التَّجريب في المسرح الأردني

د. مجد القصص

مخرجة أردنية وأستاذة جامعية

 

يمكنُ أنْ يطالَ التَّجريب في المسرح أيّ عنصر من عناصر العرض المسرحي (النص، التمثيل، ‏الفضاء، الديكور...)، وقد شهد المسرح الأردني تجارب كثيرة في "التجريب"، تتناول كاتبة هذا ‏المقال نماذج من هذه التجارب، وتؤكِّد في الوقت نفسه أنّ بعض العروض المسرحيّة لم ينطبق ‏عليها شرط التَّجريب المُرتبط بالابتكار غير المسبوق. وترى أنَّ التَّجريب إنْ كان لمجرَّد المُغايرة ‏ذاتها فإنه يسقط في الشكلانيّة أو التَّجريب لذاتِه، ولا يعدو أنْ يكونَ مجرَّد لعبة وهم لا تُنتج سوى ‏عدميّة المعنى والعبث وتشويه الإرث.‏

‏ هناك مَن يقول إنَّ التَّجريب بشكل عام بدأ مع بداية المسرح عند الإغريق منذ "تثيبس" إلى ‏‏"سوفكليس" و"أسخليوس" و"يوربيدس"، حيث أطَّرَ "أرسطو" في كتابه "فنّ الشعر" مسرحيّاتهم ‏تحت مسمّى الكلاسيكية القديمة. وامتدَّ التَّجريب محدثًا مذاهب مسرحيّة كثيرة منها الرومانسية ‏القديمة، الكلاسيكية الحديثة، الرومانسية الحديثة، الواقعية، الرمزية، التعبيرية، المسرح الملحمي ‏ومسرح العبث، إلخ. ‏

قد أتَّفق مع هذا القول قليلًا؛ في أنَّ كل هذه التطوُّرات في المسرح والمذاهب جاءت كلّ واحدة ‏منها ثورة على الأخرى، لكن ما زال الكثير من المصطلحات والتصوُّرات المعرفية بحاجة إلى ‏استكشاف ومعاينة نقدية وتنويرية، وفي مقدمة هذه المصطلحات مصطلح التَّجريب. وكما يقول ‏الناقد إسماعيل الخفاجي: "إنه بعد الانعطافات والمغايرات على مستوى الوقائع التاريخية ‏‏(حروب/ سقوط أيديولوجيات/ ما بعد الحداثة/ العولمة) بدأت الرُّؤى الإبداعية تطلق عنان مخيّلتها ‏ومجسّاتها لالتقاط عوالم جديدة والانفتاح على نقط تبئير جديدة تتساوق مع الاختلاف وإيقاع ‏العصر وخلوّ الإشكاليات الجديدة". من هذا الاستهلال نريد تأكيد حقيقة أنَّ التَّجريب بوصفه تيارًا ‏ومنهجًا ورؤية جديدة ومغايرة للعالم جاء نتيجة حتمية إبداعية، وليس بفعل حتمية مؤدلجة، أي ‏أنَّ المبدع ضاق بالأطر التقليدية والرُّؤى السلفيّة في عالم صاخب ومكتظ وملتبس على مستوى ‏الحقيقة ونسبية المعرفة وانشطار وجهات النظر، فكان لا بد من هدم البديهيات القديمة والبنى ‏المحنَّطة للتحليق في عالم متمرِّد وإزاحة القواعد الكلاسيكية ومغادرة نظرية التطهير الأرسطية ‏والستانسلافيكية والمسرح اللاأرسطي ليبحث عن عالم يرتكز على تحسُّس والتقاط ما هو جمالي ‏مطلق. وإذا كان التَّجريب لمجرَّد المغايرة ذاتها فإنه يسقط في الشكلانيّة أو التَّجريب لذاته، ولا ‏يعدو أن يكون مجرَّد لعبة وهم لا تنتج سوى عدميّة المعنى والعبث وتشويه الإرث.‏

يمكنني أن الخِّصَ المصطلح: بأنَّ التَّجريب هو التَّجريب على أيّ مفردة من مفردات العرض ‏المسرحي من نص إلى تمثيل إلى فضاء وديكور، أزياء، إضاءة، إلخ. على أن يأتي بالمُغاير ‏المدهش. وأعطي هنا مثالين من المسرح الأردني في التَّجريب على النص: فتجربة حكيم حرب ‏في مسرحيّة "مكبث" المعتمدة على نص "شكسبير" حَوَّلت النص من نبوءة الساحرات لـ"مكبث" ‏بأن يصبح ملكًا، لتنهي النبوءة بموته بثورة عليه لكثرة الدماء التي سفكها للتمسُّك بالحكم، إلى ‏نص يحاكي انتفاضة الشعب الفلسطيني عام ألفين مؤكدًا أنَّ ما بني على خرافة سينتهي كخرافة. ‏فكان هذا تجريبًا جديدًا على النص. ‏

أمّا التجربة الثانية على النص فهي لكاتبة هذه السطور في مسرحيّة "الملك لير" لـ"شكسبير"، ‏حيث قُدِّمت بقراءة صوفيّة، وكانت هذه هي المرَّة الأولى في العالم العربي التي تتمّ فيها مثل هذه ‏القراءة. ‏

بدأتُ رحلتي البحثيّة مع هذا العمل من مقال نُشر في صحيفة "الأوبسيرفر" البريطانية للمراسلة ‏الصحافيّة "فنيسا ثورب" بتاريخ 24-10-2004 تحت عنوان "صوفي أو لا صوفي: هذا هو ‏السؤال". تخبرنا "ثورب" أنَّ هناك أسبوعًا إسلاميًّا يُعقد في مسرح "جلوب" وهو مسرح ‏‏"شكسبير" الأصلي الذي تمَّت إعادة بنائه قبل ما يزيد عن عقدين، وكان الهدف من هذا الأسبوع ‏توسيع دائرة التفاهم بين الثقافة الإسلامية والثقافة البريطانية. يخبرنا المقال أنَّ هناك ندوة يقودها ‏المتصوِّف الدكتور "مارتن لينغز" -كان عمره آنذاك ستة وتسعين عامًا- وهو المسؤول عن ‏المخطوطات الإسلامية في المتحف الوطني البريطاني، وفي هذه الندوة كان "لينغز" سيقوم ‏بعرض بحث يقول فيه إنَّ "شكسبير" كان ينتمي إلى طريقة أو مذهب أقرب ما يكون إلى ‏الصوفية، حيث يجادل "لينغز" بأنَّ المبادئ الدالة على الأفكار الصوفية موجودة في كتابات ‏‏"شكسبير"، ويعطينا المقال مثالين صغيرين عن كل من مسرحيّات "الملك لير" و"العاصفة".‏

هنا، وتأثُّرًا بما يجري في عالمنا من طرح أفكار حول صراع أو حوار الحضارات والثقافات، ‏تشكَّلت لديّ الرّغبة في تقديم عمل يدعو إلى التوازن وإيجاد نقاط الارتكاز للانسجام بين ‏الثقافات. تابعتُ الأسبوع من خلال الإنترنت، إلّا أنني عجزتُ عن الحصول على بحث "مارتن ‏لينغز" ممّا دفعني إلى القراءة في الصوفية حتى أستطيع قراءة "شكسبير" من هذه الزاوية. ‏زوَّدتني سمو الأميرة وجدان مشكورة بأوَّل كتاب عن الصوفيّة باللغة الإنجليزية، وكان بالنسبة ‏لي مادة سهلة الهضم. ثم قادني الشاعر طاهر رياض في رحلتي حيث نصحني بالذِّهاب إلى ‏دمشق وتحديدًا إلى مقام الشيخ محيي الدين بن عربي لأبتاع كتبًا أعطاني عناوينها، وفعلًا قمتُ ‏بشراء اثني عشر كتابًا، وحيث إنَّني آنذاك لم أكن محصَّنة بشكل جيد ضدّ الغيبيّات، فقد أصابني ‏رعب وخوف شديدين، ممّا دفعني إلى إيقاف البحث بعد قراءة هذه الكتب. وأوقفتُ المشروع ‏وقدَّمتُ مسرحيّة "قبو البصل" المأخوذة عن قصة قصيرة للكاتب الألماني "غونتر غراس" ‏بالعنوان نفسه. بعد أن أنهيتُ عملي في "قبو البصل" عاد الهاجس مرَّة أخرى إلى الصوفية، ‏وعدتُ أقرأ كتبًا جديدة، ولكن هذه المرَّة بتروٍّ ووعي أكاديمي، وبعد أن أنهيتُ القراءة عدتُ إلى ‏‏"الملك لير" وقرأتُها عدّة قراءات، واستخلصتُ منها المقاربات النصيّة التي أظنّ أنها المعنيّة في ‏أبحاث الدكتور "مارتن لينغز". تمَّ اختصار النص الجديد في عشر صفحات فقط لتحوي تسع ‏لوحات تمَّ أخذها من "شكسبير" نفسه. وعندما أنهيتُ مخطوطة النص أخذتُه إلى الناقد الدكتور ‏فيصل دراج ليعزِّز لي الجانب العلماني، وقد فعل ذلك مشكورًا، وأضاف لي بضعة سطور لها ‏أهميّة كبيرة في إيجاد التوازن في النص والأفكار المطروحة، كما أعطيتُ النص للشاعر الأردني ‏الصوفي طاهر رياض الذي قرأه وزوَّدني بمجموعة أشعار لكلّ من ابن الفارض وابن عربي ‏والحلاج والنفتري وغيرهم، وشرح لي الأشعار ونصحني بموضع كل من الأشعار؛ لِمَن يصلح ‏من شخصيّات المسرحيّة، وقمتُ بدوري بتوظيف الأشعار في أماكنها المناسبة للحدث ‏والشخصيّات.‏

المسرحيّة التي قُدِّمت هي مسرحيّة شكسبير "الملك لير" ولكن بشكل جديد يهدف إلى المزج بين ‏بعض التداعيات في الحضارتين الشرقية والغربية. ‏

باختصار شديد، "الملك لير" وبعد تعرُّضه لخيانة ابنتيه الكبريين وطرده خارج قصره يهيم في ‏الغابات ويرافقه في رحلته كل من أتباعه الأوفياء "كنت"، البهلول، "غلوستر" و"إدغار"، ‏ويحاولون الإجابة عن كل أسئلته الوجودية فيما يتعلق بالحياة والحقيقة. سيكون الأتباع محمّلين ‏بالفكر الصوفي لعقيدة ثابتة روحيّة، بينما الملك "لير" سيحمل فكر الشكّ القائم على الأيدولوجية ‏العلمانية. إنَّ الهدف من هذا العمل هو محاولة الوصول إلى أنَّ الإنسان لا يمكن أن يصل إلى ‏توازن نفسي دون أن يحقق التوازن بين العقل والحواس؛ أو بمعنى آخر بين العقل والروح. عملي ‏هو حوار بين ثقافتين في محاولة للوصول إلى مناطق الحوار بعيدًا عن التطرُّف، وتكريس ‏احترام الآخر وثقافته.‏‎ ‎هذان المثالان هما نموذجان حقيقيّان للتجريب على النص.‏

وأنتقل إلى التَّجريب على الفضاء والديكور؛ المخرج خليل نصيرات امتاز في أعماله كافة ‏بالتَّجريب على الفضاء والديكور، وحتى النص، ففي مسرحيّته المعنونة (ألو)، لم يستخدم ‏المخرج خليل كنص حواري سوى كلمة (ألو)، وتتكرر على مدار العرض كاملًا لتحمل في كل ‏مرَّة معنى مختلفًا: فقدان التواصل، الحب، الفقد، لهفة اللقاء، الشوق، الخوف، إلخ. واشتغل على ‏فضاء قسمه إلى قسمين بواسطة قاطع خشبي مثبَّت في أعلاه لوح زجاجي يقسم خشبة المسرح ‏إلى قسمين. تكون الفتاة في جانب والشاب في الجانب الآخر، وعلى الرف الخشبي في كل جهة ‏تلفون يتم التواصل من خلاله عبر استخدام كلمة حوارية واحدة -كما ذكرت- وهي (ألو). لستُ ‏ناقدة ولكن كمتلقِّية مطَّلعة وباحثة أستطيع أنْ أقولَ إنَّ هذا العمل استطاع في مدَّته الزمنيّة التي لم ‏تتجاوز النصف ساعة، أنْ يسائلَ وجودَنا وعبثيّة هذا الوجود. ويضعنا أمام مخاوفنا من الأسئلة ‏الكبرى. وأجزم بقوّة أنه كان من أفضل الأعمال التَّجريبيّة، ليس فقط أردنيًّا، بل عربيًّا. ومثال ‏آخر للمخرج نفسه في مسرحيّة "شواهد ليل" التي قدَّمها في عام 2018، وفيها اشتغل خليل ‏نصيرات على عمل يتكلَّم عن الهمّ الإنساني يتشارك بطولته فتاة وشابان. والتَّجريب في هذا ‏العمل هو على المكان؛ حيث وضع سيّارة على المسرح، تدور الأحداث عليها، ونسمع صوت ‏تدوير محرِّكها، وإغلاق الأبواب، إلخ. هنا لا بدَّ من وقفة أمام هذا المقترح مدَّعية أنه ليس جديدًا، ‏فالمخرج الروسي "فيسفولد مايرهولد" كان قد استخدم السيارات على المسرح ‏و"الموتورسايكلات" وجرَّب على الفضاء بشكل كبير حيث يعتبره النقاد المجرِّب الأهمّ في ‏المسرح في بداية القرن العشرين، وأتكلَّم عن الفترة من 1905- 1940 أي حتى وفاته.‏

ويؤكد الناقد عباس الخفاجي أنَّ المخرج المجرِّب يجب أن يضيف ابتكارًا جديدًا لم يستخدمه أحد ‏قبله، حيث يقول: "أمّا الشرط الرابع فهو (قدرة الذاكرة) أو الذهن على تنظيم الأفكار في خلق ‏الجديد بحيث يتمخَّض هذا التَّجريب على إضافة، سواء كانت هذه الإضافة ابتكارًا أو اكتشافًا، ‏ولعلَّ الصفة المميزة للنتاج التَّجريبي (عرضًا، وأسلوبًا) تكمن في عدم التزامه بقانون أو قاعدة أو ‏طريقة، سبق وأن استُخدمت من قِبَل مسرحيين سابقين". وهنا في تجربة المخرج خليل نصيرات ‏فإنَّ فكرة استخدام السيارة على المسرح قد تمَّ استخدامها سابقًا من مبتكر التَّجريب "مايرهولد"، ‏ولا نستطيع أن نحسبها إضافة ابتكاريّة للمخرج، بعكس تجربته الأولى (ألو).‏

لا يسعني في هذا المقال القصير تفنيد كلّ التجارب التي اعتمدت التَّجريب في المسرح الأردني، ‏لأنَّ تجارب المخرجين الذين خاضوا هذا المجال كبيرة على الرّغم من أنَّ عددهم قليل. لذا لا بدَّ ‏من إنهاء المقال بروّاد التَّجريب في الأردن المتمثلة في فرقة "الفوانيس" التي تأسَّست في بداية ‏الثمانينات بوحدة ثلاثة مبدعين وهم: خالد الطريفي مخرجًا، نادر عمران سنوغرافيا، وعامر ‏ماضي تأليفًا موسيقيًّا. لقد قدَّم هذا الثلاثي مجموعة أعمال اعتمدت على التَّجريب؛ إمّا على النص ‏أو الفضاء وحتى الموسيقى. ومن أهم أعمالهم: "بونتيلا وتابعه ماتي" للألماني "برتولد برخت" ‏والتي قُدِّمت تحت اسم (دم، دم، تك)، وكانت مدة العرض أربع ساعات، فلم يقدَّم بتاريخ المسرح ‏الأردني عرضًا بهذا الطول، وهذا يذكِّرنا بالمخرج البريطاني "بيتر بروك" الذي قدَّم أعمالًا ‏استغرقت من الليل إلى مطلع الفجر. وقُدِّم هذا العمل(دم، دم، تك) بشكل مسرحي مدهش اعتمد ‏على إعادة تشكيل المكعَّبات في الفضاء للانتقال من مكان إلى آخر، وشكَّل نقلة نوعيّة في ‏المسرح الأردني، وقُدِّم في مهرجان جرش عام 1983. كما قدمت "الفوانيس" مسرحيّة بعنوان ‏‏"طوط طاط طيط"، و"فرقة مسرحيّة مسرحت هاملت"، ولكن أهمّ عمل قفلت به الفرقة شراكتها ‏الثلاثيّة هي مسرحيّة "عرس الدم" للكاتب الإسباني "لوركا"، فقد كان عملًا تجريبيًّا بامتياز. ‏جرَّب فيه المخرج خالد الطريفي على الشكل حيث قدَّم الشخصيات مع حركة الجسد القائمة على ‏محاكاة الحيوانات والطيور: الحصان والحمامة، إلخ، طوال فترة العرض، فجاء التمثيل مبهرًا. ‏إضافة إلى التَّجريب على الفضاء المحصور؛ فالعرض كاملًا تمّ تقديمه على فضاء محصور من ‏خلال وضع سجّادة ممسرحة على خشبة المسرح تدور كل الأحداث عليها. وحصدت المسرحيّة ‏آنذاك أهم الجوائز في أوَّل مهرجان مسرح تقوم به وزارة الثقافة عام 1991. ‏

لقد استطاعت "فرقة الفوانيس" أن تُدخِلَ الحداثة إلى المسرح، أمّا "فرقة المسرح الحديث" ‏لمخرجتها كاتبة هذه السطور فاستطاعت إدخال ما بعد الحداثة إلى المسرح الأردني. ‏

في النِّهاية يجب التأكيد على أنَّ التجارب الأردنيّة في التَّجريب كثيرة، فلا أنسى الأستاذ الدكتور ‏محمد خير الرفاعي، أو عبدالكريم الجراح وفراس الريموني باشتغالاتهم على الفضاءات المفتوحة ‏المُغايرة، فكلّنا نعرف أنَّ المسرح من دون التَّجريب سيندثر.‏