الأقربَ إليه.
ففي حديثه مع قريبتِه الممرضةِ في المشفى قبيل العملية، تقول له:
"- سلامات ابن الخال، خير؟
غمزتُها، ففهمت قصدي، مجردُ فَتقٍ بسيط لكيلا يعرفَ جمال. قرَأتْ الملفَّ (غرْشتْ)، ولم تعد تسأل، (طزعتني) الممرضة حقنة "البثيدين" استعدادًا للتخدير" الرواية ص 64
وفي موضع آخر:" أطلَّ الدكتور إبراهيم الخطيب من باب غرفة العمليات، وهو يضحك كعادته قائلًا:
- صنديد أبو العيس صنديد.. ضحكنا"
وأيضًا: "وأُدخلت بعدها غرفة العمليات، بست التوبة من هون ومن هون، ها أنا أكتب، أمركم على عيني وراسي، ارتحتم؟! ارتحت يا حكيم يا ابن عمتي؟! ارتحتِ أيتها المرأة المعذبة؟!" الرواية 33ص.
وفي موضع آخر يقول: "نظرتُ إلى وجه الدكتور حسن الذي امتقع بٍهَمٍّ وغمّ، قلتُ محاولًا ترطيب الجوّ:
- والله يا خال ما بدهم يهنوني بالسرطان، ضحكنا معًا." الرواية ص94
ولم يقتصر استخدامُه للهجةِ العاميةِ المحليةِ بل اتسع ؛ ليستخدم بعض اللهجات العربيةِ والأجنبيةِ أيضًا؛ إمعانًا في نشرِ جوٍّ من الحبورِ والفكاهة؛ مثلًا :
"قلبي راح ما يوقف عندما زعقت موظفة معنا كالبومة لا تعرف مدى قربك منا:
- مات محمود عيسى موسى!!
لقد دمرتنا يا رجل!."
فكان ردُّه على هلع تلك الصديقةِ :
- آسف ما كانش أصدي".
كذلك في موقف آخر وقد دعا أصدقاءَه لأكل الكرز، فتعجب من ضحْكهم، ثم قال أحدهم مصحّحًا:
"-هايدا جَرَنِك ْيا محمود!"
• من أساليب السخرية في الرواية.
وقد استضاف الروائيّ في السيرة السرطانية أساليبَ عديدةً للسخرية؛ كالحوارِ بأنواعه، والتلاعبِ بالألفاظ والاشتقاقاتِ والتكرار والغناء والصورة والوصف، بل إنّنا وغالبًا ما نجد تقاطعاتٍ لأكثر من أسلوب للسخرية في العبارة الواحدة.
1- الغناء.
ونجد مقولة (إن كثرت همومك غنيلها) مترجمةً في غير موضعٍ من روايته، وقد تعددت أوجهُ الغناءِ المستخدمةِ في الرواية؛ فمنها الغناء بالفصحى أو العاميةِ، والزجلِ الشعبي، وما إلى ذلك. لنستمعَ لقوله:
"رحت أشرب وأشرب ما يزيد عن حاجتي النفسية والجسدية وبما يفيض عن حاجة حرب المواجهة بيني وبين الكيماوي، باب الثلاجة أثقلته زجاجات الماء."
ومن ثم يداري ضيقه بالغناء:
"باب الثلاجة ببابين، قفولة ومفاتيح جداد، علبوابة في عبدين، الكيماوي وعنتر بن شداد" الرواية ص192"
وفي موضع آخر يقول: "أخبرني الطبيب أنّني مصاب ب ( USA)، ضحكت، استغرب الطبيب وقال: ما بك؟. قلت: ما أعرفه أننّي مصاب بالسرطان، أمَّا أن أُصاب بأميركا فهذا أمر في غاية الغرابة!
ضحكنا معًا.
بعد أربعةِ أشهر أَجريتُ عمليةَ القسطرة
وقسطرة مشي العرايس قسطرة".
ولم يكتف بذلك بل جعل الكيماوي أيضًا يغني، ويقول مثل الناس بل مثل فيروز :
"لما لمحته وطل صرت ملبكي
وعرفت أصده، وألت بده يشتكي
فتشت عكلمة تافتح له حديث
وِقْفت وقف واتنينا نسينا الحكي
ومن يومها عم نلتئي ونئعد سوى" الرواية ص 231
وقد ثبت طبيًّا أنَّه بعد الغناء يكونُ تأثيرُ الكورتيزول(هرمون التوتر) أقلَّ ويرتفعُ مستوى الأكسجينِ في الدم مما يحسنُ مزاجَ المتلقي، في حين أنّ الغناءَ بصوتٍ عالٍ يحفِّزُ عدةَ مناطقَ في الدماغِ، ويعزّزُ المناعةَ ووظائفَ الرئةِ، ويسهمُ في الشفاء من الألمِ الجسديِّ والعاطفيِّ والنفسيِّ، ويمنحُنا شعورًا إيجابيًّا وصحيًّا.
2- التصوير
وتتفاعلُ ثقافةُ محمودٍ الواسعةُ وتجاربُهُ العميقةُ في نفسِه، فيشفّ وينصهر في لغة يتعتق فيها فرحُه ومرارةُ حزنه حين يتحدثُ عن ثلاثِ خروبات، ثلاثِ عماتٍ كنَّ له كنبعِ الحنَّانة، وخاصّة عمّتُه الشلبيةُ "أشلب بنات إجزم " كما وصفتها أمُّه. عمتُه حسنية أمُّ حسن، فيتخلى عن أصابِعِه عند الكتابةِ عنها لتسيلَ روحُه كلامًا عامرًا بالتشبيهاتِ العفويةِ الأخاذةِ المحببةِ المعطرة برائحةِ الفاكهةِ الطازجة والفُكاهة؛ حين يقول:

"كانت تشيل العرسَ على رأسها وكأنَّها تحملُ طبقًا من القش، تقيم عرسًا بالطبة، غصبًا عن الطبيعة!" الرواية ص.161
وفي موضع آخر يقول: "أكلتُ الكيك من يديها بنهم كلب جائع، في الأيام الأولى من زواجها، أجلستني كضيف مهم على الكرسي، وأكلت الكيك مثل البيك حتى (انفزرت)، ما أجملَ ثيابَها، ما أفخم البير والمرآة الكبيرةَ فوقَه التي نظرتُ فيها فرأيتُ حالي كجروٍ صغير!"
لقد حوَّلَ التصويرَ إلى لعبةِ كرة، يصوّبُ رميتَها في الاتجاه الذي يريد، ربما كي يخفّفَ من أثقال الروح وقد تضاعفت باعتقال أخيه رائد في ليلة القدر، وقبيل الإفطار بدقائق! يقول:
"في سنةٍ كبيسة الأحداثِ والتفاصيل التي زرعها (الوًش ) في رأسي.
يستدرك: الوٍش أحسن من القفا
كل السنوات بعد سنة ال48 كانت كبيسة الأحداث والفصول بالنسبة لنا نحن الذين اقتلعنا وشردنا عنوة وظلمًا، وشيش.. وشيش.. خمسة بستة."
انظر إليه كيف خرّج القارئ وخرّج نفسَه على جَناح الهزل والنكتة من ثلاثية المعاناة والألم الجسدي وسجن الأخ، وتبعاتِ احتلال الأرضِ والاقتلاعِ من الجذور.
3- أفعال الأمر
ويتعالى محمود عيسى على تباريحِ الألمِ والأعراضِ الجانبيةِ للكيماويّ، حينما أمرَه هاشم غرايبة ناصحًا بكتابةِ سيرتِه السرطانية، كررها وأكثر من مرة: اكتب.
- أصابعي الآن شبهُ معطلةٍ يا هاشم؛ بسبب التنميلِ والخدرِ الذي يسري في يدي، وأجدُ صعوبةً مع القلم.
قال:
- ماله سجل بصوتك، احْمٍلْ آلة التسجيل حتى لا يضيع منك ولا نتفة.
- مني وإلا من القصص.
ضحكنا، والضحكُ ليس عيبًا ولا حرامًا".
وتتكرر صيغُ الأمرِ الساخرةِ في مواضع كثيرة، فمرةً يسخر من المرض، وأخرى يسخر من نفسه؛ كأن يقول:
"أيّها الكيماوي وين بدك تروح ؟! المجرم لا بدَّ وأن يترك أثرًا يدلُّ عليه، الرائحة دلت عليك، وأنا مثل كلب الأثر، كشفتك، اطلع من البرابيش، علينا يا ازعر".
فأيّ تحفيز للروح يا محمود، وأية سخرية تتعالى على المرض؟!
4- الحوار.
وليس لمثل محمود أن يتركَ لحوارٍ أن يمرَّ مع أحدِ أصدقائه دون أن يميدَ الجوُّ بالسخرية والفرحِ، فكيف إذا كان هذا الحوارُ مع فايز محمود، أو مؤنس الرزاز؟
اقتطف من حواره الذي بدأه مع فايز محمود:
-قال شو طالع معك الكذا مذا اللي ما بتسمّى.
فأجبته: وأنت الصادق، طلع معي الهيك هيك، طلع معي الهاظ والهظاك..بعيد الشر برة وبعيد الله يبعدنا عنه. طلع الخايس، طلع الماخوذ، طلع اللايذ من اللايذات، طلع إليّ ما بتسماش.
فعلّق فايز: يا أخي طلع سرطان، خلصونا.
مؤنس الرزاز اتصل بي بالهاتف النقّال، كان يضحك ضحكتَه الثخينة المعهودة، ضحكتَه المجلجلةَ الساخرة: مبروك مبروك يا محمود، مبروك السرطان يا محمود.
قلتُ له: أنا مغتبط يا مؤنس بهذا الاتصال، أجمل مكالمة وأعظم تهنئة تلقيتها. وواصلنا الضحك إلى الأبد."
هل كان محمود يضعُ نصبَ عينيه أنَّ هذا الضحك الذي انتقل كالعدوى بينَهما، أو بينه وبين أصدقائه، له ما له من تأثير على وظائف الجسم، وهو يدفع بالأكسجين إلى الرئتين، وينشّط الدورةَ الدموية؛ فيتصدى الجسم للمرض في مقاومةٍ شرسة!!؟
وقد لاحظتُ من خلال حواراتِه مع أصدقائه المتوجسين والخائفين عليه، أنّه هو من كان يبادرُ ويطمئنهم، أنَّه بخير، وأنَّه رغم قسوة الألم، السرطانُ قابلٌ للشفاء ومواصلةِ الحياة! بل كان محمود يقلب الغمَّ والهمَّ فرحًا!
5- حواره مع الكائنات والجمادات
أنسنَ النباتاتِ وحاورَ الجماداتِ ومازحها، وبثَّ فيها من فيضِ روحِه، فمرةً يحاورُ المرآةَ ويناورُها، ومرةً يشتغلُ بالسرير!
قال مناديًّا سريره:
" -يا ستاش، التفت نحوي، كيف تجدُني؟
- هادئ، حركتُك خفيفة.
- كم مرَّ عليكَ من المرض؟
- بل قل كم سيمرُّ بعدَك؟
وراحَ يزقزقُ ويضحكُ بصوتٍ أزيزي.
-افْهَم يا عزيزي السرير، أنا لا أحب الزيارات، ما هي إلا مجرد عبء.
- وأنا هيك "
وإذا ما عاد لبيته حاور صباراته مداعبًا:
"فتحتُ الباب على مصراعيه، فنهضت نباتاتي من أسرّتها الفخارية والحديدية والبلاستيكية، قالت كلُّها بصوتٍ واحد:
-قيام، صباح الخير.
ابتسمتْ: صباح الصبر والنور.
حملتُ دلوَ الماء، والماءُ يكبكبُ من حوافه ويطرطش.. ورحت أَسقيها في فمها واحدةً واحدة، حتى سمعتُ شهقةَ الارتواء، القُنفذةُ الصغيرةُ قالت: ذلوس كانت ما زالت تلدغ: أي جلوس"
الصباراتُ التي كان يحاكيها ويحنُّ عليها كانت زهورُها حين تتفتحُ تشرقُ في قلبه، وتنفخُ فيه الصبرَ فلنستمع إليه وهو يقول:
"تفتحت أزهارُ الصبارةِ العاشقةِ إبيفيليوم (إبي في ليوم) ففرحتُ كأنَّما كانت ظلمة وبزغ ضوءٌ في لحظةِ سهو، ففهمتُ معنى المقاومة. الرواية ص 12.
لم يكن دلو الماء وحده الذي يكبكب ويطرطش بل لغته أيضا!
6- الوصف.
وأغبطُ قدرةَ الراوي على الوصفِ الساخرِ مع معاناته الشديدة لمرارة الألم. هذه القدرةُ التي لا يطيقها إلا مثقفٌ واسعُ الاطلاع مرنُ الفكرِ والطباعِ، تمكّنت منه روحُ الدُعابة والمُزاح، وقد كسر في الوقتِ نفسِه جمودَ اللغةِ ورتابتِها، فمثلاً يقول:
"البابور رسمتُه في لوحةٍ زيتيّةٍ من لوحاتِ معرضِ الصُلَعاء الأخير، واستبدلت برأسِه رأسَ شخص أصلع، وأدرتُ فيه النار.
بابورٌ هادرٌ لا يهدأ، لا ينطفئُ، لا يكفُّ عن الوَش، لا في الليلِ ولا في النهار، ولولا نعمةُ الأذنينِ من هون ومن هون لطقَّ رأسي، كما يطُق أيُّ شيء وتناثرت عظامي.
قالوا إذا حبستَ القطَ انقلبَ أسداً، ولم يقولوا إذا حبست البابورَ انقلب لغمًا." الرواية38
وفي موضع آخر يقول:
" خُيّل إليّ من كَثرةِ العطشِ وقَسوةِ الجفافِ والحلقِ الملتهب بأنَّي سأشرب بركة البيبسي، واعتقدت أنّ الشركةَ أعدتها لمثل هذا اليوم المشهود، لم أحبُّ البيبسي كما أحببتُه في الحروب السابقة، لا في حرب النكبة ولا النكسة، ولا حتى في حربِ الخليج، أحببتُ بلا عاطفة: مذاقَه، حلاوتَه، سلاستَه، ولذعةَ الصودا. همت به بلا هيام حتى صار أكلي وشربي، عندما جُنَّ جنونُ معدتي، وباتت سخيفةً وخائفةً، وغيرَ واضحةٍ ومرتبكةٍ، وغيرَ مستقرةٍ؛ فقدتُ التحكّمَ بها والسيطرةَ عليها.
-ألا يستطيعُ الإنسانُ أن يمونَ على معدته؟ قلت عنها سائبة، دلوعة، تحملْتُ، سكتُّ، فتمادت وكثرَ غنجُها أمام اللقمةِ الصغيرة.ِ قلت عنها مغناج.. تتغنجُ فتردُ اللقمةَ إلى حلقي، تعاكسني، أنا أشدُّ من هون وهي تشدُّ من هون. ينقطعُ الشدُّ فأتقيأ عصاراتِ الغنجِ والدلع! الاستفراغُ مع البيبسي لم يكن مقزّزًا .. كان قاسيًا، لكنّ طعمَه لم يختلف لا في الدخول ولا الخروج، وداعًا أيها البيبسي، وداعا للسلاح، وداعًا للحب الطائش، كان حبًّا مثلّجًا بريئًا صادقًا، لم نفكر بالزواج لم نكذب."
7- التكرار والتلاعب بالألفاظ
-هل يستطيع أخي رائد أن يتدبر الأمر؟!.
-يستطيع.
-الله بفرجها كما يفرجها دائمًا.
صفحة الأجندة تشير إلى أنَّ الأسطول المصريّ قد انتصر على الأسطول اليونانيّ في موقعة سحبالا، في مثل هذا اليوم من سنة 1824 ميلادية.
سحبالا
سح بدنه
سح وإلا خطأ
صح."
فقد خدمه التكرار في الخروج من همِّ الضنك الماديّ وهمِّ المرض مضفيًا جوَّ الفكاهة على ذاته وعلى القارئ! وانظر إليه كيف يلجأ إلى تحريف الكلام أو والتلاعب بالألفاظ، حين يقول: "كي تجهزَ علي وتفترسَني قبل أوان الحتف، حتف علينا الزمان بالثلاث، حكم.."
"فبتُّ لا أدري كيف ستكون عليه المقاومة؟.. ولا أدري أيضًا إن كان من حقي أن أطالبَ بحقّي، أم أنَّه ليس لي حق مذ ضاع الحق في الدنيا؟".
هل كان هذا التلاعبُ، وذاك المنولوجُ الداخلي معينًا على مواجهةِ واقعٍ عائلي أمرَّ من المرض، لينقلك على جَناح كلمة من الضيق إلى الابتسامة.
ويقول في موضع آخر:
"سي تي سكان.. تصوير طبقي..صورة طبقية.. وليست إسكان للأطباء أو الصيادلة أو المعتقلين!
بالأمس اعتُقل أخي
ما دخل الاعتقال بالصورة!
ما دخل رمضان بالمصائب"!
• الخاتمة
لغةٌ ساحرةٌ، ساخرةٌ، مشرقةٌ حيويّةٌ، تشرقُ من أتلامها وشقوقِها أساليبُ السخريةِ المتعددةِ، والدُعابة المحببةِ التي تلفت انتباه القارئِ؛ فيروّح عن نفسِه ويرسل إلى قلب القارئ رسالتَه، فيتابع قراءتها مبتهجًا مستمتعًا حتى السطر الأخير؛ لتظلَّ بعد ذلك ساريةً في القلب. وأرى أنَّ هذه الروايةَ يمكنُ تسجيلها - كماركة تجارية - لو جاز التعبير- لِلُغةِ محمود عيسى موسى، ومنهاجهِ وروحِه، وقد تماهت فيها سماتُ الروايةِ والروائيّ.