الأستاذ الدّكتور نهاد الموسى: ريحانةُ النّحاة

بقلم: الأستاذ الدّكتور عمر عبد الله الفجّاوي
أستاذ الأدب الجاهليّ في الجامعة الأردنيّة
أحسبُ أنَّ جمهرةً كبيرةً من أبناء هذا الزمان قد كان لهم بالشيخ الجليل ناصع العُلْقَة، أو دَنَوْا منه بسبب، إذ لا يجوز لمن رام العربية: نحوَها وصرفَها، مُطْرَفَها ومُتْلَدَها أن يتصدّف عن لقائه والاستماع إليه والارتحال، للنَّهل من شريف علومه، فقد انتهت إليه علوم قلّ أن يحيط بها أحد من أخدانه، أو يأتي عليها واحد من أقرانه، فهو صاحب اللسان الرّصيف، والفَيِّهُ اللَقِنُ، والحاضر البديهة، فلا تعوزه الكلمة، ولا يغيب ذهنه، وحين يستمع إليه المتلقّون، يَرجِعُهم إلى نَضير العربية، برشيق ملفوظها، وعظيم أوابدها، فسيتخرج من عصور عزِّها فرائد التعبير، ويصوغ أبكار المعاني، وتَنثَالُ على ذَليقِ لسانه عذبةً كنمير الماء.
ولعل الواقف على أدب شيخنا ومعجمه يذهل عن براعته في مخصوص طريقته في الكتابة، ونِشْوَار حديثه في القول، وهو المتخصّصُ في النحو والصرف، وقد استقرَّ في الأذهان أنَّ صاحب هاتين الصناعتين لا بدَّ أن يتلبسَّهما فكرًا وبيانًا، لِمَا فيهما من خشونة المأخذ ووعورة المسلك، فهما بالجمود مُكْتَنَفَان، وبالنِّفار عنهما متَّهَمان، حتى إنَّ الناظر في مصنفاتهما ليصاب بالرَّوْع والإِجفال، وقلّ أن تلفي واحدًا من هذه المصنفات يأخذ بنبيل العبارة، ورشيق النّظم، كما فعل ابن جني في خصائصه، إذ أحسن غاية الحسن في تجميل كلامه، مع أنَّه يتحدث في مسائل لغوية بلغت في الاستعصاء كل مبلغ.
وقد عهد مريدو الكبير نهاد الموسى في لغته وبلاغته تأثرًا بأبي الفتح ابن جنِّي، فحين يشرح درس النّحو، أو يكتب قضيّة لسانية، أو يرتجل كلمة، فإنَّه ينأى من تلكم الصَّرامة في العبارة التي تبدو لمتلقِّيها مبنهمة، وغير منكشفة، وتحتاج إلى فضل تمكُّث، حتّى ليطيل مقترئها لُباثَته، لعلّه يجد لها فسرًا أو سبيلًا إلى العبور والفهم، ويفجؤك بتنخّب ألفاظ كانت في المقام الأول ذات دهشة، ولا تستبين دروبها، فتخرج من فيه كريمة، ويطفق الشّيخ عطّافاً إلى مكنوز التراث، فيعرض درره ويبرز مكنوناته، بأخّاذ أسلوبه، وبارع مُنَّته.
ثمّ إنَّ المستمع إلى الشّيخ ليسر من نِصْبَتِه، فهو مستحضر أبا عثمان الجاحظ في حديثه عن النِّصْبَة بتأمُّلات عينيْه، وحركات يديْه، وتفريق أصابعه وتحريكها، كأنَّه يصدح بأعذب الأنغام، ولا يكتفي بهذا، بل إنّه يستعين على بيانه بجسمه، فلا يقف عند اليد وأصابعها، بل تراه بسّامًا حتَّى وهو يعلي صوته تحمسًّا للفكرة، ثمّ تراه يجول برأسه وناظريْه نحو الجمهور المستمع، وربما سمَّى دعابةً بعضَ الحاضرين، حتَّى يشعرَهم بكريم محضرهم، فتراهم لكلامه مصغيين، والبسمات بينهم وبينه متبادلة، ويحسُّ كل واحد منه بإلفه، ثم تراه وقد رفع رأسه نحو السَّقف، أو أشار بيديه، ولعله زمَّ شفتيه، أو لفَّ ساقًا على ساق، وقد تلفيه يتكلم وهو يخطُّ الأرض ببعض الخطى، وهذه كله أسلوب في العلم رفيع، وقد اختصّ به نفسه.
ولو أخذتنا الرُّجعى إلى مصادر النّحو الأولى التي يغلب أن نقرأ فيها أمثلة مصنوعة مكرورة، ولا سيّما صيغة" ضرب زيد عمرًا " فإنّنا نأنس الأنس أحسنه وقد خلَّص مرقونَ مؤلفاته ومنطوق حديثه من كلِّ هذه وأشباهها.
فقد عهدت إليه وزارة التربية والتعليم في الأردن وخارجه، من أجل أن يصنّف مع بعض الأساتذة سلاسل للنّاشئة، يتعلّمون منها ما يقيم كلامهم ويقوّم اعوجاج ألسنتهم، وساعة يقرأ أحدنا بدائع صنائعه فيها، ينسى درس النحو والصرف، ويتأنق وهو يُمتِّع باصرته ولبّه بحسن اصطفائه لمراده قي الدرس الواحد، ويلوح له أنَّ الأستاذ الشيخ قد ذرع الشعر العربي ونثره، واختار منه ما يجّمل دروس النحو والصرف، فلا تكاد تجد درسًا من هذه السلاسل إلا وفيها قبسات من القرآن الكريم، أو الحديث الشّريف، أو الأشعار، أو الأنثار، أو القصص، أو النّوادر، أو اللطائف، فيتلقّاها المتلقي بها مسرورًا، ويطلب منه أن يستخرج منها ما له بالدّرس علاقة.
إنَّ الأستاذ الشيخ قد ماز نفسه جليل المَيْز، إذ استطاع أن يستدني درسَ النَّحو والصرف إلى الناس، نائيًا بهم من جفوة الأمثلة، وقربّه إليهم، وحبّبهم به، حتى غدا مأنوسًا حميمًا، بعد أن كان مذمومًا كالأغلال في أعناقهم.
وما أجمل طريقته وهو يقع على المثال المطلوب للدّرس النّحوي، ويصوغه صياغة مفاكهة، وما زلت أذكر أنَّه ضمَّن أحد الدّروس للصّفّ الثّاني الثّانويّ اسم الشاعر الجاهلي الصعلوك "تأبّط شرًّا: ثابت بن جابر الفهمّي" تضمينًا لا يمكن لأحد إدراك مراده إلا إذا كان عارفًا اسم هذه الشاعر، فإذا عرف، غرف، وربّما انقدَّت من الضّحك خاصرته، إذ كتب المثال على أنَّه اسم رجل من أبناء هذا الزمان "ثابت جابر الفهمي" وجرّده من الصيغة التراثية، فغدا للتلميذ اسمًا كأنَّه ابن جلدته.
ومما يُذكر للشّيخ أنَّه كان يطلق بعض الطرائف التي تستفزُّ أحدنا ليبحث عنها في مظانها، فكم تعلّمنا من مزاحه وهزْلِه، وما زلت أذكر قبل زيد على خمسة وعشرين عامًا، إذ اعتلى المنصة طالبًا الحديث في موضوع العروبة والإسلام في مدرّج الخليل ابن أحمد الفراهيدي، فأنشد مستشهدًا ببيت من الشعر لطيف المعنى مبيّنًا ترابط الأمرين وتلاصقهما:
خذا أنف هَرْشَى أو قَفاها فإنَّما كلا جانبي هرشى لهنَّ طريق
فأغراني هذا أن أبحث عن هرشى، وقلتُ في نفسي، لعلها اسم مكان، فكان ما قدّرت صوابًا، وإذا هي محلّة ذكرها ياقوت في معجمه، ولها طريقان: أيَّ الطّريقين اتخذ السّائر، فقد بلغ هرشى، تم استشهد بالبيت وبقصّة رجل ادّعى حفظ القرآن أمام عمر ابن عبد العزيز، وليس هذا أوان ذكرها.
لقد رحل الأستاذ الشّيخ وقد خلّف وراءه إمتاعًا للأسماع، ونِشوارًا للمحاضرة، وكلامًا يبدو فرجًا بعد شدّة، وشفاءً للغليل، وقطرًا للندى، بلاًّ للصّدى، وسلام عليه فكأنَّ الأبيرد الرِّياحيَّ قد عناه بقوله "بتصرف":
إلى الله أشكو في (نهادٍ) مصيبتي وبَثِّي، وأحزانًا يجيش بها صدري.