شهادةٌ في الكتابة الروائيّة بحثًا عن الفردوس المفقود

 يحيى القيسي
روائي أردني مقيم في لندن

باب الحيرة: روايتي الأولى
في العام 2006 أصدرتُ روايتي الأولى "باب الحيرة" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وربّما تكون رواية تونسيّة بامتياز، فهي ترصدُ حالة شاب ثلاثيني جاء إلى تونس وانغمس في تفاصيلها حتى اختلط عليه الأمر، وهي أيضًا رواية معرفيّة تقدّم الكثير من التكثيف للقراءات والمشاهدات والثقافات والخبرات التي اطّلعتُ عليها أو تورطتُ عِرفانيًّا وجسديًا فيها، إذ ترصد حالة الاضطراب ما بين الإيمان التقليديّ والشكّ التي كنت أعيش فيها، وتطرح الأسئلة الوجودية الحرجة، وهي صوت الاغتراب النفسيّ الممزوج بالغربة عن الوطن حينما يتكاثفان معًا ويهاجمان كلَّ طمأنينة لي.
للأسف لم تُقرأ هذه الرواية لي في تونس كما ينبغي لأنّها لم تصل هناك، كما أنّها ظُلمت كثيرًا في الأردن من النقّاد والأكاديميين مثل باقي الروايات من حيث تجاهلها، سواءً بالنقد أو حتى بالإشارة إليها ضمن تاريخ الأدب الأردني المعاصر، ما عدا بعض المقالات هنا وهناك.
كثيرون كتبوا روايات عن تجاربهم في بلدان عاشوا فيها، وبعضهم كتب عن ذلك أثناء وجوده هناك كردِّ فعلٍ، وبعضهم بعد سنوات قليلة، لكنّني انتظرتُ عشر سنوات كي أكتب عن تجربتي التونسيّة بعد أن اختمرت الفكرة ونضجت وابتعدت عن تلك الفضاءات نفسيًّا وجسديًّا لهذا جاءت روايتي مُحايدة تقريبًا دون التورّط في الحنين أو المدح أو عكس ذلك.
ولعلَّ هناك ظاهرة في الروايات الأردنيّة تستحق الدراسة والتأمل؛ وهي الكتابة عن مدن أخرى من قبل الكتُّاب الأردنيين مثل غالب هلسا في (ثلاثة وجوه لبغداد) أو كتابته عن القاهرة، وتيسير سبول في كتابته عن بيروت، ومؤنس الرزاز وإلياس فركوح وحضور بيروت في رواياتهم، وسليمان القوابعة في كتابته عن المغرب، وسميحة خريس عن السودان، وكأنّ قدر الرواية الأردنيّة أن تكون عروبيّةً وتتجاوز الجغرافيا الضيقة مثلما هي الأردن نفسها في تكوينها في بدايات الدولة وإلى يومنا هذا، حيث احتضنت ملايين القادمين من شتى أنحاء الوطن العربيّ ومثلما جيشها الذي ما يزال يحتفظ باسمه "العربي" إلى اليوم.
أبناءُ السماء: الغوصُ في الماورائيات
في العام 2010 جاءت روايتي الثانية "أبناء السماء" وصدرت عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت وعمّان، وقد انشغلتُ فيها برصد الظواهر الخارقة في حياتنا، وتأثير الماورئيات في وجداننا وكيفية تسرّبها إلى تفاصيلنا اليومية، وارتباط ذلك بالتصوّف والروحانيات والعلوم الحديثة مثل فيزياء الكم وغيرها.
لقد خاضت شخصيات روايتي طريقها في البحث عن الحقيقة، أو ما يمكن أن يُطمئن نفوسهم القلقة حتى لو كان خادعًا أو غير منطقي، وبما أنّني أؤمن بالرواية المعرفيّة التي تقوم على البحث والتقصّي كما فعل "دان براون" في بعض أعماله، فقد أضفتُ إلى ذلك خبراتي الخاصّة وقراءاتي ومقابلاتي مع أشخاص روحانيين أو مُهتمين بالتصوّف وعلوم الميتافيزيقا، إضافة بالطبع إلى مشاهدة الأفلام الوثائقيّة حول تلك الموضوعات الخاصّة، وبالتالي فقد عجنتُ كلّ تلك المعارف عبر السرد وتقنياته للخروج ب"أبناء السماء" إلى الواقع، والجدير ذكره أنَّ كلّ رواية من رواياتي تعكس مرحلة معيّنة من نُضجي المعرفيّ والروحيّ وتحليقاتي الخاصّة، وفانتازيا رؤاي، وتوظيفي للتخييل، وبالتالي فإنَّ هذه الروايات تُشكّل مع بعضها حلقاتٍ معرفيّةً متواصلةً للخروج بتصوّر ما عن العالم بعيدًا عن ما هو متعارف عليه فيما وصلنا من النقل التقليديّ، لا سيّما أنَّ انشغالاتي في هذه العوالم قد بدأت تتعمَّق منذ العام 2005 وخوضي غمار التصوّف الفكريّ لا الطُقوسيّ، والتخفّف نهائيًّا من مرحلة الشَّك السابقة، فقد حاولت أن لا أعود إلى الإيمان التقليديّ القائم على ما وجدت عليه آبائي وأجدادي وما وصل من النقل، بل عبر القناعة التامَّة القائمة على البحث والعلم والتأمّل في الوجود، واستشراف الله في الأعماق.
وبالطبع أكتبُ ما أكتبُ من روايات دون أن أطالب القارىء بتصديق ما فيها أو قبولها ككتابٍ علميّ أو جغرافيّ؛ بل بالتعامل معها كعملٍ أدبيّ سرديّ يطرح الأسئلة ويثير السواكن، ويحاول تغيير النظرة المتعارف عليها تجاه الكون والإنسان.
الِفردوسُ المُحرّمُ: حضورُ العرفان
في روايتي الثالثة "الفِردوس المُحرّم" التي صدرت في العام 2015 عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" استكملت ما بدأتُه في "أبناء السماء"، وبالتالي يمكن القول إنّ هاتين الروايتين تتحدّان معًا لتشكيل ثنائيّة يمكن أن تُقرأ منفصلةً عن بعضها، أو من الأفضل أن تكونا معا لتكوين رؤية أكثر شمولاً وتفصيلاً، ولعلّي أعترف هنا بأنّ المعارف الموجودة في الفردوس تعكسُ أيضًا مرحلةً ما من حياتي ورؤيتي للكون من حولي وبحثي عن الفردوس المفقود في داخل كلّ واحدٍ منِا وأيضًا خارجه، كما إنّني في النهاية ابن بيئة تفيض بالواقعية السحريّة، وقد نهلتُ منها الكثير، لكنّي ربما أكون قد أثقلتُ الرواية بالكثير من المعارف والرؤى والتصوّرات بحيث فاضت عن حدّها، وبالتالي تجاوزت حُدود العمل السرديّ كرواية إلى التورط في السرد المثقل بالمعرفة، وهذا أمر على النقّاد والمُتخصّصين سبره والتفصيل فيه، فثمة الكثير من المتلقين الذين يبحثون عن مثل هذا النوع من الأعمال الأدبيّة التي يمكن أن تقدم لهم شيئًا جديدًا ومغايرًا لما اعتادوا عليه غير الحكاية التقليدية وعناصرها..!
على الصعيد المعرفيّ انشغلتُ برصد كميّة التضليل التي تعرض لها البشر عبر عصورهم المختلفة في مجالات عديدة تبدأ من الدين وتنتهي بالجغرافيا والعلوم، وقد أردت رواياتي صيحةً لإيقاظ الهمم والانتباه إلى ما جرى، ومحاولة العودة بالإنسان إلى العصر الذهبيّ الذي عاشه قبل أن يقع في درك "أسفل سافلين" وذلك اعتمادًا على التأمل في مسيرته وما طالها، وقد خالفتُ "داروين" في نظريّته بأن أصل الإنسان قرد تطوّر حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، إلى عكس ذلك، أي أنَّه وجد أو خلق في أحسن تقويم، كتحفة فنية إلهيّة سامية، وكان يعيش فيما يشبه الجنّة الأرضيّة بعمرٍ طويلٍ وشبابٍ دائم ودون مرض ثم تعرّض في مرحلة ما إلى إغلاق طاقاته العليا، وانحداره إلى المرحلة الدنيا التي يعيش فيها الآن، وهذا أمر يمكن تناوله بالبحث لمن يرغب، أو الاكتفاء بالرواية كعمل سرديّ ضمن العناصر المألوفة من حكاية وشخصيات وتقنيات وما إلى ذلك، وأخذ ما فيها على سبيل التخييل لا غير.
بعد الحياة بخطوة: مقاربةٌ للغز الموت وما وراءه
في العام 2018 أصدرتُ روايتي الرابعة "بعد الحياة بخطوة" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وهي رواية معرفيّة أيضًا تُحاول الإجابة عن سؤال الموت وما بعده بشكل غير تقليديّ أو نقليّ كما ورد في الموروث الدينيّ، بل من التأمّل الطويل لهذه القضية المصيريّة التي تقلق كلّ بشريّ، إضافة بالطبع إلى القراءات فيما يُسمى "تجربة الاقتراب من الموت" التي وصل إلى تخومها الملايين من الناس ثم عادوا ليرووا ما جرى لهم أثناء الغيبوبة خصوصًا أثناء العمليات الجراحيّة والتخدير الكامل، أو في حالة الحوادث والصدمات التي يفقد فيها المرء وعيه، كما أنّني قرأت الكثير من الكتب التي يدَّعي أصحابها بأنَّها أُمليتْ عليهم من أرواح سابقين عاشوا في الأرض من قبل، ومسألة "الإملاء" عرفها المتصوّفة واعترف بها ابن عربي في فتوحاته المكيّة؛ أي التلقي للمعارف من عالم الغيب، أو من "الله" كما يقول ويطلقون عليها أيضا "الفيوضات" أو "التنزّلات".
حضرتْ القريةُ في هذه الرواية بكلّ تجلياتها وخصوصًا في فترة الطفولة على شكل انثيالات لمفردات وعبارات قصيرة مكثفة، كلّ واحدة منها تحيل إلى صور وروائح وأمكنة وتفاصيل اجتماعيّة وسياسيّة وغيرها؛ مما يستدعي من النقّاد والباحثين تفكيك شيفرتها للأجيال الجديدة من القُرّآء الذين لم يختبروا تلك الحياة ولم يسمعوا بتلك المفردات، كما أنّ التجليات الروحيّة في الرواية عالية، وشديدة التكثيف للمعارف التي فيها، والتي تجمع كما بين المعلومة والتخييل السرديّ، وآمل بعد كلّ ذلك أن أكون قد قدمتُ فيها شيئًا مغايرًا للسائد، ويبعث على الغبطة لقراءة النصِّ والتفاعل معه، وفي كلّ الأحوال فهي تسهم مع الروايات التي سبقتها في تشكيل أعمدة مشروعي الروائيّ المعرفيّ، والذي اختتمته بعد ذلك بسنتين أي عام 2020 بإصدار روايتي "حيوات سحيقة" عن دار خطوط وظلال في عمّان.
حيوات سحيقة: بحثاً عمّا مضى
تنشغلُ هذه الرواية بمقاربة إمكانيّة وجود حيواتٍ سابقةٍ لأرواحنا في أجساد أخرى، وإذا كان بعض الأمم يؤمنون بذلك ويعتقدون بأنَّ الجسد الماديّ هو قميص للروح تخلعه حين الموت، ولا يوجد ما يمنع أن تكون الروح قد عاشت تجسّدات أرضيّة من قبل، فإنّ تناولي للأمر كان فنيًّا؛ أي توظيف هذه الثيمة لجعل الشخصيّة الرئيسة في الرواية "صالح" متعدّدًا وعابرًا للأزمنة والأمكنة، مما يتيح للرواية تقديم خبرات مختلفة ومكثفة للمتلقي، ومرّة أخرى أقول إنَّ العمل الروائيّ في النهاية عملٌ فنّيٌّ ومعرفيٌّ يمكن للقارىء أن يأخذ منه - بحسب ثقافته - جماليًا ومعرفيًّا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، كما أنّ العمل السرديّ الإبداعيّ برأيي يحتمل الكثير من الطبقات المعرفيّة والجماليّة التي تحتاج إلى متلقٍ مبدعٍ يُسهم مجددًا عبر كلّ قراءة في فتح الإمكانيات على آفاق جديدة لا منتهية.
ينبغي الإشارة أيضًا إلى أنّني رصدت جزءًا من رحلة السويسري "بيركهارت" إلى الأردن عام 1812 م، وإعادة اكتشافه لموقع البترا، وما جرى معه، لهذا كانت هذه المدينة الأثرية التي ما تزال غامضةً في الكثير من تاريخها وتفاصيل حضارتها، فضاءً للرواية، إضافة إلى مدينة الزرقاء والعاصمة عمّان، وقد حاولتُ في الرواية أيضًا التقاط تاريخ العنف عند العرب، والفهم الخاطىء لتوظيف الدّين، وكيف أسهم ذلك في صياغة بعض تفاصيل الحاضر، حيث المعاناة من الإرهاب تحت ذريعة الدين.