غيمة النصّ أم غيمة الذاكرة؟ في ضيافة نصّ شعريّ

 

 

علي جعفر العـلاق

شاعر وناقد وأكاديمي عراقي

 

 

 

كان كلانا، الشاعرة عطاف جانم وأنا، يعيش، في بداية التسعينات من القرن الماضي، ‏جغرافية يمنيّة بالغة الثراء، تتجاور فيها مكوّنات بالغة التنافر أحيانًا، لكنها، كما في ‏الشعر عادةً، تأخذ مداها الأرحب كلحظة حسيّة شديدة الشَّبَه باللحظة التي جسَّدتها ‏قصيدة (أيّ غيـم في غمامـة). وها نحن اليوم ندلف إلى القصيدة من المدخل ذاته: ‏ذاكرة كل منّا وقد اختزنت غيمتها الخاصة: الشاعرة تستحضر نثار تلك اللحظة ‏الغيميّة لتلبسها وجودًا نصيًّا ملموسًا، يتنفَّس داخل اللغة. أمّا أنا فأستعين بالذاكرة، ‏لأقرأ في ضوئها هذه القصيدة.‏

 

‏(1)‏

تفتح الشاعرة عطاف جانم، في هذه القصيدة، أكثر من ممرّ يؤدي إلى داخل النفس: ‏نفسي تحديدًا، ونفس المتلقي بشكل عام. فهي ملتقى لعناصر عديدة، بعضها جزءٌ، ما ‏يزال حيًّا، من خزين الذاكرة، وبعضها الآخر ينتمي بعمقٍ إلى ثقافة الذات الكاتبة ‏والمتلقية معًا، وقد احتشدت القصيدة بهذه العناصر بكثافة واضحة كما في المقطع ‏الأوَّل:‏

‏"بعضُ هذا الغيمِ طِفلٌ عابثٌ

يقفزُ ما بينَ الشبابيكِ.. يغنّي.. ينقرُ الدفَّ‎..‎

فيجري خلفَهُ بعضُ الصِّغارْ

بعضُ هذا الغيمِ بنتٌ للمكانْ

تغسلُ الأطباقَ‎..‎‏ تغلي قهوةَ السمّارِ‎..‎

أو تحملُ (فنجانًا) لِنَجمٍ يتمشّى في الجِوارْ".‏

الطفولة والغيم والأرض الصلدة. لقاء هو مزيجٌ جذّابٌ، يندفع في اتجاهي، لحظة ‏القراءة، مقبلًا من النص مرّةً، ومن جهة الذكرى الشخصيّة من ناحية أخرى. وعبر ‏هذا اللقاء الشخصي جدًا والشعريّ إلى درجة كبيرة، أتسلّل من ثلمة صغيرة في ‏القصيدة إلى ربع قرنٍ، أو يزيد، من الذكريات العصيّة على المحو.‏

أطفال القصيدة يمتزجون بأطفال الذاكرة، وهم يلاحقون غيمة تتجوَّل في الجوار ‏العالي، يمسكون بأذيالها تارة، أو يعودون بحفنة من فروها الطريّ الغزير تارة أخرى. ‏وشيئًا فشيئًا تكبر حصَّتي من تجربة النص: طفلتان تنفلتان من قيود صخريّة بالغة ‏القسوة، وتتبعان غيمة تمرُّ بيضاء خفيفة على جبل سُمارة. تمتلئ عيناي بوهج ‏الطفلتين، وهما في مرحهما الغيميّ، وأنا على ذلك الجبل، في منتصف الطريق إلى ‏الله. تحتشد الذاكرة بوطنٍ يدفعني إلى الغربة، ويبتعد كل يوم إلى المجهول.‏

 

‏(2)‏

كان الجبل يخترق بقرونه الوعرة تلك الغيمة العابرة وهو غارق في مهابته، بينما كُنّا ‏معلّقين في الأعالي القصيّة، ونحن في طريقنا من صنعاء إلى تعز، سيارة على كتف ‏الطريق الصخريّة، وأبوان يرقبان الطفولة وهي في أقاصي عبثها الجميل. الغيمة تمسّ ‏أطراف الشّجر، وتضيع بين ثنايا الجبل القديم، وطفلتان تقطفان بعضًا من خصل الغيم ‏العالقة سهوًا بغصون الشّجر. سردية شعرية، تختار مكانها بنبلٍ صافٍ بين صلادة ‏الجبل وشساعة السماء المشوبة بالضحى الفاتر. لحظة نادرة ترتجلها الريح بين ‏الصخر والطير الواقف في الأعالي، وابنتاي تركضان وراء الغيم في نشوة طفولية لا ‏أنساها. كان كل ذلك المزيج يشكِّل مشهدًا شعريًّا خِلْتُه لا يتكرَّر، يتماهى فيه الصلب ‏والسائل، والرهافة بالقسوة، والآن والذكرى. شعريّة مائيّة وصخريّة شديدة التضاد ‏والجاذبيّة، وها هي اللحظة ذاتها أو شبيهتها إلى حدّ بعيد تقع في كمينٍ شعريٍّ نصبته ‏الشاعرة عطاف جانم بعد عشرين عامًا من الاختمار في الذاكرة. ‏

كان كلانا، الشاعرة وأنا، يعيش، في بداية التسعينات من القرن الماضي، جغرافية ‏يمنيّة بالغة الثراء، تتجاور فيها مكوّنات بالغة التنافر أحيانًا، لكنها، كما في الشعر ‏عادة، تأخذ مداها الأرحب كلحظة حسيّة شديدة الشَّبه باللحظة التي جسَّدتها قصيدة (أيّ ‏غيـم في غمامـة).‏

وها نحن اليوم ندلف إلى القصيدة من المدخل ذاته: ذاكرة كل منّا وقد اختزنت غيمتها ‏الخاصة: الشاعرة تستحضر نثار تلك اللحظة الغيميّة لتلبسها وجودًا نصيًّا ملموسًا، ‏يتنفَّس داخل اللغة. أمّا أنا فأستعين بالذاكرة، لأقرأ في ضوئها هذه القصيدة.‏

أعانتني الذاكرة كثيرًا في التعامل مع هذا النص، في قسمه الأوَّل خاصة، بنشوة ‏انفعاليّة مضاعفة، فذاكرتي ما تزال تحتفظ بجزء شبيهٍ بتجربة النصّ، لم أستثمره في ‏الكتابة، كما فعلت الشاعرة لاحقًا، بل في عيش التجربة إلى أقصى مدياتها. ظلَّت ‏الشاعرة تحتفظ بتلك اللحظة، مثلي، سنواتٍ عديدة، غير أنَّها عادت إلى فكّ الاشتباك ‏بينها وبين ذلك الانفعال الكامن في النفس، لتتحرَّر منه، بعد أن نقلته من حيِّز الذكرى ‏إلى حيِّز اللغة. ثم لتختار له مسارًا آخر، يخرج به من دائرة الانفعال المفرد المحض ‏إلى فضاء الانفعال الحافل بالشَّجن والحركة وروافد التاريخ. ‏

 

‏(3)‏

لا يشير عنوان النصّ إلى اتجاه يطمئن المتلقي تمامًا إلى معناه، أو يراهن على مآلاته ‏الدلالية والجمالية. هل هذه الغيمة مثار للعجب أم للتساؤل؟ أم أنها مجلبة لكليهما؟ ‏الأمر، كما يبدو، يظل مفتوحًا حتى نهاية القصيدة. كما أنَّ الخيط الفاصل بين ‏احتمالات الدلالة شديد الرهافة، بل لا يكاد يبين. ففي هذه الغيمة من فداحة المصائر ‏والمآلات ما يدعو إلى العجب، ومن غموض الدوافع والمسببات ما يوجب السؤال أو ‏التساؤل. كما أنها تحفل بسلسلة من التحولات الخصبة، فهي، في جزء منها، الطفل ‏في عبثه ونشوته وفوضاه. وفي جزئها الآخر، هي ابنة المكان حين تفيض عليه ‏أنوثة، ولغة للسَّمر.‏

وتمضي هذه الغيمة في تحوُّلاتها العديدة، لترتقي، في المقطع الثاني، إلى مزيج تتداخل ‏فيه مكوّنات عديدة: الأزمنة، والأمكنة، والإنس، والجن، والأعراس، والقوافي. وتتعدَّد ‏فيه الغيمة وتتكاثر، لتشكل كياننا البشريّ في بعديْه، الأكثر رُقيًّا والأقسى طبيعةً، الذكر ‏والأنثى، والإنس والتوحُّش، ثم تشرق القصيدة إلى حركة موّارة بالحياة، يلتحم فيها ‏البشر والطبيعة في غزارة لونيّة بهيجة:‏

‏"كانت الغيمةُ إنسيًّا وجنيًّا

نهارًا في الدّجى، ليلًا بهيًّا في النّهارْ

كانت الغيماتُ أسرارًا وأنهارًا

حقولًا تجمعُ العشّاقَ في عرسٍ جماعيٍّ

يداري عوْزَهم عِقدُ الخُزامى

أو زهورُ البيلسانْ

كانت الكسرةُ لحنًا في غمامةْ

والقوافي.. مِهرَجانْ!".‏

 

‏(4)‏

وبعد أن تبلغ القصيدة مبلغها من الانثيال الوجدانيّ والحركيّ والتناغم، تهبُّ عليها، في ‏المقطع الثالث، ريحٌ سوداءُ مباغتة، ليعصف انكسارٌ مفاجئٌ بكل شيءٍ أشاعته الغيمة، ‏في إشراقتها الأولى في مفتتح النصّ:‏

‏"ما الذي سدَّ شبابيكَ غمامةْ؟‎!‎

ما الذي شجّ شبابيكَ غمامةْ؟‎!‎

وسبى لونَ الفراشاتِ

خلايا النحلِ بوحَ الكهرمانْ؟!".‏

اللافت أنَّ نبرة القصيدة تأخذ في هذا المقطع، على قصره، مداها في التساؤل ‏والتعجُّب معًا، وبلغةٍ لا مناورة فيها. الشاعرة هنا، وللمرَّة الأولى، تضع علامتي ‏السؤال والتعجب بعد كل سطر من هذا المقطع، فما كان، في العنوان، ضربًا من ‏التخمين، أخذ هيأة التعجُّب والسؤال دون روغان أو مواربة.‏

أمّا في المقطع الرابع، فنحسّ دبيب الخاتمة واضحًا، ها هي تشرع في ترتيب ‏عناصرها. يتلبّد النص، هنا، بكل حماقات التاريخ وتخلُّفه، ويبدأ الصَّدع الكبير: بقعة ‏تزدحم فيها عوامل التهشيم والتعرية، وتتعاضد فيها مسببات الدمار: يطلّ هادم اللذات ‏فيشتت ذلك الشمل، الذي كان فردوسيًّا متناغمًا ذات يوم، وتلوح هناك نهاية قياميّة ‏وشيكة تستبدّ بكل شيء.‏

يبدو المقطع شديد الازدحام وكأنه في عجلة من أمره، فالكثير من الإيماءات البعيدة، ‏والرموز تتداخل وترتطم ببعضها بعضًا، حدّ الارتجاج، حتى يذهب بنا الظنّ أنّ قدرة ‏النصّ على تحمُّل هذه التفاصيل كلها صار موضع تساؤل، كما أنَّ تدفُّقه السلس، لا ‏يظلّ على حاله إلى النهاية: الرموز تتوالى مسرعة، ينازع كل منها الآخر على فضاء ‏يتَّسع لتنامي حركته ودلالاته: قابيل يشق الطريق إلى جريمته الأولى. وفأر السدّ يقضم ‏لحمة أبناء القبيلة الواحدة فيجتاحهم السَّيل والظلام، أمّا بردة امرئ القيس المسمومة ‏فتقبل على شكل عون يتدفَّق موتًا طائشًا ونشوة تختنق ومدنًا تطاردها اللعنة..‏

الرموز، في معظمها تقريبًا، إيماءات مريرة إلى لحظات التصدُّع القاسي في الزمن ‏اليمني الراهن، غير أنَّ هناك خيطًا يقود إلى زمان تراجيدي آخر، إلى لحظة خاصة ‏تلقي بظلالها على عملية القراءة لحظة تقع هناك، خارج النص ولكن بوحيٍ منه. ‏داخل النفس وبدافعٍ من تشابك السياقات وتماثل الظروف.‏

ثمة مجهولٌ ما، تهجس به النفس على مضض، يقبع بين نهرين يحتشدان، منذ بدء ‏الخليقة، بالنبْوات ومذابح الأخوة، كما هي الحال بتجربة القصيدة. وشائج عديدة، ‏ألمحها بوضوح مؤلم، في المقطع الختامي، وكأنها تربط فجيعة اليمن بما يماثلها. ‏ينهض الشبيه المقيت، لا من نسيج النص، كما قلت، بل من مزاج التلقي في اللحظة ‏الراهنة: ذات العقد، وذات الكهوف، وذات الرموز الموغلة في التخلف. الدم ذاته، ‏ورموز الفجيعة ذاتها، تتجمَّع كمطر أسود تعافه النفس.‏

أتلقى النص وحيدًا: فلا أرى طفولة تطارد غيمة على جبل سُمارة، ولا جنّة متوهَّمة ‏أحلم بعودة قريبة إليها. الغيم يتيبَّس على أطراف الشّجر، والأنهار بكْماء حدّ الخرس، ‏ليس إلا رموز الحماقات تتبادل الشبه والأدوار والمكائد: الهديّة المسمومة تسدّ الأفق، ‏والعون ذاته قد يفتح بوّابات التهلكة.‏

ووحيدًا أنتظر غيمة لا تجيء. أتشظّى في مهبّ الأزمنة وفي الأمكنة. شريحة أخرى ‏من الشراكة بيني متلقيًا وبين الشاعرة كاتبةً للنصّ: كلانا خبُر الإقامة في تلك الطبيعة ‏اليمنيّة البهيّة، في تموُّجها وثرائها واعتدالها الصافي، ثم الحرمان، لاحقًا، من ذلك ‏البهاء كله، بعد أن حلّ محلها الترحال والتشظي.‏

 

‏(5)‏

إنَّ ما كان في حكم الماضي، صار بفعل القصيدة، جزءًا من راهن مرتبك يتكرَّر كل ‏يوم، بعد أن أخذ دلالته الفجائعيّة على الأرض. لكنّ ثمة تمويهًا، وإنْ بدا طفيفًا للوهلة ‏الأولى، يعرّض رموز هذا الواقع الهشّ لبعض الخدوش والتحويرات، لتصبح أكثر ‏ملاءمة للتعبير عن حاضر في أعنف مراحله وأكثرها بشاعة:‏

‏"يا الذي زجَّ بقابيلَ وغذّى نسغَهُ..‏

بالعتمةِ الشوهاءِ والطينِ ونَفطٍ للحوارْ

يا الذي يرقصُ حولَ النارِ

منْ أطلقَ فأرَ السدِّ في مأربَ

تحتَ الشَمسِ عِقبانٌ تُناغي الملكَ الضلّيلَ

تُغويهِ فيا لَلْبردةِ المهداةِ ‏

يسري سُمّها في الجسدِ الراشحِ

بالشعرِ وبالخمرِ

يداري نشوةً مختنقةْ".‏

إنّ امرأ القيس، مثلًا، يتجرّد من أبّهة عرشه، فليس له منها، هنا، إلا ضلاله أو نشوته ‏المختنقة، وإلا بردته المنقوعة بالهلاك، ويغدو فقدان الرشد منطلقًا لكل الحماقات، ‏وحاضنة لدلالات الموت والنهايات المسدودة. ‏

ثم ينغلق النص، أخيرًا، على غيمة تحترق بعد أن تألقت في مفتتح القصيدة، وعلى ‏سؤال يكمل حيرة العنوان، ويظل مفتوحًا، كالطعنة، على صنّاع الدّمار والفجيعة:‏

‏"أَنياشينُ وعهرٌ في غمامةْ

‏ فوق ظلِّ الغيمةِ

المحترقةْ؟!".‏