ترجمةُ الشعر بين الممكن والمستحيل

 

 

 ترجمةُ الشعر بين الممكن والمستحيل

د. خالد عبدالله الشيخلي

جامعة جرش - الأردن

تخيل العربُ منذ سالف العصور أنَّ للشعر شيطانًا يُقبِل عليهم فيُلهِمهُم روائعَ الكلم وبدائعَ الصور وجميلَ النظم، وبقي هذا التصوّرُ قائمًا حتى بعد مجيء الإسلام بأفكاره الجديدة وضوابطه التي قيّدت ما يجوز قوله وما لا يجوز. وكانت قبائلُ العرب تفتخر بشعرائها وتُنزلهم منازل رفيعة بين أبنائها. ولما كانت للشعر هذه المكانة، ولما كان مقترنًا بالإلهام والإبداع ويوصف على أنَّه ديوان العرب، كانت ترجمتُه من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى تستدعي اهتمامًا خاصًّا وقدراتٍ خاصًّة، ولعلّها تتطلب أن يكون للمترجم أيضاً "شيطان" يعينه على سبر غور القصائد المراد ترجمتها، ويدلّه على أفضل السبل وأنجعها لترجمة الشعر. إنَّ نقلَ الشعر من لغةٍ إلى أخرى عملٌ غاية في الصعوبة والتعقيد، ذلك أنَّ ما يُسحر السامعَ أو القارئ في لغةٍ ما بتركيبها وموسيقاها وصورها، قد لا يكون له الوقعُ نفسه في أذن سامعِ النصِّ المترجَم، أو عين قارئه مهما بلغت قدرة المترجِم ومهما طالت خبرتُه وبذل من جهد. فالشعرُ يمتاز عن بقية الأجناس الأدبيّةِ الأخرى بلغته المكثفة التي لا تحتمل الإطناب والحشو، ولا تتقبل التكرار والرتابة، وهو مُترعٌ بالمحسنات البديعيّة والأساليب البلاغيّة، ومن هنا تأتي صعوبةُ ترجمتِه وقلةُ المقبلين على نقل الشعر من لغةٍ إلى أخرى. يقول "ثيودور سافوري" (Theodore Savory) في كتابه "فن الترجمة" (1968) معرّفًا الشعر على أنَّه " فنُّ استخدام الكلمات بطريقة تُحدث وهمًا في الحواس، وهو فنُّ الفعل بواسطة الكلمات ما يفعله الرسام بواسطة الألوان".

إنَّ ترجمةَ الشعر أحدُ الموضوعات المثيرة للجدل، ولعلَّ الخلافَ يتجسّدُ في الآراء المختلفة المتعلقة بترجمته من عدمها، وإذا اختار المرءُ ترجمته، فما هي الطريقة الأنسب؟!.  فمنذُ القِدم تباينت الآراءُ في هذا الأمر؛ فمنهم من ذهب إلى استحالة ترجمته كما فعل الجاحظ، إذ يذكر في كتاب "الحيوان" ما نصّه " والشعرُ لا يُستطاع أن يترجَم ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوّل، تقطّع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حُسنه، وسقط موضع التعجبِ فيه". ويعرِّف الشاعرُ والناقد الأميريكيُّ "روبرت فروست" (Robert Frost) الشعر أنَّه "ما يُفقدُ في الترجمة".

ويذهب القائلون باستحالة ترجمة الشعر إلى أنَّ ثمة عناصر يستحيل أو على الأقل يصعب نقلها من لغة إلى أخرى، وهي الجوانب الصوتيّة والموسيقيّة والخصوصيات النحويّة والصرفيّة والمجازات، إضافة إلى الاختلافات الثقافيّة. وإذا خصّصنا الكلام عن العربيّة والإنجليزيّة قلنا إنَّ الأدواتِ المستخدمةَ في الشعر العربي تختلف عما هو موجود في اللغة الإنجليزيّة. فالعربيّة أغنى من الإنجليزيّة في عدد البحور الشعريّة (في اللغة العربيّة 16 بحرًا شعريًّا يقابلها 7 بحور في اللغة الإنجليزيّة) وكما هو معروف فإنَّ لكلِّ بحرٍ أغراضًا معينة ويستخدم في مناسبات بعينها، فالبحرُ الطويلُ- على سبيل المثال- هو من أكثرِ البحور الشعريّة استخدامًا عند العرب؛ حتى إنَّ بعض المختصّين يذكرون أنَّ ثلث الشعر العربي من البحر الطويل، وهو نادرُ الاستخدام في الأهازيج والموشحات والأغاني، في حين أنَّ البحرَ الكامل- مثلًا- يصلحُ لكلِّ الأغراض الشعريّة، وبحر الرجز أقرب الأوزان إلى النثر، بينما يكثرُ توظيف بحر الرمل في مواضيع الغزل والخمر والموشحات. كما أنَّ القصيدةَ العموديّة ذات القافية الواحدة نادرةٌ، إن لم تكن معدومةً، في الإنجليزية، وهكذا. وإن تعلق الأمرُ بالصوت لدينا الجناس والقافية والإيقاع والموسيقى الداخلية وغيرها مما لا يمكن نقله إلى لغة أخرى. فكيف لمترجِمٍ مهما طال باعُه في الترجمة أن ينقل الجناس في البيتين الآتيين:

         عضنا الدهر بنابه     ليت ما حلَّ بنا به

         كلُّ من مال إليـــــــــه    غافــــــلٌ ليس بنابــــه

أمَّا عن البنية؛ فالنظام النحويُّ والصرفيُّ مختلفٌ في العربيّة عنه في الإنجليزيّة. ومثال على ذلك صيغة الجمع، فتجد في العربيّة جمعَ القلة والكثرة وجمعَ الجمع وهو ما يفقد أثره حال ترجمته. تأمل قولَ الأمام الشافعيّ- رحمه الله-:

                سهرت أعين ونامت عيونُ   في أمورٍ تكون أو لا تكونُ     

والمجازاتُ- أيضًا- يصعب نقلُها، فالتوريةُ تكاد تكون مستحيلةَ النقل إلى لغةٍ أخرى، كقول الشاعر حافظ إبراهيم مشاكسًا أحمد شوقي:

 يقولون إنَّ الشوقَ نارٌ ولوعةٌ    فما بال شوقي أصبح اليوم باردا؟

فما كان من شوقي إلا أن ردَّ عليه قائلًا:

وأودعتُ إنسانًا وكلبًا أمانةً        فضيّعها الإنسانُ والكلبُ حافظُ.

أو من قصيدة لابن الفارض:

ذو الفقار اللحظُ منها أبدًا            والحشا مني عمرو وحُيي

ذو الفقار هو اسم سيف الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بينما عمرو وحيي هما اسمان من الذين قضى عليهم في الحرب.

وكلنا يعلم أنَّ للقرآن مكانةً عظيمةً في نفوس المسلمين وله أثرٌ بالغٌ في قلوبهم لا يمكن نقله في الترجمة. تأمل قول الشاعر الموصلي ابن الدري يوسف بن درة:

ظننت بك الجميلَ  فخاب ظنّي       وقال الله بعض الظن إثم

أو قول ابن الرومي في رثاء البصرة بعدما أصابها من خراب على يد الزنج:

أين فُلك منها وفُلك إليها                منشآت في البحر كالأعلام

هذان الاقتباسان أو التضمينان من القرآن الكريم يؤثران في القراء العرب المسلمين الذين يعطون هذه الصور في كتابهم مكانةً ساميًّة. والتأثير ليس مكافئًا في الترجمة، إن لم يضِع أصلًا، لأنَّه من المتوقع ألا يكون قارئ اللغة المستهدف، على دراية بالقرآن وبأسلوبه وآياته. 

ويُعدُّ الاختلافُ الثقافيُّ وتباعده من المشكلات الشائكة التي يواجهها المترجمون. فالعربيّة والإنجليزيّة تنتميان لثقافتين متباعدتين، مما يجعل العملية غاية في الصعوبة. يقول "بيتر نيومارك" (Peter Newmark) وهو من كبار المنظرين للترجمة وممارسيها: "كلّما اقتربت اللغة والثقافة اقتربت الترجمة من الأصل".  لكلِّ من اللغتين خصائصُ مميزة تتعارض بشكل أو بآخر مع الأخرى. فالفجوةُ الثقافيّة بين اللغتين العربيّة والإنجليزيّة، بالإضافة إلى البنية الشعريّة لكلتا اللغتين تجعل الخسارة أكبر. على سبيل مثال نجد في سونيتة شكسبير الثامنة عشرة ما يعكس البيئة الثقافية للغة المصدر من خلال التمثيلات البيئية:

Shall I compare thee to a summer's day?

 وهي من الأمثلة التي تُقتبس كثيرًا للدلالة على الاختلاف البيئيّ واختلاف نظرة الثقافتين لها . "هل أقارنك بيومٍ من أيام الصيف"؟ ، فالصيف يمثل أجمل مواسم السنة في إنجلترا. وبالمقارنة مع أيٍّ من دول الخليج العربيّ، سيبدو الصيفُ كالجحيم. لذا فإنَّ الصورة ستكون مشوهةً تمامًا. ولعلَّ قائلًا يقول إنه بالإمكان ترجمة الصيف إلى الربيع من خلال إعطاء المكافئ البيئي. في الواقع، من المتوقع حدوث خسارة حتميّة عند تحويل "الصيف" إلى "الربيع". هل يمنح هذا الاختلاف المترجم ترخيصًا لتحويل الصيف إلى الربيع، وهو ما قد يكون مكافئًا بيئيًّا مناسبًا؟. لعل البعض يقول إنَّ تحويلَ الصيف الى الربيع أمرٌ خادعٌ للقارئ ومضلل له، فلربما ظنَّ القارئ أنَّ كلمةَ الربيع موجودةٌ في النصِّ الأصلي وليست اجتهاداً من المترجِم، إنَّها مسألةٌ خلافيٌّة، وقد يوافق البعض على هذا الاجتهاد، ولا يوافق آخرون.

أمَّا من قالوا بإمكانية ترجمة الشعر فرأيهم أنَّ التشابه بين اللغات أكثر من الاختلاف، وأنَّ ترجمة الشعر لا مناص منها للتعرف على آداب الشعوب المختلفة، وطرق تفكيرهم ومكامن إبداعاتهم، إلا إنَّهم اختلفوا في مسائل عديدة منها: هل يُترجم الشعرُ شعراً أم نثراً؟ وهل يمكن فصل شكل القصيدة عن مضمونها؟. وهل ينبغي للمترجم أن يكون شاعراً أصلاً أم لا؟ وما هي الطريقة المناسبة للترجمة؟ حرة، إبداعية، أم حرفية؟.  واختلفت الإجابات على هذه الأسئلة جميعًا.

ومما يشجع القائلين بترجمة الشعر وجود ترجمات حازت على إعجاب القراء، وقسم منها اندرج وذاب في أدب اللغات المترجم إليها. مثال على ذلك رباعيات الخيام التي تُرجمت إلى الكثير من لغات العالم ومنها اللغة الإنجليزيّة، وقد قام بالترجمة الشاعر "إدوارد فيتزجيرالد" (Edward FitzGerald)، ومن روعة الترجمة أضحت منذ عشرات السنين من روائع الأدب الإنجليزيّ.  نقل الرباعيات إلى العربيّة الشاعرُ أحمد رامي وقد لاقت- أيضًا- القبول والاستحسان. كما نالت قصيدة "الأرض اليباب" (The Waste Land) للشاعر "ت. س. إليوت" (T.S. Eliot) حظًا كبيرًا من الاهتمام في اللغة العربيّة، حتى إنّها تُرجمت غيرَ مرة إلى لغة الضاد وبمستويات أدبيّة وأسلوبيّة متفاوتة.  

وثمة رأيٌ ثالث يقول إنَّ السبيل الأمثل للوصول إلى ترجمة تقترب من النصِّ الأصليِّ على مستويات اللغة كافة، إضافة إلى الجانب البلاغيّ الإبداعيّ هو صورةٌ متخيلة في ذهن القارئ أو السامع تدمج بين النصّين الأصليّ والمترجم؛ ليصل المتلقي إلى ترجمةٍ خاصّة به يكوّنها في ذهنه، وبهذا يكون لدينا ترجمات عددها بعدد قراء النصِّ أو المستمعين له.

وختامًا نقتبسُ قولَ الشاعر الفرنسي "بيير ليريس" (Pierre Leyris) الذي يقول: " إنَّ ترجمةَ الشعر أمرٌ مستحيلٌ، والامتناعُ عن ترجمته أمرٌ مستحيل".  ولكم أن تكوّنوا رأيكم الخاص، وتتوصلوا إلى قراءة خاصّة بكم، سواء أكانت مع ترجمة الشعر أم مع استحالتها.