خيري منصور نجمًا أدبيًّا في الصّحافة

‏ محمود الريماوي

قاص وروائي أردني

 

يقع المتفحِّص لمقالات خيري منصور على ملمح رئيس لها يتمثَّل في النزعة النقديّة التي تنبض ‏بها، وتؤطّرها، أمّا الملمح الثاني والذي يسم مئات المقالات للكاتب، فيتبدّى في الاحتفاء بالتباشير ‏النهضويّة في النصف الأوّل للقرن العشرين وفي النقاط المضيئة من تراثنا. ويتَّصل بما سبق ‏ملمح ثالث وهو الإحالة شبه الدائمة إلى مرجعيّات ثقافيّة في الشرق والغرب بما لا حصر لهم من ‏روّاد وكُتّاب ونقّاد بارزين في حقول الأدب والإبداع والفكر. وجملة القول هنا إنَّ خيري منصور ‏نجح في تكريس صورته ونموذجه: أديبًا موهوبًا ومتدفقًا، يكتب في الصحافة اليوميّة على ‏طريقته الأدبيّة ووفق ذائقته الجماليّة المرهفة، من غير أن يتأثر أدنى تأثُّر بتقنيات الصحافة ‏وأساليبها وآلياتها.‏

 

لم يكن الشاعر والكاتب خيري منصور أوَّل مَن كتب من الأدباء في الصحافة الأردنية، فقد ‏تعاقب العشرات من أدباء الأردن على الكتابة في الصحف السيّارة منذ بدايات نشوء هذه ‏الصحافة في عشرينات القرن العشرين، بيد أنه كان بين قلة قليلة واظبت على الكتابة اليومية (في ‏صحيفة "الدستور") وتفرّغت للكتابة في الصحافة واتّخذتها مهنة لها وذلك منذ مطلع التسعينات ‏حتى رحيله يوم 18 أيلول/ سبتمبر 2018 عن 73 عامًا. ولعله كان الكاتب الوحيد الذي حظيت ‏مقالته اليوميّة ضمن زاوية "خاطرة " بالنشر على الصفحة الأولى؛ إذْ جرت سنن الصحافة ‏اليوميّة المحليّة آنذاك على نشر مقال وحيد على الصفحة الأولى هو رأي الصحيفة في مستجدّات ‏الأحداث والتطوُّرات ذات الأهميّة، فيما احتلّت مقالات الكُتّاب والأدباء الصفحات الداخليّة ‏والصفحة الأخيرة. ‏

بذلك، كان خيري منصور هو الاستثناء بعد أن "اكتشفه" بصفته كاتبًا موهوبًا ومتمرِّسًا، رئيسُ ‏تحرير "الدستور" حينذاك محمود الشريف، وهو بدوره كاتب مثقف لكنه لم يكُن يواظب على ‏الكتابة بصفة منتظمة، وذلك لانشغالاته الإدارية والمهنية الأخرى. ولعلَّ خيري منصور نفسه قد ‏اكتشف هذه المَلَكة لديه في الكتابة الغزيرة المتصلة؛ فاستجاب لها وطوّع لها قلمه، وأخلص لها ‏إخلاصًا تامًا ومنحها كامل طاقته الذهنية والتعبيرية، إذ كانت كتاباته قبل ذلك تقتصر على تدبيج ‏مقالات متفرقة في الأدب تنُشر في مجلات أدبية أو ملاحق ثقافية خلال إقامته المديدة في عقدي ‏السبعينات والثمانينات في العراق، هذا علاوة على كتابته الشعر، غير أنه أصبح مقلًّا في كتابته ‏للشعر عقب استغراقه في الكتابة اليوميّة، إذ تسرّبت طاقته الإبداعية الشعرية عبر مقالاته (كان ‏في واقع الأمر يكتب إلى جانب المقال اليومي في "الدستور" الأردنية، مقالًا يوميًّا آخر في ‏‏"الخليج" الإماراتية، إضافة إلى مقال أسبوعي في "القدس العربي"، وكتب لبعض الوقت مقالات ‏أسبوعيّة في "الأهرام" المصرية وفي "الوطن" القطرية) ومن دون أن يعمد إلى نشر المقال نفسه ‏بصورة متزامنة في أكثر من صحيفة ومنبر، كما يلجأ إلى ذلك بعض الكتاب الصحفيين العرب، ‏إذ كان يكتب مقالًا خاصًّا بكل صحيفة.‏

وعلى الرّغم من أنه اتَّخذ من الصحف اليومية منبرًا رئيسًا، بل منبرًا أوَّلًا لمقالاته، إلّا أنه تفادى ‏تقديم نفسه وتعريف شخصه على أنه "كاتب صحفي" (وذلك خلال ندوات وملتقيات ومؤتمرات ‏شارك بها في غير عاصمة عربيّة)، وهي صفة يكتسبها عادة مَن يكتبون بانتظام في هذه ‏المنابر. إذْ كان يحرص على تعريف نفسه بصفته كاتبًا أو أديبًا أو شاعرًا، ومن دون نسب هويّته ‏الكتابيّة إلى عالم الصحافة، مع أنَّ الصحافة هي منبره ومنصّته وملعبه. فقد وفد خيري إلى ‏الصحافة من عالم الأدب والكتابة الإبداعيّة وبدرجة أقلّ النقد الأدبي، وحرص على المكوث في ‏هذه الدائرة والانتساب اليها دون سواها، على الرغم من انقطاعه إلى الكتابة في الصحف، ‏واتِّخاذه من هذه الكتابة مهنة وحيدة تفرَّغ لها. ‏

وفي محاولة لتفسير ذلك المنحى الذي يبدو على قدر من التناقض، فإنه يجدر القول إنَّ خيري ‏منصور قد استلهم بعضًا من جوانب السيرة الثقافيّة والمهنيّة لأدباء عرب في دول المشرق في ‏القرن العشرين ممَّن أمدّوا الصحف (والمجلات) بكتاباتهم مع بقائهم خارج مهنة الصحافة، ومن ‏دون أن تجذبهم "مهنة المتاعب" إلى صفوف العاملين بها. وقد سعى إلى تنكّب هذه الطريق، ‏ضانًّا بنفسه من الانغمار في مهنة طاحنة قد تبدّد ملكاته الإبداعية والثقافية تحت وطأة الانهماك ‏بمتابعة أحداث وشؤون يوميّة. ويدلّ على ذلك أنَّ هذا الكاتب المميَّز قد احتفظ بأدواته التعبيريّة ‏الأدبيّة في كتابة مقالاته، ونأى بنفسه عن استخدام لغة الصحافة التي تخاطب جمهورًا عريضًا ‏من القارئين متعدِّدي المستويات الثقافية والتعليمية.. وذلك خلافًا لجمهرة من أدباء أردنيين ‏وعرب لم يتوانوا عن اللُّجوء إلى الأساليب الصحفية بما تشتمل عليه من مباشرة ودقة ووضوح ‏ولغة تواصليّة، وذلك استنادًا إلى مقولة "لكلِّ مقامٍ مقال" علاوة على تناول المستجدّات ‏والتطوُّرات اليومية (محليّة كانت أو عربية أو دولية) بالعرض والتحليل والتعليق آخذين في ‏الاعتبار مخاطبة قارئ "عادي" غير متخصِّص، لكنه شغوف بالقراءة والمتابعة والوقوف على ‏شتى الآراء "الناضجة". إلّا أنَّ خيري منصور ارتأى لنفسه الاحتفاظ بمساره الكتابي الخاص، فلم ‏ينشغل في مقالاته بتناول آخر الأخبار والتطوُّرات هنا وهناك، وهذه خصيصة تلازم مَن ‏يواظبون على الكتابة للصُّحف، وذلك لإدراكه أنَّ كثرة من الكاتبين يندفعون بحكم طبيعة المهنة ‏وسطوة "العادات" الصحفيّة إلى التعليق على الأحداث، ولم يكن يودّ أن يُحشر معهم، أو أن ‏يخوض تنافسًا معهم على هذه الأرضيّة، فضلًا عن أنه لا يتوافر على هذا الميل أو النزعة.. فلم ‏تكن لديه "غريزة" الصحفي، وبدلًا من الانغماس في متابعة المستجدّات، أو اللهاث وراء آخر ‏الأخبار، فقد عُني خيري منصور بالتطرُّق إلى القضايا الكبيرة، ذات الانعكاس على مناحي الحياة ‏المختلفة بما فيها الحياة السياسية والعامة. وذلك على شاكلة التحديق في مشكلات التخلف ‏الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والعمل على تحليل جوانبها، والتبعيّة للغرب، والارتهان إلى ‏الماضي، والهزائم العسكرية والسياسية، والحط من قدر النساء، والنزعة الاستهلاكيّة المحمومة، ‏والحداثة الشكليّة، والاستخذاء أمام الأعداء التاريخيين، وتسليع الثقافة وتجويفها، وافتقاد الفاعلين ‏النقديين في ميادين الفكر والثقافة، وانحسار الأحلام والأشواق القوميّة، واختلاط عالم الثقافة كما ‏عالم الإعلام بديناميّات "البزنس" والعلاقات العامة وأحابيلها، والتنمية العرجاء، وسواها من ‏قضايا ذات صلة بهذه.‏

ومع أنَّ حشدًا من الكتّاب العرب ما انفكوا في مشرق العالم الغربي ومغربه، يتناولون مثل هذه ‏القضايا بصورة منتظمة، إلا أنَّ الكاتب خيري منصور ينجح في بثّ الروح في قضايا مطروقة، ‏عبر أسلوب أدبي مشرق ورشيق يجمع بين الجزالة والمتانة البلاغيّة، وبين روح السخرية ‏اللاذعة والتهكُّم الذكيّ، بما يلبّي الحاجة الجماليّة لقارئه، جنبًا إلى جنب مع مخاطبة النزعة الناقمة ‏وتزكيتها لدى هذا القارئ الذي يجد في تلك المقالات متنفسًا له وتعبيرًا عن ذات نفسه المتطلبة ‏والتائقة إلى التغيير. وبهذا يقع المتفحص لمقالات خيري منصور على ملمح رئيس لها يتمثل في ‏النزعة النقديّة التي تنبض بها، وتؤطّرها، فالكاتب غير معني بنجاحات أو إنجازات هنا وهناك؛ ‏إذ من طبيعة الأشياء ومنطق الأمور أن يقع تقدمٌ ما في مجال من المجالات، فيما ينصرف جهده ‏ويتركّز اهتمامه على مواطن القصور وجوانب التخلف ومواضع الفوات، وهي وافرة وجمّة بل ‏تلابس واقعنا العربي المأزوم، مع إحالات إلى حقبة تحرُّرية تزخر بالإنجازات على صعيد ‏السياسة والفكر والثقافة، شهدها عقدا الخمسينات والستينات وحتى هزيمة العام 1967 وجاءت ‏متساوقة مع مدّ عالمي، فيما تحفل العقود اللاحقة بمظاهر شتى من النكوص والتراجع وإدمان ‏الهزائم وتفريغ الحياة من المعنى.‏

أمّا الملمح الثاني والذي يسم مئات المقالات للكاتب، فيتبدّى في الاحتفاء بالتباشير النهضويّة في ‏النصف الأول للقرن العشرين وفي النقاط المضيئة من تراثنا، والدعوة لاعتناق فكر نهضوي ‏يحرر طاقات الأفراد والجماعات والشعوب، ويلاقي ركب التقدُّم في العالم ويتفاعل معه ويضيف ‏إليه، ولهذا تحفل بعض مقالات خيري منصور باستذكار ماُثورات عن نهضويين أمثال المتنبي ‏وأبي العلاء المعري وأحمد شوقي وبدر شاكر السياب وطه حسين وسلامة موسى وحسين مروّة ‏وعبدالوهاب البياتي ومطاع صفدي وسواهم. وتبرز في هذه الكتابات مشاعر الصدمة إزاء ‏الحداثة المعطوبة والنهضة الموقوفة، مع تشريح لمظاهر الزيف واستبطان التخلف والتلاعب ‏بالعقول.‏

ويتصل بما سبق ملمح ثالث وهو الإحالة شبه الدائمة إلى مرجعيّات ثقافيّة في الشرق والغرب بما ‏لا حصر لهم من روّاد وكُتّاب ونقّاد بارزين في حقول الأدب والإبداع والفكر. إنَّ أسماء مثل ‏‏"جان بول سارتر" أو "جورج لوكاش" أو "أرنست فيشر" أو "يفجيني يفتوشكو" أو "غارثيا ‏ماركيز" و"أرنست همنغواي" و"آرثر رامبو" و"سيمون دي بوفوار" و"بودلير" و"هنري ملفيل" ‏و"سرفانتس" و"ألبير كامو" و"جان جينيه"، تتردَّد جنبًا إلى جنب مع المتنبي وأبي تمام والحلاج ‏ومحمود درويش وصلاح عبدالصبور ونجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان ويوسف إدريس. ‏ويحرص الكاتب على الإتيان على ذكر هؤلاء وسواهم ومأثوراتهم لدى التطرُّق إلى قضايا عامة، ‏وذلك لإيمانه بالتغيير الثقافي الذي لا بدّ أن يمهِّد ويواكب كل تغيير في مناحي الحياة، والمقصود ‏تغيير النظرة إلى الحياة للخروج من نمطيّة الرّتابة، وسلب الكينونة الفرديّة والافتئات على حقوق ‏الإنسان الأساسية.‏

وعليه، فإنَّ خيري منصور قد اجتهد في أن يجعل مقالاته تنشغل بالنظرة الكلية ومناقشة المفاهيم ‏والأطر العقلية والتطرق إلى القضايا المحورية، وتفادى في الوقت ذاته الاشتباك مع الوقائع ‏اليومية والتطورات الملموسة، كأن ينشغل بعُسف أصاب مبدعًا عربيًّا في بلد ما، أو بمأساة ‏اجتماعية محدّدة، أو حتى بتغيير واقع في بلد عربي محدد (لم ينشعل على سبيل المثال بموجة ‏الربيع العربي على الرغم من أهميتها الاستثنائية إلا بصورة عرضيّة وجانبيّة) كما لم يتناول ‏وقائع ثقافيّة محدّدة مثل واقع الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب وذلك على سبيل المثال، وكما ‏حرص على الابتعاد عن صفة الكاتب الصحفي، على الرغم من كتابته بالصحف كذلك فقد نأى ‏بنفسه عن دور الكاتب السياسي، متجنّبًا الخوض المباشر في المسائل السياسية رغم انشغاله ‏بالقضايا العامة ذات الصلة الوثيقة بالحياة السياسية، وقلّما تناول كتابًا حديث الصدور وذا أهميّة ‏في عالم الثقافة والإبداع، مؤثرًا على ذلك الاهتمام بكتب ومؤلفات سابقة عربية أو أجنبية ذات ‏دور تأسيسي في مشهد الحداثة. ‏

لقد كان خيري على قناعة أنَّ تحليقه والنَّظر إلى الأمور من فوق (بمثل النظرة من طائرة ذات ‏علوّ منخفض) تتيح له القبض على المشهد الكلّي والصورة العامة، حتى لو فاتته وغابت عن ‏أنظاره بعض التفاصيل والجزئيّات التي يلحظها ويلتقطها مَن يمشي على قدميه في الشوارع ‏ويعاين الحياة في حراكها اليومي. ولعله أراد ترك تلك المهمّة للكتاب والمحررين والمعلّقين ‏الصحفيين وللناشطين في الحقل السياسي والعام.‏

وجملة القول هنا إنَّ خيري منصور نجح في تكريس صورته ونموذجه: أديبًا موهوبًا ومتدفقًا، ‏يكتب في الصحافة اليومية على طريقته الأدبية ووفق ذائقته الجمالية المرهفة، من غير أن يتأثر ‏أدنى تأثر، بتقنيات الصحافة وأساليبها وآلياتها، ولعلّه بذلك كان يستبطن آراء وقناعات بـ"جناية ‏الصحافة على الأدب والأدباء" (كما في قول منسوب لعباس محمود العقاد) إذ تدفعهم إلى اللهاث ‏وراء الأحداث وإلى الزهد في القوة التعبيرية لصالح التبسيط والمباشرة، وتدبيج تعاليق قد تكون ‏رصينة أو على جانب من الجديّة والعمق، لكنها لا تصمد أمام تقلبات الزمن وتبدُّل الأحوال إذ ‏تفقد قيمتها مع انقضاء ظروف كتابتها. ‏

ولهذا، حرص من جانبه غاية الحرص على النَّسق الأدبي لمقالاته، وأن تكون هذه الكتابات قائمة ‏بذاتها وذات خصوصيّة، وبمنزلة ضيف عزيز ومكرَّم على عالم الصحافة الضاجّ باليوميات ‏ومتابعة الأحداث العابرة التي تطوي بعضها بعضًا مع تدافع الأيام. علمًا أنَّ مقالاته انقسمت بين ‏خاطرة وجدانيّة متأملة ومتفكّرة ذات حجم قصير يقل عن 400 كلمة كما في زاويته اليوميّة في ‏‏"الدستور"، وبين مقالات أكبر حجمًا تتطرّق على الخصوص إلى قضايا وشؤون ثقافيّة وتعتمد ‏التحليل وعرض الشّواهد والإطلالة الرّحبة شبه البانوراميّة، كما في مقالاته في "القدس العربي".‏

ومن المثير للانتباه في هذه الخاتمة أنه إذ يتفق باحثون ودارسون على أنَّ فنّ المقالة بدأ ‏بالازدهار في العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر مع الولوج إلى زمن الطباعة وبدء ‏صدور الصحف في مصر والعراق ولبنان وسوريا، حيث عُنيت الصحف بنشر المقالات، إلى ‏جانب اختلاط صيغة الأخبار المنشورة بالآراء والتعليقات، فإنَّ كتابات خيري منصور في ‏الصحافة تستحضر هذه الوقائع وتستأنفها بعد مضيّ أزيد من قرن عليها مع احتفاء الصحافة ‏بكتاباته؛ إذ وجدت مقالاته -وعن استحقاق- موقعًا متصدّرًا في الصحافة من دون أن تفقد قيمتها ‏الأدبيّة أو تنتظم في السياق الصحفي المعهود، أو تتنازل عن معايير الكتابة الرّصينة ذات الرّواء ‏الجمالي والإشعاع المعرفي. ‏