إربد عاصمة الثقافة العربيّة

 

د. يوسف ربابعة

رئيس التحرير

نفتتح عامنا الجديد في مجلة "أفكار" آملين أن يكون عام خير وسلام، وأن يزول المرض الذي ‏حجَّم كثيرًا من نشاطنا الثقافي والاجتماعي والتواصلي، ونستبشر أيضًا بهذا العام لاختيار مدينة ‏إربد عاصمةً للثقافة العربيّة لعام 2022، ذلك أنَّ هذا الاختيار يمثل إشارة لأهميّة هذه المدينة ‏على المستوى العربي، وبخاصة أننا نتحدَّث عن مدينة وليس عن عاصمة، وقد اعتدنا أن نحتفي ‏بالعواصم وما فيها من أنشطة وحركة، ولا نلتفت للمدن الأخرى إلا بقليل من الاهتمام في هذا ‏الجانب، أمّا اختيار إربد فقد أعاد لأذهاننا تاريخًا وقصةً وإنتاجًا وإبداعًا.‏

بداية أشير إلى أنَّ التنمية الثقافيّة إحدى مؤشرات التنمية الإنسانيّة، ولا يمكننا تجاوز الثقافة في ‏الحديث عن الإنسان وعن أيّ قطاعات أخرى كالتجارة والتعليم والصحة، وذلك يستدعي الالتفات ‏للجانب الثقافي في أيّ برامج تستهدف التنمية الإنسانيّة، وهي اليوم مطلب أساسي في مؤشرات ‏التقدُّم عند الأمم والشعوب، وإذا كنّا نشكو من أنَّ برامج التنمية عندنا لم تتوزَّع بشكل عادل ‏جغرافيًّا فإنَّ عنوان "إربد عاصمة للثقافة" يعيدنا للبحث عن مكامن القوّة والاستعداد والإمكانات ‏الثقافيّة التي تمتلكها هذه المدينة، وأنها تحتاج عنايةً للاستفادة منها على أكمل وجه.‏

يمكننا أن نجد كثيرًا من الأسباب التي دعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة ‏‏(اليونسكو) لاختيار هذه المدينة عاصمة للثقافة العربية، وذلك بالتأكيد مبني على معايير تاريخيّة ‏وثقافيّة مستقرَّة ومُعترف بها على المستوى العربي والعالمي، وهذه المعايير لا تخفى من حيث ‏وجودها وعمقها واستمرارها، فمدينة إربد تُعدُّ من الأماكن القديمة جنوب الشام التي شهدت ‏استيطانًا بشريًّا، كما أنَّ هناك مَن يرى أنَّ تلَّها المعروف يُعدُّ من أكبر التلال التي عمّرَها الإنسان ‏على مستوى المنطقة، وهناك دلائل تشير إلى وجود مدينة تعود إلى العصر البرونزي تحت ذلك ‏التلّ. وإذا انتقلنا للعصر الحديث سنجد أنَّ هناك ثلاث إدارات محليّة تشكَّلت في شرق الأردن ‏أوائل عام 1920م، عُرفت باسم الحكومات المحليّة وهي: حكومة عجلون، وحكومة السلط، ‏وحكومة الكرك، وكانت مدينة إربد هي عاصمة حكومة عجلون.‏

تفتخر مدينة إربد منذ تاريخها القديم بإنتاجها الفكري والثقافي من خلال أعداد كبيرة من العلماء ‏والفلاسفة والقضاة والأدباء والشعراء، وذلك نجده حين نتتبَّع تاريخها من بداية القرن الأوَّل ‏الميلادي إلى عصرنا الحديث. وقد يكون من المفيد التَّذكير بالمشهد الثقافي في العصر الحديث، ‏فنجد تطوُّرًا علميًّا وثقافيًّا ملفتًا؛ حيث تذكِّرنا المصادر أنَّ مجموعة من المجلّات الثقافيّة قد ‏صدرت في إربد، منها مجلة (صوت الجيل) التي كانت تصدر عن ثانوية إربد، ومجلة (وحي ‏العروبة) التي كانت تصدر عن كلية العروبة الأهلية، ومجلة (المدى)، ومجلة (عرار) التي كانت ‏تصدرها مديرية ثقافة إربد‎.‎‏ ولا يمكننا أن ننسى أسماء شخصيّات أدبيّة وفنيّة ذات طابع مؤثِّر في ‏المشهد الثقافي الأردني والعربي ينتمون لهذه المدينة العابقة برائحة الياسمين. وفيها اليوم ما يزيد ‏على أربعين هيئة ثقافيّة مسجَّلة في وزارة الثقافة، وأعداد كبيرة من الشعراء والروائيين ‏والقاصين والكُتّاب على مختلف مشاربهم.‏

لا بدَّ أنَّ هناك أسبابًا كثيرة وموضوعية ووجيهة دعت منظمة اليونسكو لاختيار إربد عاصمة ‏للثقافة العربية، لكن يبقى السؤال مفتوحًا على التوجُّهات والرُّؤى التي ستقف خلف أنشطة المدينة ‏خلال هذا العام، وهل ستكون في المستوى المطلوب؟ أم ستبقى بحدود شكليّة واحتفالات ليست ‏ذات قيمة؟ وإذا كانت هذه المدينة قد أثبتت وجودها تاريخيًّا بأصحابها، فهل تستطيع اليوم أن ‏تثبت وجودها في المستقبل؟ ‏

هذه الأسئلة هي التي تلحُّ علينا جميعًا حين نتحدَّث عن أيّ نشاطات ثقافيّة، لأنّنا نطمح طموحًا ‏يُخيفُنا دومًا بأن تكون إربد بحجم صورتها وسمعتها وسرديّتها في التاريخ وفي الحاضر وبحجم ‏تطلُّعاتنا لها في المستقبل، وذلك يستدعي أنْ ينظر أصحاب القرار لهذه المناسبة بوصفها مؤشِّرًا ‏وعدسة مكبِّرة تُعيد اسم إربد لواجهة الثقافة الأردنيّة والعربيّة والعالميّة، وتُخرج وجهها ‏الحضاري والإنساني الأجمل والأرقى، وأن تكون الأنشطة غير تقليديّة كما عهدنا، لكن هناك ‏فرصة للتفكير بفعاليّات ونشاطات ومهرجانات إبداعيّة ومميَّزة، يشارك فيها الجمهور ويستفيد ‏منها الجميع، تعبِّر عن المدينة عبر التاريخ وعن مكانتها الجغرافيّة، وتعبِّر عن عاداتها وتقاليدها، ‏وعن الصناعة والزراعة والمواسم والحكايات والأساطير والأسواق والنشاط اليومي وحركة ‏الناس في الشوارع.‏

لقد رأيناها مناسبة فريدة أن نفتتح دورتنا للسنة الجديدة في مجلة "أفكار" بالكتابة في مفتتحها عن ‏مدينة نحبُّ اسمها ونتذكَّر تاريخها وكل ما فيها من ألق وإبداع، راجين أن تكون سنة خير وأن ‏تكون إربد مفتاحًا لاختيار مدن أردنيّة أخرى عواصم للثقافة العربيّة في قادم الأيام، ولدينا مدن ‏لها تاريخ وتتمتَّع بثقافة أصيلة سطرتها عبر زمن ممتدّ وجذور عميقة.>