إمارة الشرق العربي رحلات ومشاهدات عربيّة ‏ ‏ (1921 – 1945م)‏

كايد مصطفى هاشم

كاتب وباحث- نائب الأمين العام للشؤون الثقافية بمنتدى الفكر العربي/ الأردن

 

تُلقي رحلات عدد من المثقفين العرب إلى شرقي الأردن مع بدايات تأسيس الدولة ‏الأردنية سنة 1921 وحتى ما قبيل الاستقلال والانتقال من عهد الإمارة إلى عهد ‏المملكة الأردنية الهاشمية سنة 1946؛ أضواءً على ملامح وجوانب اجتماعيّة ‏وعمرانيّة مختلفة من حياة الناس وأحوالهم في هذا القطر العربي، إبان تشكُّل كيانه ‏السياسي الجديد ومجتمعه الحديث، وفي حقبة تاريخيّة كان فيها المشرق العربي على ‏محكِّ التحدِّيات بوصفه أحد محاور المتغيّرات والمستجدّات على الساحة الدوليّة منذ ‏نهاية الحرب العالميّة الأولى (1914-1918م) وبعد نهاية الحكم العثماني.‏

تمثِّل النماذج الخمسة من نصوص الرّحلات العربيّة المُختارة هنا والتي كتبها مثقفون ‏من ذوي النزعة القوميّة العربيّة الصريحة، خطابًا نهضويًا يضيء مقوّمات التحرّر ‏والاستقلال والتقدّم في هذه الدولة العربيّة وهي في طور النشوء والتشكُّل، وقد ‏استمدَّت نسيجها من ميراث حضاري عريق لم يغب معه العامل التاريخي الذي يجذِّر ‏قيمة التنوّع في إطار الوحدة، كما اعتمدت نهجًا حداثيًّا عقلانيًّا طبع مختلف مراحل ‏تطوّرها، وحفظ توازنها واستقرارها، واستمرارها وسط أحداث وظروف وأوضاع ‏دقيقة، إقليمية ودولية، أحاطت بها منذ مرحلة النشوء وأثَّرت عليها بأشكالٍ متفاوتة من ‏التأثير.‏

 

عامان في عمّان وبدايات من عهد الإمارة

لم تشهد منطقة شرقي الأردن قبل مجيء الأمير -الملك المؤسِّس- عبدالله بن الحسين ‏‏(1882-1951م) قادمًا من الحجاز؛ حيوية وحركة كما شهدَت تحديدًا معان في ‏الجنوب ثم عمّان التي أصبحت بعدئذٍ عاصمة الدولة، فقد دبَّت فيهما روح من النشاط ‏العارم والحركة الدؤوبة بتوافد العديد من الساسة والمثقفين ورجال الإدارة والعسكرية ‏وغيرهم من الشخصيات العربيّة في بلاد الشام والعراق ومصر، عدا زعماء القبائل ‏والعشائر وشخصيات وطنية من أنحاء شرقي الأردن، وفيهم قسم غير قليل من رجال ‏الحركة العربيّة، وأحيانًا بعض الصحافيين العرب، والأجانب أيضًا، ذلك أنَّ الأمير ‏الهاشمي، نجل شريف مكة الحسين بن علي زعيم النهضة العربيّة الكبرى وثورتها، ‏أصبح مَعْقِد آمال العرب في هذه المنطقة للتخلص من الهيمنة الأجنبية واستعادة الحكم ‏العربي المستقل الذي قام في سورية سنة 1918 بزعامة الملك فيصل بن الحسين، ‏وانتهى بالاجتياح الفرنسي على إثر معركة ميسلون (24 تموز/ يوليو 1920) ‏وفرض الانتداب على سورية الشمالية ولبنان وفق اتفاقية (سايكس- بيكو)، التي ‏تقاسمت بموجبها فرنسا وبريطانيا النفوذ والانتداب في بلاد الشام والعراق. ‏

يصف خيرالدين الزِركلي الدمشقي (1893-1976م) في كتابه "عامان في ‏عمّان"(1)، وهو مذكراته عن عامين أمضاهما في عاصمة شرقي الأردن (1921-‏‏1923م)، المظاهر الحماسيّة لاستقبال الأمير عبدالله من جانب الأهالي والزعماء ‏المحليين ومعهم أحرار العرب ومعظمهم من رجال الثورة العربيّة الذين عملوا مع ‏الملك فيصل في دمشق. وكان الزركلي واحدًا من هؤلاء، فقد وصل إلى عمّان قبل أن ‏يدخلها الأمير ببضعة أسابيع آتيًا من الحجاز، مرورًا بمصر والقدس والصلت ‏‏(السلط)، ضمن وفد مؤلَّف منه ومن صديقه يوسف ياسين أرسله ملك الحجاز الحسين ‏بن علي لمعاونة الأمير عبدالله، ومن ثم سافر هذا الوفد إلى معان بالقطار مع آخرين ‏من الاستقلاليين العرب في رحلة مدّتها عشر ساعات للقاء الأمير ومرافقته إلى عمّان.‏

ويورد الزركلي وصفًا جميلًا للاستقبال الحماسي بالهتاف والتحية من جانب أهل ‏عمّان للأمير عبدالله حين وصلها بالقطار قادمًا من معان، وكانت المسافة بين محطة ‏عمّان والبلدة نفسها حوالي ثلاثة كيلومترات، ولمّا لم يكن هناك سيارات فقد اجتاز ‏الأمير ومرافقوه هذه المسافة على الجياد، ونزل الأمير في دار رئيس البلدية، وتقدَّم ‏الناس للسلام عليه مستبشرين بقدومه ومتفائلين خيرًا. وفي اليوم التالي أقيم احتفال ‏كبير في ساحة عمّان أمام المدرج الروماني، وألقى الأمير كلمة أمام الجمع الكبير من ‏الحاضرين ومما قاله فيها: "وما جاء بي إلا حميّتي وما تحمّله والدي من العبء ‏الثقيل، فالواجب عليّ أفهمه ولو كان لي سبعون نفسًا بذلتها في سبيل الأمّة لما عددت ‏نفسي أني فعلت شيئًا". ‏

لم تكن عمّان قبل قدوم الأمير -كما رآها الزركلي- "أكثر من قرية، قليلة السكان، ‏ضئيلة المباني، مُظلمة السُّبل، لا يصل بينها وبين تاريخ مجدها إلَّا ما شَخَصَ من ‏آثارها"، ويشير الزركلي إلى أنها اكتسبت بعض الشأن قبل تأسيس الإمارة من تجارتها ‏بين القبائل العربيّة النازلة حولها (قبائل بني صخر وبني حسن وعبّاد والعدوان)، ‏والتجار الذين جاؤوا إليها من دمشق ونابلس وافتتحوا في سوقها -أو ما يشبه السوق- ‏بعض الحوانيت الصغيرة. كما يشير إلى سكانها من الشراكسة وقراهم ومزارعهم ‏حولها. ‏

وكان الشريف علي بن الحسين الحارثي (1895-1955م) الذي جاء إلى عمّان ليمهِّد ‏مع الوطنيين فيها لقدوم الأمير عبدالله، قد استقبل الزركلي وصحبه في عمّان ومعه ‏قائم مقامها وقائد دركها ومجموعة "من الخيّالة والرجّالة كانوا يهتفون بحياة العرب ‏والاستقلال، وينشدون الأناشيد الوطنية"، ما جعل صاحب الرحلة يستعيد أجواء النادي ‏العربي بدمشق أيام الحكومة العربيّة الفيصلية. ويذكر الزركلي بتقدير كبير دور ‏الشريف الحارثي في هذا الصدد، كما يشير إلى أنَّ الأمير عبدالله أقام أول الأمر في ‏بيت بمحطة عمّان فُرش له بعد أن كان يسكنه أحد موظفي السكة الحديدية. أمّا ‏الزركلي ورفيق رحلته، صديقه يوسف ياسين، فقد أقاما في خيمة نُصِبت في الوادي ‏الخصيب المجاور للمحطة وكانت مأواهما لبضعة أسابيع. ‏

تلاحقت بعد ذلك الأحداث والتطورات السياسية التي أفضت في أعقاب عودة الأمير ‏عبدالله من اجتماعه مع "تشرشل" وزير المستعمرات البريطاني في القدس، إلى تشكيل ‏حكومة عربيّة في شرقي الأردن "إمارة الشرق العربي" بتاريخ 11 نيسان (إبريل) ‏‏1921، وعُرِفَت هذه الحكومة باسم مجلس المشاورين، وكانت برئاسة رشيد طليع ‏الذي سمّي الكاتب الإداري أيضًا ووكيل مشاور الداخلية، وأعضاؤها هم: الأمير شاكر ‏بن زيد نائبًا للعشائر، وأحمد بك مريود معاون نائب العشائر، وأمين بك التميمي ‏مشاور الداخلية ومتصرف لواء عجلون، ومظهر بك رسلان مشاور العدلية والصحة ‏والمعارف، وعلي خلقي بك الشرايري مشاور الأمن والانضباط، والشيخ محمد ‏الخضر الشنقيطي قاضي القضاة، وحسن بك الحكيم مشاور المالية. ‏

وأُسند للزركلي بعد تشكيل حكومة الإمارة هذه منصب المفتش العام للمعارف، ثم ‏رئاسة ديوان الحكومة، وخلال إقامته في شرقي الأردن قام برحلتين صغيرتين كما ‏سمّاهما، الأولى خلال شهر آذار 1921 مع ثلاثة من السوريين (علي آغا زلفو من ‏أعيان الأكراد في صالحية دمشق، وشكري القهوجي، وشريف شاهين، وهذان الاثنان ‏كانا من مقاومي السلطات الانتدابية الفرنسية في بلدهم). انطلقت الرحلة من عمّان إلى ‏القدس مرورًا بجرش والحصن وإربد ووادي الغفر، ثم قرية كفر أسد، وقرية مخربا، ‏وجسر المجامع، وكلها في شمالي الأردن، ومن هناك بالقطار إلى حيفا، ثم طولكرم، ‏وحيفا، ويافا، وعاد من القدس إلى عمّان بعربة خيل مارًا بالسلط. لم يذكر الزركلي ‏سبب هذه الرحلة واكتفى بشذرات عن بعض حوادث الطريق ومشاهداته في هذه ‏الأثناء، ومنها لقاء بالمصادفة مع المعتمد البريطاني في جرش واسمه "منتون"، ‏ومروره بشجرة معمّرة في مكان يبعد عن جرش بحوالي سبعة كيلو مترات قيل إنها ‏تُظلّ أكثر من مئة شخص ويطلق عليها أهالي المنطقة اسم "شجرة المنوَى"، ويقيمون ‏تحتها أفراحهم، ويقصدها الناس للزيارة والتبرُّك، ثم ذكر حادثة تعرُّضه ورفاقه لخيّال ‏كَمَن لهم وصوّب بندقيته نحوهم لكن أحد رفاق الرحلة، وهو شريف شاهين، تغلب ‏على الخيّال وكاد يسلبه فرسه.‏

أمّا الرحلة الثانية، فكانت بعد تعيين الزركلي مفتشًا للمعارف وقد قام بها ما بين 2-‏‏27 أيار (مايو) 1921 ليتعرَّف على أحوال بعض المدارس في شرقي الأردن، ولم ‏يكن عدد المدارس في البلاد يزيد على 23 مدرسة ابتدائية خلا اثنتين ثانويتين، ويقول ‏الزركلي إنَّ حصة المعارف السنوية كانت لا تزيد على ستة آلاف جنيه. شملت هذه ‏الرحلة أو الجولة قرى وادي السير، وناعور، وخربة النابلسي (من قرى حسبان)، ‏ومادبا، ثم وفي طريق العودة ناعور ووادي السير مرة أخرى، فقرية صويلح، ‏فالسلط، فعمّان. ويورد الزركلي في ما كتبه عن رحلته هذه أوصافًا للقرى التي زارها ‏فيقول إنَّ وادي السير "قرية نظيفة جميلة في وادٍ خصيب"، وناعور "أطيب تلك ‏البقاع مناخًا"، و"مأدبا أو (ميدبا) بُليدة عامرة"، أمّا صويلح "فغاية في جودة المناخ ‏وعذوبة الماء وطيب الهواء"...إلخ. ويروى بعض الحكايات التي سمعها من بعض مَن ‏التقاهم عن تجاربهم والعلاقات السائدة بين السكان في ذلك الحين، ويتحدث عن الحياة ‏الاجتماعية للشراكسة والشيشان والفروق بينهم في اللغة والعادات، وفي المذهب؛ ‏فالشيشان شافعية والشراكسة أحناف، ويورد خلاصة من تجارب التعامل بين الحضر ‏والبدو.‏

أفرد الزركلي في كتابه المشار إليه فصلًا دعاه "للتاريخ" تناول فيه شيئًا عن أحوال ‏معان، الحجازية والشامية، وعشائرهما، وقال إنَّ لفظ معان يطلق على جميع أراضي ‏الشراة، التي تضُم قرى كثيرة أكبرها "أذرح" و"الجرباء" وفيهما أنقاض أبنية ‏وطواحين، وأشار إلى أسماء قرى أخرى أكثرها أصبح دارسًا، وأتى على ذِكر عشائر ‏الحويطات في أطراف معان، وناحية الشوبك، وقلعتها، وأهاليها، ووادي موسى ‏المشتهر بآثاره، بيد أنه لم يُتَح له زيارة منطقة الآثار في البتراء، وإنما ذُكر له شيء ‏عن أهم آثارها الفخمة!‏

كما أفرد للواء الكرك –حينذاك- فصلًا نقل فيه نصّ "بيان رسمي عام وضعته القوّة ‏السيّارة وقُدِّمت نسخة منه للحكومة سنة 1922"، وهذه القوّة هي عبارة عن سرية ‏مُشاة عسكرية كان قائدها الضابط البريطاني "فردريك بيك"، وذكر الزركلي أنه ‏اشترك في وضع هذا البيان ضباط القوّة الوطنيّون، ومعظم ما جاء فيه يتعلق بقبائل ‏الكرك وعشائرها وأقسامها، وإحصاءات عن نفوسها وأعداد بيوتها وقراها، وأحوالها ‏الاقتصادية، وقوّتها من الفرسان والخيل، وما إلى ذلك. ويمكن أن تُعدُّ هذه الوثيقة ‏المبكّرة في القرن العشرين مصدرًا لمعلومات مهمّة عن الكرك في ذلك الحين.‏

 

عن عمّان تاريخها وآثارها

في سنة 1924 كتب درويش المقدادي (1898-1961م)، التربوي والمؤرّخ ‏الرحّالة، وكان حينئذٍ مدرسًا للتاريخ في دار المعلمين بالقدس، نصًّا وجيزًا عن رحلته ‏إلى عمّان وجرش(2)، تطرّق فيه إلى التشابه بين وسائل البشر في حماية أوطانهم ‏ومستعمراتهم في الماضي والحاضر، متخذًا من وقائع التاريخ مصدرًا للعبرة من ‏خلال الكشف عن تجارب وصراعات بعض الدول القديمة التي حكمت هذه المنطقة، ‏كالرومان حين أرادوا أن يتوغلوا في داخلية بلاد العرب ليقضوا على البدو، ولكنهم لم ‏ينجحوا فعقدوا المحالفات مع تدمر وبطرا (بترا) والغساسنة، حتى أخرجتهم من الديار ‏‏"موجة قوية تحمل لجّتها الأبطال من أم القرى" (مكة المكرمة) مع الفتوحات العربيّة ‏الإسلامية. وذكر المقدادي في السياق مدن الديكابوليس التي أنشأها الرومان على ‏الحدود لصدّ هجمات أعدائهم ونشر المدنيّة الرومانية، وأسكنوا فيها رومانيين، ويقع ‏معظمها في أراضي شرقي الأردن، وهي عشر مدن تمتد من حوالي الكرك إلى ‏دمشق، وأشهرها بيسان وعمّان وجرش ودمشق وأم قيس وفحل.‏

وممّا ذكره عن عمّان، مقرّ حكومة الشرق العربي، أنها "واقعة بين جبلين وتنبع ‏بقربها عين يجري ماؤها في الوادي فتكسبه خضرة. وفيها ملعب كبير (المدرج ‏الروماني) قائم على جانب الجبل"، وألمح إلى تاريخها القديم الذي أشار إلى أنه يرجع ‏إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وإلى أنها كانت من مدن العمونيين، واستولى عليها ‏في ما بعد البطالسة، وأعاد بناءها بطليموس الثاني فيلادلفوس الذي سمّيت باسمه في ‏ذلك العهد، لكنها استعادت اسمها القديم (عمّان) لما افتتحها العرب. ‏

كان عدد سكان عمّان يوم زارها المقدادي حوالي عشرة آلاف نفس، بمن فيهم سكانها ‏الجركس أو الشركس، وقال إنَّ السلطان عبد الحميد (الثاني) أرسلهم بعد هجرتهم من ‏القفقاس ليجعلهم حاجزًا دون غارات البدو، وإنه -أي المقدادي- وجدهم ما زالوا ‏يتكلمون لغتهم، وذكر ما يوضح عادة الخطف في الزواج عندهم، مستحسنًا الطريقة ‏التي يتعارف بها الفتيان والفتيات الجراكسة بمعرفة ذويهم، وبقصد الزواج وضمان ‏الحياة الهادئة والمستقرّة في بيت الزوجية، فقال: "إنَّ الفتى منهم إذا أحبّ فتاة جركسية ‏ذهب إلى بيت أبيها. وهناك يجتمع بها هو وأصحابه عند أمها ويحدّثها ويتعرف ‏أخلاقها ثم يزورها بعد ذلك حتى يتمكن من معرفتها فيهواها. فإذا عزم على الزواج ‏بها اتفق معها سرًا أن يأتي إليها على حين غفلة من أهلها ليخطفها. فيأتي عادةً فتاها ‏مع أصحابه راكبين الخيول ويقتربون من بيت أهل الفتاة ويشعرونها بقدومهم. فتخرج ‏الفتاة راكبة مع حبيبها. ولمّا يبتعد هذا عن بيتها يطلق مسدسه بضع طلقات ليعلم أهلها ‏بخروجها، ثم يأخذها إلى بيت غير بيته. ومن ثم يحصل في هذا البيت عقد الزواج ‏بحضور وليها فيتم بذلك زواج الفتى. ويعد الجراكسة الزواج دون خطف عارًا. هكذا ‏يتزوج الجركسي بعد أن يعرف زوجته". وأردف المقدادي متسائلًا: فهل يوجد لدينا ‏طريقة يستطيع الفتى بواسطتها معرفة شريكة حياته، أخلاقها أو طباعها وكلامها ‏وهيئتها، كيلا يتزوّجها "على العمية" أو دون معرفة كافية؟

 

رحلة إلى عمّان ‏

خلال الربع الأخير من سنة 1933 قام صاحب صحيفة "الصراط المستقيم" اليومية ‏في يافا وخريج الأزهر الشيخ عبدالله القلقيلي (1899-1973م)(3)، والذي أصبح ‏في ما بعد مفتي المملكة الأردنية الهاشمية، برحلة مدّتها أسبوع واحد إلى عمّان ‏عاصمة الإمارة التي لم يكن يعرفها من قبل، ولهذا اصطحب معه سكرتير تحرير ‏الصحيفة علي منصور، الشاعر المصري الأصل، لما لديه من معرفة وخبرة بشرقي ‏الأردن فقد عمل فيها منصور مدة من الزمن من قبل. وكان الجوّ العام في فلسطين ‏حينها متوترًا بسبب الاضطرابات والاحتجاجات العربيّة التي وقعت نتيجة فتح الأبواب ‏من قبل الحكومة المُنتَدبة في فلسطين أمام الهجرة اليهودية، فانطلق القلقيلي مع رفيق ‏رحلته من القدس بالسيارة، وأشار إلى أنَّ السيارات لم تكن تسير بين القدس وعمّان إلَّا ‏قليلًا، ومرّ بأريحا التي كانت مُغلَقة إضرابًا، واجتاز جسر اللنبي المقام على نهر ‏الشريعة (نهر الأردن) الفاصل بين فلسطين والشرق، وأشار إلى أنَّ الموظفين على ‏الجانب الفلسطيني يكتبون أسماء المجتازين إلى شرقي الأردن، لكنهم ليسوا بلطف ‏وبشاشة وسماحة الموظفين في الجانب الحدودي الأردني، وأرجع ذلك إلى أنَّ الأوّلين ‏يتبعون لحكومة الانتداب فيما يتبع الموظفون من شرقي الأردن حكومة عربيّة "والناس ‏على دين ملوكهم"!‏

وفي طريق الصعود من غور الأردن مرَّت السيارة بقصرٍ يقع قربها كان يُشتّي فيه ‏الأمير عبدالله ومكان آخر أشار القلقيلي إلى أنه يُضرَب فيه فسطاط الأمير، وقال ممّا ‏عرفه بنفسه خلال رحلته: "يظهر أنَّ سموّ الأمير مشغوف بعيش البداوة؛ فهو حيث ‏ينزل يطلب أن تُضرَب لهُ الخِيام، حتى إنَّ لسموّه في حديقة قصر رغدان خيمة" ‏بُسِطَت فيها سفرة الغداء التي دُعيَ إليها القلقيلي ورفيقه. وتحدّث عن محافظة الأمير ‏على زيّه البدوي أحبّ الأزياء إليه، وقد أخذ بَنيه الأمراء بذلك فكان سمو الأمير طلال ‏متزيًا بهذا الزي مما "يدخل في الأصالة وكرم العِرق ونُبل المَحْتِد، وهو من علامات ‏الشرف"- بتعبير صاحب الرحلة.‏

أمّا عن عمّان فقال إنه كان يتوهّم صورة غير الصورة التي ألفاها عليها، فقد كان ‏يظنها أشبه بقرية، ولكنه وجدها "مدينة جميلة، ذات دور بيضاء وقصور غراء، ‏وشوارع فسيحة مستقيمة، مفروشة بالإسفلت، وقد طاب هواؤها وعَذب ماؤها واعتدل ‏مناخها"، وقد تقدَّمت خلال بضع سنين عما كانت عليه سابقًا، وأخبره رئيس بلديتها ‏طاهر بك الجقة بأنّ "الحكومة لا تعارض البلدية في شيء، بل تسهّل لها عمل كل ‏شيء"، وأنّ البلدية قامت بمشروع إضاءة عمّان بالكهرباء من مالها، ولم تلجأ إلى ‏مشروع "روتنبرغ" لتوليد الطاقة الكهربائية من مياه نهري اليرموك والأردن بامتياز ‏من سلطة الانتداب لشخص يهودي، ولم تجبرها الحكومة على ذلك، لأنَّ البلدية رأت ‏في "روتنبرغ" مشروعًا يشكل خطرًا على العرب وحصنًا للصهيونية يجبي المال من ‏العرب ليعيش منه الصهيونيون. ويعلّق القلقيلي على ذلك بالقول: "من هنا يظهر أنَّ ‏العرب إذا تُركوا وشأنهم أسرعوا السَّير في التقدّم بما لا يكون منهم في إدارة ‏استعمارية تقف في سبيلهم، وتقيم أمامهم العقبات".‏

وكان أوَّل ما عمله في اليوم الثاني لوصوله عمّان أن توجّه للسلام على "صاحب ‏السمو الملكي الأمير عبدالله"، بصحبة الأستاذ نظمي بك عبدالهادي أحد أقطاب حزب ‏الشعب الأردني، وقابلهم الأمير بزيّه العربي الذي لا يدعه لا في مكتبه ولا في مقرّه، ‏مرتديًا القباء الحريري ومتمنطقًا بالخنجر وفوق ذلك العباءة والعقال والكوفيّة.‏

وتحدَّث القلقيلي عن عناية الأمير عبدالله بفلسطين واهتمامه بما يجري فيها من ‏حوادث، وقلقه من أخبار آنئذٍ عن منشورات لحكومة الانتداب في فلسطين بأنها لن ‏ترجع عن جعل فلسطين وطنًا قوميًا لليهود، لكن المعتمد البريطاني في ذلك الوقت أبلغ ‏مستشار الأمير الشيخ فؤاد باشا الخطيب بأنه لا علم له بذلك، وأنَّ حكومة فلسطين ‏أجابت بأنه لا صحة لذلك! ويستطرد القلقيلي للإشارة إلى مذكرة بعثها سموّه إلى ‏الحكومة البريطانية بشأن فلسطين وقضيتها وقد كتبها بنفسه في قالب سياسي حكيم، ‏ووقعت موقع الاهتمام لدى المندوب السامي البريطاني وحكومته، ويقول القلقيلي إنَّ ‏الأمير أُجيب عليها جوابًا حسنًا، ويذكر صاحب الرحلة أيضًا أنَّ سموّه جاهد في ‏الكتابة إلى الحكومة البريطانية داعيًا إلى إنصاف العرب، في الوقت الذي أضرب فيه ‏الناس في عمّان يوم وصلها القلقيلي وساروا في مظاهرات احتجاجية على ما يحدث ‏في فلسطين والهجرة اليهودية إليها، وكان وابل برقيات الاحتجاج من شرقي الأردن ‏إلى الحكومة البريطانية لا يكاد ينقطع، ويقول القلقيلي: إنَّ كثيرًا من الناس كان "يرقب ‏كلمة من زعيم مسؤول أو إشارة من مُطاع ليزحف إلى فلسطين"! ونوّه هنا بعقلانية ‏حكومة شرقي الأردن والحكمة التي جنّبت هذا البلد ما هو أدهى ممّا وقع في فلسطين، ‏ووصف الأسبوع الذي قضاه في عاصمة شرقي الأردن بأنه كان "أسبوع فلسطين".‏

وينقل القلقيلي صورة من مجلس الأمير عبدالله والمزيد من ملامح من شخصيّته التي ‏كان من الواضح أنه يكن لها الاحترام والإعجاب، فقال إن سموّه "يقبل على مَن ‏يتشرف بمجالسته بالبشاشة والإيناس ويجاذبه الحديث فيما يعلم سموّه أنه يحسنه، فإذا ‏كان جليسه فقيهًا حادثه في الفقه، وإذا كان أديبًا حادثه في الأدب. وسموّه يحب العلماء ‏ويرغب في مجالستهم ويبالغ في إكرامهم، وهو يسهّل لهم العيش في كنفه، ولذلك ‏تجدهم يستطيعون الإقامة في ظلّ الأمير؛ كمثل الشيخ الشنقيطي (الشيخ محمد الخضر ‏الشنقيطي) المُحدِّث، فقد علِمنا أنَّ سموّ الأمير يجري عليه مرتبًا شهريًا". وأشار إلى ‏أنَّ سموّه يتكلَّم بلغة فصحى، ويتبسط مع مجالسيه بالمُلَح والفكاهات.‏

وخطر للقلقيلي أن يسأل عن حرس الأمير ولِمَ اتخذهم من الجركس، فقيل له حتى ‏يرى شعبه أنه لا يفرّق بين أجناسه فيقتدي به، وعلى هذه القاعدة دخل شخصيات من ‏مسيحيي البلاد الوزارة مثل عوده بك القسوس النائب العام لحكومة شرقي الأردن. ‏ورأى القلقيلي أنّ هذه السياسة قد أثمرت فإنَّ المسلمين عربًا وجركسًا والمسيحيين ‏متعلقون بالأمير، وإنهم حريصون على رضاه.‏

وتسنّى للقلقيلي أن يجتمع بالأمير طلال ولي عهد إمارة شرقي الأردن آنئذٍ، وذكر أنَّ ‏الناس يتداولون حكايات عجيبة تدلّ على وطنيّته البالغة، وزار الأمير نايف النجل ‏الأصغر للأمير عبدالله. كما حضر حفلة افتتاح المجلس التشريعي الأردني، واغتبط ‏بما رآه فيها من مظاهر العزّ والمجد، فوصف مراسمها وقدوم أمير البلاد لإلقاء ‏خطاب العرش وهو يرتدي ملابسه العسكرية في موكب عظيم فتُطلق المدافع تحيةً له ‏وتصدح الموسيقى بالسلام الأميري. وأعجبه في خطاب العرش أنه يتميَّز عن سائر ‏خُطَب العروش الإسلامية أنه افتُتِح بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وأنه ‏يؤرَّخ بالتاريخ الهجري فقط، وقد لخَّص الخطاب ما عملته الحكومة من الأعمال، كما ‏بشَّر بقرب عقد معاهدة حينئذٍ بين حكومة شرقي الأردن والحكومة السعودية. ‏

ولاحظ صاحب الرحلة أنَّ الأغلبية في المجلس التشريعي للدورة التي حضر افتتاحها ‏كانت لحزب الشعب المعارض ومنه تشكَّلت معظم لجان المجلس، وأنَّ رئيس المجلس ‏هو نفسه فخامة رئيس الوزراء، وأنَّ أعضاء مجلس الوزراء لهم حق الاقتراع! ‏

ومن الشخصيّات التي ذكرها القلقيلي في رحلته غير ما جاء في السياق هنا من أسماء ‏أخرى: محمد بك الأنسي الذي كان في السابق رئيس ديوان الأمير، وهاشم بك خير ‏عضو المجلس التشريعي والتنفيذي، والأستاذ الشيخ نديم الملاح الأديب المشهور ‏‏(وصاحب مجلة الحكمة)، والسيد خليل نصر صاحب صحيفة "الأردن"، ومحمد بك ‏المحيسن رئيس ديوان الأمير الذي "تلوح عليه أمارات الذكاء والفطنة ويتكلَّم ‏الإنكليزية"، وقال عن الشيخ فؤاد باشا الخطيب إنه أستاذه فقد عمل معه في بدء ‏النهضة العربيّة في الوكالة العربيّة بالقاهرة، التي كان الخطيب وكيلها كما كان وكيلًا ‏للخارجية في عهد جلالة الملك المنقذ الحسين بن علي في الحجاز.‏

 

ديار الأنباط، وفي الطريق إلى جرش

في غضون النصف الأوَّل من أربعينات القرن الماضي تسنّى للمؤرخ الرحّالة الدكتور ‏نقولا زيادة (1907-2006م) أن يقوم برحلتين إلى شرقي الأردن أفرد لهما قسمًا ‏من الفصل الذي كتبه بعنوان "سورية كما عرفتها" في كتابه "صور من التاريخ ‏العربي"(4)، فزار في سنة 1942 مع رفاق له في الكلية العربيّة بالقدس حيث كان ‏يعمل أستاذًا، معان والبتراء والشوبك والكرك جنوبًا. وفي السنة التالية 1943 سافر ‏من القدس أيضًا إلى شمالي الأردن مع اثنين من رفاقه هما أديب عتقي وأديب خوري، ‏المهندس الصحفي، في سيارة هذا الأخير المسماة "زنوبيا الثانية"، فزار الثلاثة جرش، ‏التي استغرق الوصول إليها يومين مرورًا بعجلون وإربد ومصبّ وادي اليرموك في ‏نهر الأردن، ومرورًا قرب فحل وبيسان، كما أشرفوا خلال الرحلة على هضاب ‏حوران والجولان شمالًا. ‏

جاءت الرحلتان كسانحة استحضر فيها زيادة التاريخ متأملًا سياقاته بما تحمله من ‏مؤشرات ودلائل على العمق الحضاري لهذه الديار، وبما تشكِّل من رؤية جليّة لأهمية ‏موقعها الجغرافي وأبعاده؛ مع كشف العبرة واستشفاف الفائدة من هذا الدرس ‏الموضوعي في مطاوي التاريخ عبر الرحلة، لكن دون الاستغراق في الماضي ودون ‏الانفصال عن الحاضر. فخلال عهد دولة الأنباط في البتراء، ثم في العهد الروماني، ‏كان الاستقرار العامل الأهم في إبراز هذه الأهمية وانعكاسها أيضًا على المنطقة ‏المحيطة بشرقي الأردن. فالرومان الذين احتلوا سورية وعملوا على استقرار البلاد ‏بتنظيم الإدارة وتأمين الحماية من هجمات البادية أنشأوا القلاع والحصون التي امتدت ‏من جنوبي عمّان إلى درعا حتى تدمر والفرات، وأعادوا القيمة لكثير من المدن ‏المهملة بإعمارها من جديد، فعاد الناس لسكناها، ومنها زيزياء وعمّان (فيلادلفيا) ‏وجرش وفحل وبيسان ودرعا، واعتنى الرومان أيضًا ببناء الطرق ليوفروا للجيش ‏سرعة الانتقال والمحافظة على البلاد، وكذلك الربط بين مدن الداخل والساحل، ‏‏"فكانت عكا (بطلمايوس) وبيروت وما بينهما تتصل مع بيسان وفحل وجدارا وجرش ‏ودمشق اتصالًا مباشرًا على طرق مبنيّة من قطع كبيرة من الحجر"...إلخ.‏

ويبيّن زيادة أنَّ موقع شرقي الأردن الطبيعي بين الحجاز جنوبًا وسورية غربًا وشمالًا ‏والعراق شرقًا جعل من هذه المنطقة طريقًا للتجارة وممرًا للقوافل من أقدم الأزمنة، ‏وبسبب الاستقرار على مدى ثلاثة قرون من الحكم الروماني ازدهرت الحياة ‏الاقتصادية، ونَمَت الثروة، وزاد عدد السكان، وعاد إليها العمران بالمباني والهياكل، ‏واعتنت مجالسها المحلية وحكامها بتجميلها وتحسينها، وكانت مدنها قد وُجدت في ‏زمن اليونان وقد تأثرت بالنزعة الهندسية التي عُرِفَت بها المدن اليونانية الهلينية، مما ‏اتسمت به الشوارع التي تتقاطع على زوايا قوائم، وتسير على خطوط مستقيمة، ‏وكانت المياه العذبة الصالحة للشرب تُنقل من مسافات بعيدة. ‏

ويحدثنا المؤرِّخ الرحَّالة عن نهضة فنيّة في ذلك الزمان، قوامها أهل البلاد أنفسهم، ‏وقد تمثَّلت في تزيين أرض البيوت والهياكل بالفسيفساء الجميلة بأشكالها ورسومها ‏البديعة، والاهتمام ببناء الكنائس المرصعة أرضياتها أيضًا بالفسيفساء، "التي شملت ‏صور القديسين، ومناظر من الكتاب المقدس، وخارطة لفلسطين وبيت المقدس وفيها ‏كنيسة القيامة".‏

استقلّ نقولا زيادة في الرحلة إلى الجنوب الأردني القطار من محطة عمّان مع خليط ‏من الركّاب بينهم التجار الذين يحملون بضائعهم من حوانيت دمشق وعمّان إلى أهل ‏الكرك ومعان، والبدو العائدون إلى مضاربهم "بعد أن قضوا لبانتهم من مباهج ‏عاصمة الإمارة وغيرها"، والجنود الراجعون إلى العقبة، وقلّة من طلاب المتعة ‏بزيارة الآثار القديمة. ويصف زيادة بأسلوب قريب إلى السرد القصصي أجواء الرحلة ‏في قطار يطوي البيد على سيف البادية، حيث أرض قفراء لا نبات فيها ولا مظاهر ‏للحياة سوى بعض خيام تبدو للعيان بين حين وآخر، فلا يجد الركّاب ما يخفف وطأة ‏الوقت الطويل لقطع المسافات على السكة الحديدية إلا تبادل الحديث بينهم... فهناك ‏لغة مشتركة تربطهم "بعضهم ببعض، فيتحدثون حديث إخوان وخلّان، ويتشاكون ‏شكوى أصدقاء أعزاء، ويروي الواحد قصته فيضحكون حينًا ويألمون حينًا"، ويذكر ‏زيادة من بين هؤلاء الركاب "أبو شام" التاجر الدمشقي المقيم بالكرك الذي قصَّ عليهم ‏طرفًا من اختباراته في الإتجار والسفر، ولمّا غادر القطار في محطة القطرانة أسفوا ‏لذلك، وودّوا لو أنه قصد معان معهم ليتم سرورهم بحديثه.‏

كما وصف صاحب الرحلة بعض المحطات التي مرَّ بها القطار، فأشار إلى أنَّ أكثرها ‏يتكوّن من بيت لناظر المحطة ومكتب له، وفي بعضها بنايتان أو أكثر لخزن غلّات ‏المنطقة المتجمّعة فيها تمهيدًا لشحنها، وفي زيرياء (30 كم جنوب عمّان) بركة لجمع ‏الماء، فأكثر هذه الأماكن خالية من الينابيع. وذكر أنَّ القطار يحمل الماء إلى سكان ‏هذه المحطّات من عمّان، فيفرِّغونه في صهاريج مخصصة لذلك، ويقتصدون في ‏استعماله إلى أن يأتي القطار في الموعد التالي حاملًا لهم كمية جديدة من الماء.‏

وعلى الطريق يذكر زيادة زيارته السابقة إلى مادبا، وإلى قصر المشتى الواقع إلى ‏الشرق من زيزياء، ويستذكر قطع الفسيفساء الجميلة التي شاهدها مما يعد "من مفاخر ‏الفن السوري قبل الفتح العربي لهذه البلاد"، كما يذكر بيوتًا دخلها في مأدبا فكان أهلها ‏يرفعون الحصير الذي يكسو الأرض فتظهر تحته هذه القطع الفنية. ويعجب بما وقف ‏عليه من الآثار المتبقية في قصر المشتى والتي تدلّ على أنَّ "القوم صنعوا شيئًا لم ‏يعرفه الشرق منذ أيامهم"، وقد كانت قصور الخلفاء الأمويين "تحوي من لوازم ‏الرفاهية ومقتضيات العيش الهنيء ما لم يكن الحصول عليه سهلًا في المدينة، بله ‏قصرًا في الصحراء"!‏

وتدعو الرحلة في قطار يسير على الخط الحديدي الحجازي صاحبها إلى التطرُّق ‏لشيء من تاريخ إنشاء هذا الخط ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن ‏العشرين، وغاية الدولة العثمانية من إنشائه، وأثر وصوله إلى الجنوب الأردني من ‏جهة تغيير طراز معيشة بعض البدو وانتقالهم إلى الحياة الحضرية، وما كان من تكلفة ‏إنشاء هذا الخط على الغابات في المنطقة الواقعة قرب وادي الحسا، والتي اقتطعت ‏أشجارها لمدّ السكّة بالأخشاب. وتتداعى في ذهنه صور التاريخ فيذكر الغساسنة ‏العرب الخُلص الذين عمّروا مشارف الشام وكانت لهم مدنية وحضارة فيها.‏

ويصف زيادة آثار البتراء وصفًا شاعريًا لا يجافي الواقع، فيرسم لوحة لافتة لسحر ‏الألوان التي تنعكس من الجبال الرملية على الصخور الوردية مع أشعة الشمس كآية ‏من آيات الفن تتحد في إخراجها الطبيعة ويد الإنسان. وتحدَّث عن حضارة العرب ‏الأنباط في القرن الخامس قبل الميلاد، والذين أصبحوا سادة التجارة في جنوب ‏سورية، وغدت البتراء السوق الرئيسة لمتاجر بلاد العرب ومصر وسورية الداخلية ‏والساحلية. وفي طريق العودة يزور الشوبك وقلعتها التي بناها الصليبيون واستولى ‏عليها الأيوبيون واتخذها أهل الشوبك كحماية لهم ولدرء الخطر عن بلدتهم. ثم ذهب ‏ورفاق الرحلة في زيارة إلى الكرك، وكانت ضيافتهم عند آل المجالي، ومنهم رئيس ‏الجامعة الأردنية ورئيس الوزراء الأسبق الدكتور عبدالسلام المجالي الذي كان يومها ‏ما يزال طالبًا في كلية الطب بالجامعة السورية في دمشق، وصديقًا للدكتور ‏ناصرالدين الأسد الذي تمّت الرحلة برعايته، وأصبح نقولا زيادة منذ ذلك الحين ثالث ‏الأصدقاء. ‏

حملت الرحلة الثانية لزيادة في شمالي الأردن صورًا قلمية غاية في جمال الوصف ‏والتصوير لمناظر جبال عجلون وغاباتها، وآثار جرش وواديها بلغة أدبيّة بليغة، تمنح ‏حديث الرحلة رونقًا يجعل القارئ يعيش اللحظة في الاستمتاع بالطبيعة الخلابة، ‏ويرافق الرحّالة في مشاهدة الآثار والتجوّل بين الأطلال، واستشعار أجواء العصر ‏الذي ترجع إليه. ‏

وعلى ذيوع شهرة آثار جرش بين الرحّالين والسياح منذ اكتشفها الرحَّالة الألماني ‏‏"سيتزن" (1767-1811م)، سنة 1806، فإنَّ البلدة كانت حين زارها زيادة ورفاقة ‏خلوًا من فندق ينزلون فيه، فاستضافهم أحد أبنائها ممّن ذكر صاحب الرحلة أنهم ‏نعموا بضيافته ليلة "أهَّل بهم ورحَّب، وفتح لهم بيته وصدره، فاستمتعوا بكرمه ‏وحديثه، ورافقهم في الصباح لزيارة جرش القديمة".‏

 

تاريخ يُعيد نفسه في شرقي الأردن

الرحلة الأخيرة التي نعرض خلاصتها من الرّحلات العربيّة المختارة إلى شرقي ‏الأردن في عهد الإمارة هي لأستاذ الجغرافيا التاريخية الأكاديمي المصري الدكتور ‏سليمان حزين (1909-1999م) الذي شغل منصب وزير الثقافة في بلده، وأسس ‏جامعة أسيوط (1955) وكان أوّل رئيس لها. وقد أمضى أيامًا من سنة 1945 ‏متنقلًا في أرجاء شرقي الأردن وكتب بحثًا من واقع الدراسة الميدانية التي أجراها ‏خلال رحلته(5)، بنظرة تجمع بين التاريخ والجغرافيا أو بين الإنسان والبيئة، ذلك أنَّ ‏النشاط البشري الذي يصنع التاريخ هو بنظره نتيجة للتفاعل بين البيئة والإنسان. ‏ويقول الدكتور حزين إنه بقدر ما يطول التاريخ البشري في إقليم ما، تتعدد الأدلة ‏والشواهد فيه على تشابه الحوادث وتكرارها على مرّ العصور، والشرق الأدنى –‏بتعبيره- أحد تلك الأقاليم ومنه منطقة شرقي الأردن، التي كانت بمثابة حلقة اتصال ‏بين أطرافه في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب. ويرى أنَّ تاريخ هذه المنطقة ‏صورة واضحة من "تاريخ الاتصال بين مختلف أجزاء ذلك الشرق؛ وارتباطها ‏بعضها ببعض ارتباطًا شمل نواحي الحياة التجارية والثقافية والسياسية جميعًا".‏

وشرح الدكتور حزين دور الجغرافيا الأردنية في اكتساب هذه المنطقة جوانب من ‏التحضُّر والاستقرار، وما وفَّر لها هذا الدور من مزايا الاتصال عن طريق الجنوب ‏والشمال. وتاريخيًّا، فإنَّ الموقع الجغرافي "جعل منها عقدة التقت عندها روابط ‏الشرق، واحتكت فيها البادية بالحضر احتكاكًا لم يخل من عنف في بعض الأحايين، ‏ولكنه مع ذلك أنتج أطيب الثمرات". كما تحدَّث عن الطرق التجارية التي كانت تتقاطع ‏في شرقي الأردن وتلتقي فيها من الجزيرة العربيّة وأطرافها شرقًا، ومن البحر الأحمر ‏ومصر وسيناء جنوبًا، ومن ميناء غزة جنوبي فلسطين إلى وادي عربة وأرض بطرا ‏والأنباط القدماء، ومن الشمال طرق عدة يأتي أحدها من العراق الأوسط وبادية الشام ‏إلى اليرموك وشمالي مؤاب، وآخر من العراق الأعلى وتدمر إلى دمشق وعمّان، ‏وثالث من سورية الشمالية وحلب وحمص إلى دمشق وحوران ثم الجنوب، وأما ‏الطريق الرابع فمن شمالي فلسطين عبر الأردن حتى يلتقي بطريق الشام ويمتد إمّا ‏جنوبًا أو شرقًا أو باتجاه الشمال. وكان تلاقي التجار من أطراف الشرق الأدنى يحمل ‏معه تبادلًا للفكر والثقافة، ما أدّى إلى التعارف والتآلف الشرقي في كثير من الأحايين، ‏فضلًا عن أنَّ هذا الملتقى للتيارات الثقافية المختلفة أثمر ثمراته الطيبة، فقد كانت ‏الثقافة عند الأنباط وكتابتهم بشكل خاص أساسًا من أسس الثقافة والكتابة العربيتين، ‏وقد تطوّر الخط العربي المعروف من الخط النبطي القديم. والأمثلة عديدة من الوقائع ‏التاريخية المتعلقة بأطماع الدول القريبة والبعيدة للاستيلاء على شرقي الأردن بسبب ‏أهمية موقعه، فقد ظلت ميزته "قيمة دائمة لا طارئة، وكانت عاملًا أساسيًا باقيًا، أفاد ‏منه واستجاب له سكان المنطقة نفسها". وفي العصر الحديث أدركت بريطانيا هذه ‏الأهمية حين استقر الأمر لها بالانتداب، فأقامت حاميات ومعسكرات وقواعد جوية ‏لتمتد بنفوذها إلى الشرق العربي، ومدَّت طرقًا عسكرية كما فعل الرومان قديمًا. ‏

برزت قيمة عمّان من جديد حين اختارها الأمير عبدالله عاصمة للإمارة، ويقول ‏حزين يوم زار عمّان (فيلادلفيا القديمة ووريثة موقعها): "فإذا دقَّق الزائر استطاع أن ‏يتعرف على آثار الطرق القديمة ومعالم اتجاهاتها الأساسية، وهي الطرق التي حدَّدت ‏موقع المدينة منذ نشأتها الأولى، ولا تزال الطرق الحديثة تتبع الاتجاهات القديمة".‏

ومما يتناوله صاحب الرحلة العلاقة بين العرب وأهل البادية بصفة خاصة وبريطانيا ‏المُنتَدبة، فيرى أنَّ البريطانيين كانوا أحكم من الرومان في سياسة هذه العلاقة، فقد ‏أدركوا أنه من غير الممكن ولا اليسير أن تحكم الإمبراطورية منطقة شرقي الأردن ‏كما تحكم الولايات والمستعمرات، فالعرب والبدو لا يتقبلون الضيم ولا يرتضون حكمًا ‏من الخارج، فتركت شؤون الحكم في الإمارة الأردنية الناشئة التي لم يتجاوز عدد ‏سكانها ثلث مليون لأميرها العربي. زد على ذلك أنَّ العرب من جانبهم -كما لمس ‏الدكتور حزين- "لم يدعوا كل أمورهم للبريطانيين، وإنما أخذوا كثيرًا من أسباب ‏نهضتهم بأيديهم، واستطاع أميرهم إذ ذاك أن يشيع في بلاده نهضة مادية وأدبية ‏وقومية عامة يلمسها مَن يزور هذا القطر العربي".‏

ويستعيد الدكتور حزين أمام النهضة الحديثة لشرقي الأردن أوجه شبه بينها وبين ‏نهضات في عصور التاريخ الغابرة، ولا سيما من جهة ما شهده من بدء اتساع ‏الأراضي الزراعية في وادي الأردن وبعض الأودية والبقاع المرتفعة حيث يزيد ‏المطر زيادة نسبية، وحيث تجود التربة، ما يعني أنَّ حياة الزراعة والاستقرار بدأت ‏تعمّ على حساب حياة البادية والتنقل طلبًا للكلأ والمراعي، كما أخذت البيوت المبنية ‏بالحجر تظهر وسط بيوت الشَّعر، وبدأت التجارة وأسواقها تزدهر، وبدأ البحث عن ‏الثروات المعدنية واستغلالها. وكل ذلك دلائل على نهضة اقتصادية تظهر للزائر ‏والسائح في ما يراه بعمّان والمدن الأخرى مع ارتفاع مستوى المعيشة الناتج عن زيادة ‏حقيقية في معدلات الكسب والأجور، ولا يقل هذا المستوى عن نظرائه في الأقطار ‏العربيّة ومنها مصر -على ما يؤكده صاحب الرحلة- ذلك إضافة إلى نهضة البلاد ‏التعليمية والثقافية التي بشَّرت بخيرٍ كثير. ‏

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ خيرالدين الزركلي: "عامان في عمّان- مذكرات عامين في عاصمة شرق الأردن ‏‏1921- 1923"، تحقيق ومراجعة: عيسى الحسن، عمّان، الأهلية للنشر ‏والتوزيع، 2009 (ينظر الصفحات 53، 57-63، 65-67، 70-71، 93-94، ‏‏109-119، 121-147). وكان هذا الكتاب (وهو جزء أوَّل كما أثبت على غلافه ‏حينذاك) قد طبع أولًا في المطبعة العربيّة بالقاهرة سنة 1925 وعُني بنشره ‏يوسف توما البستاني، ونشر الباحث والمحقق الأستاذ أحمد العلاونة ما وجده من ‏مخطوطة الجزء الثاني في كتابه "خير الدين الزركلي- ببلوغرافيا، صور ووثائق، ‏وبعض ما لم يُنشَر من كتبه"، ط1، الكويت، مكتبة فهد الدبوس للتراث الأدبي، ‏وبيروت، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، 1435هـ/ 2014م.‏

‏(2)‏ ‏ يبدو هذا النص أقرب إلى خلاصة من ملاحظات عن رحلة، وقد نشرته بصيغة مقالة ‏مجلة دار المعلمين بالقدس في عددها الرابع سنة 1924.‏

‏(3)‏ ‏ نشر رحلته في صحيفة "الصراط المستقيم" على حلقات في أعداد شهر تشرين الثاني ‏‏(نوفمبر) 1933. ‏

‏(4)‏ ‏ نقولا زيادة، "صور من التاريخ العربي"، القاهرة، دار المعارف بمصر، 1946، ‏ص121-135. وينظر: نقولا زيادة، حول العالم في (76) عامًا: رحلات مثقف ‏شامي في آسيا وأوروبا والشمال الإفريقي (1916-1992م)، حررها وقدَّم لها: ‏نوري الجراح، سلسلة "ارتياد الآفاق"، أبوظبي، دار السويدي للنشر والتوزيع، ‏وبيروت، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ط1، 2007، ص239-250.‏

‏(5)‏ ‏ سليمان حزين، "أرض العروبة: رؤية حضارية في المكان والزمان"، القاهرة، دار ‏الشروق، ط1، 1993، ص303-314. وسبق أن نشرت الدراسة حول شرقي ‏الأردن في مجلة "الكاتب المصري" بالعنوان الذي أثبتناه هنا، ع6، مارس (آذار) ‏‏1946.‏