قضايا كبرى في التفكير اللسانيّ لدى الدكتور نهاد الموسى

أ.د. عيسى عودة برهومة
الجامعة الهاشميّة
المتتبِّع لمشروع الدكتور نهاد الموسى تلفِتُه جُملةٌ من الأمارات المنهجيّة التي تعطي صورة بانوراميّة لانشغالاته البحثيّة الممتدة على مدار ستة عقود من الزمان، ولعل التقسيمَ الآتي يُلمعُ إلى القضايا الكبرى التي أخذت بنياط تفكير أستاذنا رحمه الله، ولا يعني تنوعُها وتعددُ قضاياها أنَّها كانت أمشاجًا لا ينظمها خيط منهجيّ، بل ترتدُّ إلى نهج قويم كان يصدر عنه الدكتور نهاد الموسى، وهذا ما سنقف عليه في هذه المقالة.
- القضية الأولى: التأصيلُ النحويّ: ساد في الفترة التي عايشها الدكتور نهاد اتجاهان في تلقّي التراث، اتجاهٌ يؤوب إليه ويتجاذب قضاياه ويقتصر على مدارسته، دون التفرّس في الأنظار الحديثة، واتجاهٌ حديث لا يرى في التراث إلا تأخرًا وتخلفًا وتصرُّمًا عن مجاراة الجديد، بيْد أن الدكتور نهاد الموسى توجّه ببصيرة مألوفة لديه، وحكمةٍ واسعةٍ في تلمُّس قضايا العربيّة وبوعي شموليّ بمسائل التراث ومنعرجاتِه، وبزادٍ بالمناهج اللسانيّة الحديثة، فأشادَ بالجهدِ النظريّ الفذّ الذي بذله النحويّون العرب في وصف الظاهرةِ النحويّة وتفسيرِها، بل كان يصدر عن إجلالٍ مستديمٍ وتقديرٍ متجدِّدٍ لأنظارهم التي اهتدوا إليها، وملاحظاتهِم اللطيفة التي تدل على بصائرَ مستنيرةٍ فذّة.
فانسرب بحثُه " ظاهرة الإعراب في اللهجات العربية القديمة" في مسلكٍ وصفيّ، وانتهى إلى أنَّ صورة النحو قد تشكّلت على نحوٍ ائتلافيّ انتظم المشتركَ بين لهجات القبائلِ كما انتظم السماتِ التي كانت تنفرد بها كلُّ لهجة، وفي بحث" تأصيل القاعدة وتحقيق النص" حاول أن يعالجَ " أصلاً" في قراءة الشعر القديم، رغبةً في أن "نحقّق" في قراءة ذلك الشعر تحقيقًا يقربنا أو يبلغنا" صورته التاريخيّة" التي صدر بها عن أصحابه. ويتراوح هذا الأصلُ في صورتِه الابتدائيّة الاستطلاعية التي يحاولها الباحثُ، بين التثبتِ في معاييرِ الصوابِ النحويّ، والاحتكامِ إلى مبدأ الاتساق النحويّ في شعر الشاعرِ الواحد، واطّرادِ الظواهر في شعر شعراء القبيلةِ الواحدة، والاستبصارِ بالتقريرات التي يذكرها النحويون في صفةِ اللهجاتِ العربيّة القديمة وما يُعزى إلى كلِ منها من ظواهرَ خاصة.
ونجده يتساءل في بحث " النحو العربي بين الثبوت والتحوّل، مثلٌ من ظاهرة الإضافة" عن انعقادِ الاتفاقِ بين جمهرةِ أبناءِ العربيةِ والمشتغلين بدرسها انطباعٌ مؤدّاه أنَّ صورةَ العربية الفصيحةِ المشتركة بين سواءِ القرّاءِ والكتّابِ منا تطابقُ أو تكاد تطابقُ صورةَ العربيةِ الفصحى التي خرّجها" الوصف" التاريخيّ الذي وضعه النحويون الأوائل. ويتكئ في الخلوص إلى رؤيةٍ مستصفاة أنَّنا نحتاج إلى دراساتٍ تاريخيةٍ مقارنةٍ في إطار العربيّة، إذ بات ذلك مطلبًا من مطالبِ التوجيه النحويّ، وفريضةً من فرائضِ البحث العلميّ الخالص.
ولعلَّ الاتّجاهَ العمليَّ كان يُلح على تفكير أستاذِنا في تأصيلِه النحويّ، إذ درجت البحوثُ اللغويةُ في معظم صورهِا على الإغضاء عن مثل هذه الغاية. فنهدَ في بحث " النحو العربي بين النظريةِ والاستعمال، مثلٌ من باب الاستثناء" يعالج هذه المسألةَ بقراءةِ باب الاستثناء في كتب النحو لتحليلِ قواعدِ البابِ إلى عناصرِه البسيطةِ تحليلاً تفصيليًّا شاملاً، ومستوى الاستعمالِ الجاري لاستقراءِ قواعدِ الباب التي كان لها وجودٌ وحياةٌ في نصوصِ العربيّة إبّان عصورِ الاحتجاج، فكانت دراستُه دراسةً وصفيّةً تحليليةً، فمراجعةُ النحوِ العربيّ بمحاكمةِ ما في كتبِه إلى النصوصِ الأصولِ يقربنا إلى أصلِ الغاية في وضع النحو، ويساعد في تمييز القواعد ذاتِ القيمةِ الوظيفيةِ وتصنيفِها وَفَقًا لنسبة دورانها وترتيبها، عند التعليم، ترتيبًا متسلسلاً وفقًا لأهميتها العمليّة.
ويصرّح أستاذنُا في كتابه" نظرية النحو العربي في ضوء مناهج النظر اللغوي الحديث" أن ندرس العربيةَ من الجانبِ العربي وحدَه سيظلّ منقوصًا. وأنَّه لا بدّ لنا، في هذه المرحلة من استئناف النظر، أن نتبصّرَ فيما بلغه الدرسُ اللغويُّ الحديثُ من آفاق. وقد وجد بعد إمعانِ ورعاية أنَّ كثيرًا من الأنظارِ التي وجدها في كتب المحدثين من الغربيين يوافق عند عناصرَ كثيرةٍ منه ما قرأ عند النحويين العرب مصرّحين به حينًا وصادرين عنه كثيرًا من الأحيان. وأنّ بين مناهجِ النظرِ اللغويّ، على اختلافِ الزمانِ والمكانِ والإنسان، قدْرًا مشتركًا يقع بالضرورة على نحو أو آخر، ذلك القدْرُ المشتركُ بين مختلف اللغاتِ الإنسانيّةِ في العالم. ولا ريب أنَّ وضع النحوِ العربي في إطارٍ جديدٍ يتقابل فيه القديمُ العربيُّ والحديثُ الغربيُّ يُسعف في تجديد إحساسنا بالنحو العربيّ في مفهوماتِه ومنطلقاتِه وأبعادِه بعد طول إلفٍ به في لغتِه الخاصةِ ومصطلحِه الخاص به ومنهجِه الداخليّ.
كان الدكتورُ نهاد الموسى صاحبَ طريقةٍ مستبصرةٍ في تناول النحو العربيّ، فاستطاع أن يروّض مسائل النحو بفضّ المستغلق في قضاياه، وأن يؤلّف بين الحدود المتنافرة الأضداد، دون أن يقع في مغبّة الإسقاط التي نهجها كثيرٌ ممن استقى الدرس اللساني الحديث، بل جمع طرفَي بُردة النحو، فجدّد في موضوعاته بتوازن العارف، فميّز بين فقه النحو والتبتُّل في حومته، فكانت قراءته منتجة تكتنزها عطايا الرؤى الحديثة، فنأى بذلك عن التحيّزات المتأصلة، والأوهام الجِبليّة، التي تحول بيننا وبين التفكير الواضح.
القضيةُ الثانية: تعليميّةُ اللغة
لا نغالي في القول إن أعلنّا أنَّ هذه القضيةَ من القضايا التي تملّكت تفكيرَ أستاذنِا عبرَ سِني عمره، وأخذت بأقطار نفسه، فقد كان مُعلّمًّا في التعليم العام، وكان في حَيْرة من خطوه، أُيحاكي أساتذتَه الذين سبقوه في المهنة ودرس عليهم، أم ينهج دروبًا بِكرًا؟ فعكف على مناهلِ التربيّة والدليلِ اللسانيّ يمتحُ منهما طريقتَه المثلى، فكتب في" علم تعليم اللغة العربيّة" وفي" تعليم اللغة العربيّة بطريقة الوَحدة" و" في تقييم الكفايةِ اللغويّةِ في العربية" و" في تقويم الكفايةِ اللغويةِّ في العربيّة" و" في تعليم العَروض" وفي" إعداد معلمي اللغة العربيّة" وتعليم اللغة العربيّة لغير الناطقين بها و" كتاب اللغة العربيّة وأبناؤها". "أبحاث في قضية الخطأ وضَعف الطلبة في اللغة العربية". ولم يقتصر جُهدُه في جانب التنظير واستدخال طرائقَ جديدةٍ في تعليمِ العربيةِ لأبنائها ولغير الناطقين بها، بل أعدّ مناهجَ اللغةِ العربيةِ في الأردن وفي كثير من البلاد العربية، وكان في كلِّ ذلك يطمحُ إلى التيسيرِ في التعليمِ وربطِ الدرسِ التراثيّ بما جدّ من نهوجٍ حديثة، بعدما كانت المناهج التعليميّة تدور في فَلك" ضرب زيد عَمرًا" و" خرق الثوبُ المسمارَ" و" أم الحُليس لعجوز شهربة"، إلى غير ذلك من موضوعات ضيّقت واسعًا، حتى أمسى النحو موحشًا شاقًّا، فمضى الموسى برفقة "علي أبو هلالة" إلى تأليف مناهج اللغة العربيّة للمراحل التعليميّة في الأردن، فرفعا عن المتعلمين إصْر هذا النحو، وأبدلوهما أصولًا سهلة يسيرة، تقرّب الدرس النحويّ من قرائحهم، فكانت بارقات الأمل حادي عيس الناشئة، فتلقّى الطلبة نصوصًا مشرقة تقربهم من عربيتهم، وتمهد السبيل لاكتساب المهارات اللغويّة بدل حفظ القواعد واستظهارها.
- القضية الثالثة: الدرسُ اللُّغويُّ الاجتماعيُّ
التمس أستاذُنا مبكّراً في الدرسِ النحويّ العربيّ مشاكلةً في ربط اللغةِ بالمحيطِ الاجتماعيّ" وألمحَ إلى ذلك في بحثه" الوُجهة الاجتماعيّة في منهج سيبويه في كتابه"، فاستدعى السياقَ في كتاب الكتاب، وتتبّع أمثلةً صرفيةً فيه، وبيّن تفسيرَه الداخليَّ في بناء الأفعالِ والعللِ الموجِبةِ للتغيراتِ الصرفيّةِ استخفافًا أو استثقالًا، وعرض للظواهرِ الصوتيّة في ضَوْء قانون التشاكل، فسيبويه يتجاوز التحليلَ الشكليَّ للتراكيبِ النحويةِّ والأبنيةِ الصرفيّةِ ويتّخذ المعنى ملحظًا ثابتًا في وضعِ المعايير وتقريرِ القواعدِ ووسمِ الحدودِ بين الصوابِ والخطأ. وفي السياقِ تلقانا في الكتاب أمثلةٌ جمعَ فيها بين التفسيرِ اللغويّ والسياقِ الخارجيّ، كالحذفِ والنداءِ والاستفهامِ، وغيرِها من موضوعاتٍ راح يستكنه سيبويه فيها البنيةَ الجُوانيةَ للتركيبِ النحويّ، ويرسم خطوطًا هاديةً في تعلمِ العربيّة تعلّمًا يضع كلَّ تركيبٍ موضعَه ويعرف لكل مقالٍ مقامَه.
وفي بحث" الأعراف، أو نحو اللسانيات الاجتماعيّة في العربيّة" قصد أستاذُنا إلى استجلاءِ أصلٍ إضافيّ في نظريةِ النحو العربيّ، منطلِقًا من تَسآل: هل تجاوز النحاةُ العربُ في وصفِ العربيّة ورسمِ معاييرِ النظام النحويّ حدودَ" النص" الذاتيّة" ومادةَ "العبارة الكلاميّة" الخالصة، وإلى أي مدى جعلوا" محيطَ" الحدثِ الكلاميّ و" سياقَه" و"المتغيراتِ الخارجيّة" التي تكتنف مادةَ الكلام" أصلًا" في وصفِ الظاهرةِ النحويّةِ وتفسيرِها. فمضى الدكتورُ نهاد يحشِدُ المستنداتِ التي تؤكّد أنّ النحاةَ العربَ قد اعتدّوا" المعنى" ملحظًا ضروريًا في استكمالِ التحليل وعمِلِ " المُعرب" كما أنَّهم لحظوا في ضبطِ النحو مستوى البنية الصرفيّة، ورسموا قواعدَ الجملةِ والإعراب، ورصدوا علاقاتِ التركيبِ بملاحظة ثابتة لطبيعة الصيغة في أبنية الكَلِم. وأولُ ما نستحضره في استطلاعِ ملاحظاتِ العربِ على هذه الصعيدِ ما يقررونه أنَّ الكلام" ما تَحْصُل به الفائدةُ، سواء كان لفظًا أو خطًّا، أو إشارةً، أو ما نطق به لسانُ الحال. ويمثّل المخاطَبُ أحدَ أعمدةِ الموقفِ الكلاميّ، وتصبح " فائدةُ المخاطَب" معيارًا لصحةِ الكلام. وهكذا " جاز وصفُ النكرةِ بالجمل، لأنّ كل جملةٍ فهي نكرة، ولولا أنَّها نكرةٌ ما كان للمخاطَب فيها فائدةٌ، لأنَّ ما يعرف لا يُستفاد". ومما يُحذف لعلم المخاطب" بما يُقصد له قولهم: لا عليك، إنَّما يريدون لا بأس عليك، وقولهم: ليس إلا، وليس غير ما يريدون: ليس إلا ذلك... وإنَّما تحذِفُ إذا علمَ المخاطَبُ ما تعني....." بل تصبح غايةُ الشكلِ المختارِ للتعبير موافقةَ حالِ المخاطبِ والسامعِ تحقيقًا لمطلبِ الإبلاغ فيه، ومثَلُ ذلك_ عنهم_ أنَّ جدوى التأكيدِ أنَّك إذا كرّرت فقد قرّرت المؤكَّدَ وما عُلِّق به في نفسِ السامعِ ومكّنتَه في قلبِه وأمطت شبهةً ربما خالجته أو توهمت غفلةً وذهابًا عما أنت بصدده، فأزلتَه، وكذلك إذا جئت بالنفسِ والعينِ فإنّ لِظانٍّ أن يظنَّ حين قلت: فعل زيد، أنّ إسناد الفعل إليه تَجَوُّز أو سهو أو نسيان. وقد سعى من هذا الاستقراء المتبصِّر إلى أن يكون لضبط الظاهرة النحويّة(سيناريو) يحدِّد الكوامنَ والمشخّصاتِ التي تكتنفُ الموقفَ الكلاميَّ سعيا نحو ربطِ النحوِ بمحيطِه الحيويّ وجعلِه وظيفيًّا مقنعًا.
- القضيّة الرابعة: اللسانياتُ الحاسوبيّة
تنبّه أستاذنُا نهاد الموسى إلى ضرورةِ تهيئةِ العربيّةِ لعلوم العصر، فحاول أن يتجاوز وصفَ العربيةِ المتعارفَ إلى توصيفِ النظامِ اللغويّ، واستقراءِ المعطياتِ المدركةِ بالحدْسِ لدى العربيّ البالغِ من العلمِ بالعربيّة حدّ الكفاية، فكان كتاب" العربيّة نحو توصيفٍ جديد في ضَوء اللسانيات الحاسوبيّة" أولَ كتابٍ ينهدُ إلى تأليفه لسانيٌّ، فقد سُبق بمصنفاتٍ في اللسانياتِ الحاسوبيةِّ ولكنّ أصحابَها لم يكونوا لغويين بل من تخصصاتٍ علميةٍ كعلوم الطيرانِ؛ كنبيل علي، ومن علومِ الحاسوب؛ كعبدِ ذيابِ العُجيلي.
ينطلق كتابُ " العربيّة نحو توصيف جديد في ضَوء اللسانيات الحاسوبيّة" من عرضِ معطياتِ هذا النظام الكليّ في وصْفِه الذي رسمه علماءُ العربية على اختلافِ مناهجِهم قديمًا وحديثًا، ولكنَّه يمضي إلى استشفافِ ما يثوي وراءَ تلك المعطياتِ وما يستخفي في ثنايا تشكيلِها من نواظمَ وأدلةٍ تمكّننا من تمثيلِ هذا النظامِ لذاكرةٍ بيضاء.
ونجده يميزُ بين الوصفِ والتوصيف، فوصفُ العربيةِ المتعارفُ موجّهٌ إلى العقل الإنسانيّ وأنَّه، لذلك يدعُ " التصريح" بنواظمَ خفيةٍ وأدلةٍ ضمنيّةٍ معوّلاً في استدعائها واستعمالِه على" الحدْس الكامن" أو " البرنامج" المركّبِ في العقلِ الإنسانيّ بالفطرة. ويقصِد بالتوصيفِ تمكينَ الحاسوبِ من الفَهم، وتزويدَه بعُدّة الذكاء الاصطناعيّ الذي يجعله قادرًا على استدعاء الاحتمالات من جهة، واستدعاء الأدلة اللازمة من استقراء السياق الخارجيّ وطرح الأسئلة اللازمة على غِرار ما يفعل الإنسان من جهة أخرى.
وطمح أستاذنا من هذه المحاولة أن تكون دوالَّ إضافيةً لمتعلمي العربيّة تكشف لهم ما كانوا يعرفونه وهم لا يعرفون أنَّهم يعرفونه. وهي أيضًا دوالّ على تفسير وجوهٍ من قصور الكفاية لدى بعض المتعلمين والمستعملين قد يسهم في وضع التدابير والتداريبِ الإجرائيّةِ التطبيقيّة التعليميّة لتلافي ذلك القصورِ أو لتمثيلِ" الحدود- التعريفات- المفاهيم" تمثيلًا إجرائيًّا مشخَّصًا.
كما أنَّ ملحوظاته تمثّل أدلةً إجرائيّةً أوليةً في توصيف العربية عند تمثيلها للحاسوب، وخطوةً في سبيل تلك الغاية التي تنشُدها اللسانياتُ الحاسوبيةُ الدائبةُ في استبطان عملِ العقلِ الإنساني في إنتاج اللغة وفَهمِها، الساعيةُ إلى تطويرِ نموذجٍ تمثيلي مشخّصٍ للنظام اللغوي إذا هو أودعه الحاسوب أمكنته مماهاة العقل الإنساني في كفايته وأدائه اللغويين. إنَّه باختصار محاولةٌ في الانتقال من وصف العربية إلى توصيفها وذلك في ضَوء الأطروحةِ العامة للسانيات الحاسوبيّة.
إنّ ما تركه كتاب " اللغة العربية نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيات الحاسوبية" لأستاذنا الموسى؛ من أثر في الدرس اللسانيّ العربيّ التطبيقيّ يمثّل خطوة أساسيّة للبدء بالتفكير الجاد لعبور عوالم التقنيّة من البوابة اللغويّة، وتوطين المعرفة الحديثة، فلا نستهلكها بكسل وخمول دون أن يكون لنا حضور في إنتاجها وتوصيفها، والخروج من ضيق الاهتمام إلى فضاء التشابك مع علوم العصر، فمن لا معرفة له لا علم له.
- القضية الخامسة: التخطيطُ اللغويُّ ومسألةُ الازدواجيّة اللغويّة
لم تكن مسألة الفصحى والعامية أمرًا مستحدثًا بل أخذت بتلابيب فكر اللغويين قديمًا وحديثًا وإن لم تكن بوضوح العصر الحديث، فغدا المجتمع العربيّ الذي يعاني ازدواجية لغوية لا يني عن اندياح مشكلاته اللغوية في مجالات الحياة كلها، فلغة الأفراد الأم العامية ولغة الإعلام والإدارة والتعليم _ في الأغلب_ الفصيحة، فما انفك الدكتور نهاد الموسى يشخص المسألة المسربلة بلفائف الغموض والعُسر، فنشأت هذه القضية في نفس صاحبها كالرؤيا، وظنَّ للخاطر الأول أنَّ تحوّلَ الناس من العامية إلى الفصحى في لغة الخطاب اليومي غايةٌ قريبةٌ تلقائيةُ التحقيق. وبدأت تنسرب أسئلةٌ محضَ لها كتابَ " قضية التحوّل إلى الفصحى في العالم العربي الحديث"، وبحوثًا من كتاب الثنائيات في قضايا اللغة العربية. وتأتلف هذه القضيةُ في موضوعٍ تناقشه اللسانياتُ الاجتماعيةُ في بابِ التخطيطِ اللغوي والسياسةِ اللغوية، سعى الدكتور نهاد فيما كتبه في هذه القضية أن يحاورَ إشكالاتٍ، نحو: هل كان العرب أصلًا يتكلمون الفصحى في شؤونهم اليومية؟ وهل يُمثّل التحدث بالفصحى " المعرَبة" قضيةً ذاتَ أولويةٍ ونحن نرى الضَّعف مستشريًا في التعليم العام والجامعي في الكتابة والتحدث والقراءة، وهل المسألةُ تقتضي حلولًا تعليميةً أم لا بدَّ من إجراءاتٍ ثابتةٍ تتبناها التشريعاتُ وتحمّل السلطة عبْءَ تنفيذِها؟ ثم ما لبث يستقري المسألةَ في صيرورتها التاريخيّةِ لاستبصار قضايا اللغة العربيّة، فنظر كيف تشكّلَ النظامُ اللغويُّ للعربيّة، وكيف انتظم لهجاتٍ مختلفةً عند وصفهِ ووضعِه في الصدر الأول للإسلام، وكيف كان نزولُ القرآن بالعربيّة على سبعة أحرف عاملًا رئيسًا في تأسيس العربية المشتركة الجامعة التي تسمح بهامش من التباين رخصةً وتوسيعًا. وبعد أن أرجع البصرَ تلقاء العصر الجاهليّ وجدناه يتوقف إلى المقولة الخلافيّة في حال العربيّة قبيل ظهور الإسلام وفي الصدر الأول منه؛ متسائلًا: هل كانت العربيّة لهجاتٍ متقاربةً تلتقي على قدْر كبير مشترك يهيئ لأبنائها تفاهمًا متباينًا؟ ثم انتقل ليدارس المسألةَ في العصر الحديث ونشوء الازدواجيّة اللغويّة والدعوة إلى العاميّة، وعرض بعد ذلك إلى أطروحةِ القرارِ السياسيّ ودورِه في القضية. وما يلفت القارئَ لما خطّه الدكتور نهاد في هذه المسألة الاحتراسُ الشديدُ في مقاربتها، متسلّحًا بعُدّة الراسخ بمستبطنات التراثِ والنظام اللغويّ العربي، وإشعاعِ البصيرِ بالدرسِ اللساني الاجتماعيّ الحديث، مقترحًا التدابيرَ في التخطيط اللغويّ والسياسةِ اللغويّة، والبَدء بالحلقات التي تتعالق والمسألةَ كالتعليم والإعلام المسموع والمكتوبِ والمقروءِ والإدارة، والحياةِ العامة، بيْدَ أنَّ هذا الهدفَ النبيلَ الذي ساقه المؤلفُ لم يكن دافعًا له إلى توهّم أنَّ هذه المسألةَ غايةٌ قريبةُ المنال، أو تلقائيةُ التحقق، فالازدواجيةُّ كما يشخصها اللسانيون الاجتماعيون وضع ثابت إلى حد ٍكبير، وعسير ُالتحول، وغايةُ عمل اللسانيّ أن يخفّف من وطأة الازدواجيّة بالتخطيط الحكيم وتضافر الجهود في سياسة الدولة من خلال تشريعاتٍ ناظمةٍ تؤمن أنَّ التهيئةَ اللغويّةَ من الأمنِ اللغويّ والحفاظِ على هُويّةِ الأمة.

- وثمة قضايا أخرى تدارسها أستاذُنا نحو: العلاقة بين الشرق والغرب والعربيّة في مرآة الآخر. واللغة العربيّة في العصر الحديث قيم الثبوت وقوى التحوّل، قضايا كانت مدارَ نظر وعنايةٍ لأستاذنا الدكتور نهاد الموسى- رحمه الله-، ولكن لا يُسعفنا الحال للوقوف على كل هذا العطاء الباذخ.
وصفوةُ القول: إنَّ المستقرئ لهذه الصُّوى اللغويّةِ التي صدر عنها الدكتور نهاد يجد أنَّ المراح العام الذي شَغَله هو اللسانيات التطبيقيّة، وأنَّ المجالَ الأضيق على وجه التعيين هو اللسانيات الاجتماعيّة، هذه اللسانيات التي تسعى إلى أن تمُدَّ في التحليل اللسانيّ بُعدًا يتجاوز المدى الذي بلغه علمُ اللسانِ الحديث، وتبيّنُ كيف تتفاعل اللغةُ ومحيطَها.
وأختم بما كان يختم به أستاذُنا أغلبَ كتبه:
ونحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ أطويلٌ طريقُنا أم يطولُ
وكثيرٌ من السؤال اشتياقٌ وكثيرٌ من ردّه تعليلُ.