تصدُّعات الحداثة العربيّة.. ‏ المثقَّف المغربي أنموذجًا

أشرف الحساني

صحافي وباحث مغربي

achrafelhassani20@gmail.com

 

منذ نهاية القرن التاسع عشر، ظلّ التفكير في الحداثة، يُشكّل مطلبًا حقيقيًّا داخل المشروع ‏النهضوي العربي، وقد اختلف النَّظر في مفهوم الحداثة، بوصفها عنصرًا دخيلًا على أدبيّات ‏الثقافة العربيّة من لدن الثقافة الغربيّة، بين تيّار من المفكّرين الذين يرون في ضرورة الأخذ ‏بأسباب هذه الحداثة، وتيّارٍ ثانٍ تبنّاه بعض المصلحين العرب،‎ ‎يقف في وجه هذه الحداثة مُكتفيًا ‏بالزاد المعرفي المُكتَسَب من الثقافة العربيّة خلال العصر الوسيط.‏‎ ‎وعلى الرّغم من مظاهر ‏الحداثة والتحديث، التي طالت المنطقة العربيّة، إلّا أنّ السؤال الذي ظلّ مطروحًا، يتمثّل في ‏الكيفيّة، التي ينبغي أن يأخذ بها المُثقّف أسباب هذه الحداثة وينخرط في التاريخ الكوني.‏

الحقيقة أنّ هذا الجدل الفكري حول الحداثة، لا يتعلّق فقط،‎ ‎بالرُّجوع إلى الدين وبواكيره الأولى ‏الصافية،‎ ‎وإنّما عن مدى استثمار هذا الرأسمال الديني في المُنازعات السياسية اليومية لأسباب ‏ترتبط في الأساس بالسُلطة،‎ ‎متأثرين بالوضعيّة العامة،‎ ‎التي كانت تعيشها البلدان العربيّة سياسيًا ‏واجتماعيًا منذ منتصف القرن التاسع.‏‎ ‎بحكم هزالة وضعف الحكم داخل الامبراطورية العثمانية.‏

وعلى الرغم من أنّ تأثير اصطدام المثقفين العرب بالحداثة الغربية بدا هشًّا وهزيلًا على مستوى ‏التماهي مع هذه الأفكار والعمل بها واقعيًا، إلاّ أنّ شرارة الحداثة، لم يخفت وَهَجُهَا منذ ذلك ‏الوقت، لأنّها ظلّت بمثابة النزر القليل من الضوء الذي يقود الأعمى في ليل السؤال، لكن ‏المُلاحظة هي أنّ اليقظة الفكرية التي نشأت بالمشرق العربي، منذ منتصف القرن التاسع عشر ‏وعُرفت بمفهوم "النهضة العربيّة" لم تكُن تختلف سياسيًا عن النهضة نفسها، التي شهدتها أوروبا ‏خلال القرن الخامس عشر من خلال الرجوع إلى الإنسان وإلى التراث القديم ومُحاولة جعل ‏الإنسان مركز التفكير البشري.‏

ولعلَّ أهمّ الأفكار التي دافع عنها هذا التيار العلماني، هو فصل الدين عن الدولة، وعلى الرغم من ‏أنّ المجتمع العربي لم يقبل بهذه الدعوة، إلا أنّها بقيت تشغل أدبيّات الفكر العربي منذ بداية القرن ‏العشرين، والتي ستتأجّج أكثر فأكثر إبان سبعينات القرن العشرين.‏

إنّ انتباه الإصلاحيين والمُثقّفين العرب إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، كان سؤالًا جوهريًا ‏داخل العالم العربي، الذي لم يفهم أعيانه إلى حدود اليوم، أنّ تملُّك الرأسمال الديني من لدن ‏جماعات ومُؤسّسات وكيانات، لم يكُن بالأمر الهيّن، لأنّه أتاح لهؤلاء استخدام هذا الدين في ‏شؤون سياسيّة لا علاقة له بها، بل وكذريعة للوصول إلى السلطة (نموذج المغرب). وهنا لعبت ‏الدول دورًا سيئًا في عدم الحدّ من انتشار هذا الاستغلال الديني الذي تبنّته بعض المُؤسّسات ‏الدينية الرسمية في أقطار مختلفة من العالم الإسلامي، منذ بدايات القرن العشرين، فهي لم تكُن ‏تعلم أنّ الاستغلال سيكون أحد أكبر الثمار السيئة التي ستجنيها مُؤسّساتها ومعها المُثقّف الحداثي ‏العربي، الذي ما يزال إلى اليوم، يقف سامقًا في وجه هذه الرؤى السلفية، التي لا تُريد فصل ‏الدين عن الدولة، لأسباب براغماتية في المقام الأوّل‎.‎

على هذا الأساس، نشأت عدّة مداخل داخل التيار الحداثي، الذي يهدف إلى القيام بجُملة ‏إصلاحات تمسّ تجديد الدستور القانوني والإصلاح الديني وتحرير المرأة غيرها من ‏الموضوعات الأساسية، التي ستُشكّل الحجر الأساس لمُختلف التصوّرات والأطاريح التي انكبّت ‏على دراسة قضايا الحداثة والتحديث داخل العالم العربي، سيما خلال مرحلة الاستعمار، بحيث ‏أضحت فيها الحداثة مشروعًا ضروريًا للدخول إلى التاريخ وتجاوز "التأخُّر التاريخي"، على حد ‏تعبير عبدالله العروي.‏

وعلى الرغم من مظاهر الحداثة والتحديث، التي طالت المنطقة العربيّة، إلّا أنّ السؤال الذي ظلّ ‏مطروحًا، يتمثّل في الكيفية، التي ينبغي أن يأخذ بها المُثقّف أسباب هذه الحداثة وينخرط في ‏التاريخ الكوني، لكن، وفي الوقت نفسه نُحافظ على هويّتنا العربيّة. وهنا بالضبط سينخرط العرب ‏في معركة أقوى، بين دعاة التقليد والآخذين بأسباب الحداثة. فأفرز المُثقّف العربي سلسلة من ‏ثنائيّات فكرية، لم تخرج من مفهومي "الأصالة والمعاصرة". فظهرت بعض الاجتهادات التي ‏تبنّاها كل من حسين مروة والطيب تيزيني حول إمكانية فحص هذا التراث العربي من المنظور ‏الماركسي، كمُحاولة لتغذية النقاش والمُساهمة في إقامة صرح فكري عربي. وعلى الرغم من ‏المداد الكثير الذي أُسيل في هذا الصّدد، ما يزال مفهوم الهوية بارزًا في كتابات المُثقّف، خاصّة ‏وأنّ هذه الهوية خلال الألفية الجديدة ستتلاشى وتحلّ محلّها هوياتٌ مُتعدّدة، بحيث إننا نكتشف ‏داخل كل هوية، حلقة فسيفسائية من هويات أخرى دخيلة على مفهوم الهوية "الأصل" خلال ‏أطوار عديدة مرّ منها التاريخ العربي‎.‎

تبرز أهميّة هذا التاريخ الطويل، الذي خاضه العرب لإرساء دعائم الحداثة السياسية والفكر ‏النقدي، لفهم علاقة المثقّف المغربي بهذه الحداثة السياسية، التي لم تخرج من إطارها النظري ‏والشفهي، وأيضًا لتتبُّع المسار الديمقراطي، الذي قطعه المغرب إبان مرحلة جدّ جريحة من ‏تاريخه، يتعلق الأمر هنا، بما سُميَّ داخل بعض الأدبيات التاريخيّة "التناوب التوافقي"؛ على ‏اعتبار أنّ هذه المرحلة في نظر بعضهم، قد مثّلت أخطر المراحل والأشواط، التي قطعها المغرب ‏السياسي الراهن، بسبب دخول اليسار وبمثقّفيه التقدميين إلى الحكومة برئاسة عبدالرحمان ‏اليوسفي في ربيع عام 1998، ليس اعتراضًا على مبدأ التناوب التوافقي، بل لعدم تشبُّث "الكتلة ‏الديمقراطية" بتطبيق الشروط السياسية والبرامج المتفق عليها مسبقًا، وكيف تخاذل المثقف ‏المغربي تجاه علاقته بتاريخ الحداثة السياسية، ما أسفر عن نهاية الثقافة والموت السريري لقيم ‏المواطنة والحرية وقيم المثقف العضوي، كما جاء بذلك المُفكّر الإيطالي "أنطونيو غرامشي"، ‏الذي ستتلاشى أفكاره ويتم تحريفها عن سياقها الفكري والسياسي ويكتفي هؤلاء بقشور هذه ‏الأفكار، فيتم تسويغها لمُخطّطات وأجندات هجينة، تخدم المؤسسة قبل المجتمع، والمصالح ‏الشخصيّة قبل الجماعية‎.‎

والغريب في الأمر، هو أنّه في الوقت الذي فطن فيه الشأن الثقافي المغربي إلى أنّ اليسار بات ‏في يد المُؤسّسة الرسميّة خلال حكومة "التناوب التوافقي"، خرحت أقلامٌ كثيرة، تعتبر أنّ هذا ‏الانخراط السياسي لليسار، قد أنقذ اليسار المغربي من الانحسار السياسي، الذي أصابه مع بداية ‏تسعينات القرن الماضي. والحقيقة أنّ هذا التأزُّم لم يكُن فقط بسبب دعاة التقليد والمُؤسّسة، وإنّما ‏جاء أيضًا بسبب خذلان كوكبة من المُثقّفين وجدت في التناوب فرصة لدخول معترك السياسة ‏من باب السُلطة، في الوقت الذي كان ينبغي أن يبقوا في المعارضة مُتناسين أنّ الدولة، لم يكُن ‏في وسعها تأزيم الفكر النقدي ومقاومة اليسار، إلّا من خلال الرأسمال الديني، الذي لم تحسم فيه ‏منذ مطلع القرن العشرين، في الوقت الذي ازدادت فيه شعبيّة المُثقّف اليساري في محاربة دعاة ‏التقليد خلال السبعينات.‏

هؤلاء لم يعرفوا أنّ الحداثة ليست تجاوزًا لنظام قديم مُبتذل لم يعُد صالحًا بالنظر إلى تغيّرات ‏جمّة طالت البلدان العربيّة منذ بداية الألفية الجديدة، أو تلافي جملة من التصوُّرات وأفول ‏معتقدات ومواقف بها يحيى المُثقّف، وإنّ الحداثة السياسية في صلبها رهانٌ على المُستقبل وقلبٌ ‏للأوراق وتأزيمٌ للمواقف وخدمة لمصالح المجتمع وتقدّمه، قبل أن تكون ترفًا فكريًا في النظر إلى ‏الممارسة السياسية التي لا أرى أنّها مجال البراغماتية والنفعية، كما ذهب إلى ذلك العروي نفسه، ‏حين فصل الأخلاق عن السياسية. بحيث أنّ هذه الأخلاق/ المواقف هي ما يُميّز الفعل السياسي ‏عن غيره. ‏

وهؤلاء السياسيون الحداثيون الغربيون الكبار، ما يزال التاريخ شاهدًا على مُنجزاتهم السياسية، ‏انطلاقًا ممّا استحدثوه من قلب في تصوُّرنا للسياسة من خلال مواقفهم، وليس بالأساليب النفعية، ‏التي تجعل المُثقّف اليساري ينتقل من المعارضة ويدخل إلى جهات رسمية، فيتنصّل بذلك من ‏مواقفه السياسية أو حتى أن يتوقّف عن الكتابة، بسبب امتيازات مجزية، قد يحصل عليها من ‏المُؤسّسة الرسمية. على هذا الأساس، تمَّ استبدال "المواقع" بـِ"المواقف" إبان حكومة التناوب ‏التوافقي، الذي كان بمثابة نهاية شوط طويل من النضال الثقافي داخل المغرب، بغية تكريس نوع ‏من حداثة غير مُكتملة، أو حداثة مُتصدّعة، لم تعُد تقوى على رؤية وجهها، لأنّها معطوبة في ‏أساسها وتعيش انفصامًا حقيقيًّا في ذهنية مُثقّف أضحى بموجبها ينتج "خطابًا" حربائيًا ومُتلوّنًا لا ‏يستقر عند نقطة واحدة يرسو فيها، فهو بقدر ما يصرخ وينتقد الأصول والتقليد والسُلطة ‏ودعاتها، لكنّه من جهة أخرى، يُماري ويُداهن مُسوّغًا لهذه السُلطة زلّاتها وأساطيرها، دون أن ‏ننسى الدور الكبير، الذي لعبته بعض أسماء هذا الجيل على مستوى تكريس مفهوم الحداثة ثقافيًّا، ‏الأمر الذي يجعله أكثر الأجيال التي حقّقت نهضة قويّة، فيما يتعلق بتشرُّب الفكر الحداثي النقدي ‏ومُحاولة بلورته داخل أدبيات الواقع اليومي، في ما يتّصل به على المستويين الثقافي والسياسي‎.‎

 

عينٌ على المشهد الثقافيّ

إنّ جيل السبعينات في المغرب، هو أكثر هذه الأجيال، التي كرّست مفهوم الحداثة داخل الأدب ‏والفنّ المغربيّين، إذْ إنّ القارئ للشعر المغربي، يكتشف هذا الخرق الذي مارسته تجارب هذا ‏الجيل على مستوى كتابة شعريّة مُتنصّلة من ربقة التقليد ومُتحرّرة أكثر من سطوة الموروث ‏الشعري المشرقي، إذْ إنّ أعمالًا شعريّة وجدت نفسها تعمل على تدوير نماذج شعرية مُعيّنة من ‏الشعر الحديث.‏

هذا الأمر جعل الشاعر محمد بنيس، ينتبه مُبكّرًا في دراسته الأكاديميّة حول ظاهرة الشعر ‏المغربي المعاصر، بأنّ القصيدة المغربيّة، ظلّت قصيدة الصدى وليس الأثر. وعلى الرغم من ‏صعوبة هذا الاستنتاج "الضيّق"، الذي خلص به بنيس في كتاباته النقدية/ الحفرية، فإنّ الشعر في ‏هذه المرحلة بالذات، سيصطدم مباشرة بمفهوم الحداثة كبنية تجديدية، تعمل على تأزيم كل ‏المُعتقدات والتصوّرات والأفكار القائمة والراكدة داخل الشعر المغربي إبان الستينات، بحيث ‏أضحت السُلطة الأيديولوجية، هي مَن تصنع القصيدة وليست العكس. ولا ننكر أنّ بعض رموز ‏الجيل الثاني (السبعينات) من المشهد الشعري المغربي المعاصر، قد اتَّسمت هي الأخرى بهذا ‏الجُرح الأيديولوجي، لكن أُضيف لها البُعد المعرفي الذي بدا واضحًا في نصوصهم الشعرية. ‏ناهيك عن انفتاح شعراء هذا الجيل على نظريات ومفاهيم ومدارس حديثة، في ما يتَّصل بالنقد ‏ومعارفه. ‏

وهذه الأمور لم تكُن مألوفة من قبل، بل إنّها أحد ثمار الحداثة الأدبيّة الغربية. وفي هذه المرحلة ‏ستظهر بعض المجلات الطليعية الحداثية، التي اشتغلت وفق تصوُّر يخضع الأدب المغربي عبره ‏لمُختلف الإبدالات المفاهيمية، كما ظهرت في الغرب ومحاولة تبيئتها وتطبيقها على الشعر ‏والقصّة والرواية. فقد شجّع هذا الجيل الترجمة الأدبيّة وغدت نصوص شعريّة عالمية تستقر ‏داخل هذه المجلات الحداثية وتُقيم في ضيافتها، مثل مجلة "أنفاس" التي كان يرأس تحريرها ‏الشاعر عبداللطيف اللعبي ومجلة "الثقافة الجديدة" لمحمد بنيس‏‎.‎

وأمام هذا التحديث الذي طال الأدب المغربي إبان السبعينات، فإنّه بقيَ مُحاصرًا بجدلية "الثقافي ‏والسياسي" وإنْ كان قد حسم في بعض عناصرها وأفكارها، إلاّ أنّها ما تزال تُرخي بظلالها على ‏الثقافة المغربيّة إلى الآن. إنّ السياسي لا يُمكن فصله عن الأدبي في هذه المرحلة الحرجة، فهو ‏بها ينطبع وبها يبني عوالمه، انطلاقًا ممّا يموج في الكيان المُجتمعي من تناقضات وأعطاب ‏ومآزق، لم يكُن بإمكان الشاعر أو القاصّ أو الروائيّ، أنْ يلوذ بالصمت أو يحتمي بعزلة صفراء، ‏بقدر ما كان مُطالبًا بالانخراط في عمق الحداثة وطرح أسئلة حارقة وقلقة حول مصير الأدب ‏المغربي داخل الحداثة، وهو يُواجه تنّين السُلطة وعنف الآلة الإعلامية الرسمية وذئاب التقليد ‏وأساطيرهم. خاصّة وأنّ هذه الحداثة، لم تقف عند نقد البنية التقليدية الشفهية للثقافة المغربيّة أو ‏في تخوم المواقف المجتمعية وتخليصها من ربقة الجهل والتأخُّر التاريخي الذي تُعاني منه، ولكن ‏الحداثة بدت وكأنّها عصيّة على القبض والنسيان، فهي قد اخترقت مكبوت النصوص الأدبيّة ‏وأيقظت فيها فتنة الحكي وطَرق موضوعات، ظلّت في حكم الممنوع مثل الجنس والدين ‏والسياسية، ونقد هذا الثالوث، وما يُمارسه من تنكيل على حرية الكاتب‎.‎

هكذا برزت الكثير من النصوص الشعرية التي تحتفي بإدخال الجسد، لأوّل مرة، في عُمق النصّ ‏الشعري المغربي، وبروز الخط العربي داخل هذه النصوص كمُكوّن جمالي يُعطي للعين ‏ابتهاجها، فقد غدت الحداثة الأدبيّة المغربيّة مختبرًا حقيقيًا لطرح أسئلة الشعر والنقد والترجمة، ‏وإطلاق العنان أكثر للمُخيّلة وسفرها في مباهج الروح وأدغال الجسد، وقهر الجغرافيا، واستلهام ‏المخزون التاريخي المغربي وما يحبل به من قصص وحكايات وأمثال شعبية، وجعلها تستقرّ ‏داخل النسيج الشعري المغربي أو إخضاعها إلى سلطان النقد، بأدوات منهجية ومعارف غربية ‏معاصرة، وهو ما أفرز الدراسة الوازنة "الاسم العربي الجريح" للمُفكّر عبدالكبير الخطيبي ‏وبتقديم من الفرنسي "رولان بارت".‏

وبما أنّ الحداثة حداثات، فهي تعاقد مجتمعي يروم إلى تحديث كل البنيات والتصوّرات والمواقف ‏وما تحمله من دلالات ورموز. ومن جانب آخر، فإنّ تأثيرها لم يبقَ حبيس الأدب، بل تفجّرت ‏أكثر وإنْ بوهجٍ أقلّ داخل مجال الفنون التشكيلية، أمام دور كبير لعبه التشكيليون المغاربة مثل: ‏محمد المليحي وأحمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي وغيرهم في تكريس هذه الحداثة التشكيلية ‏داخل المغرب، في وقت اعتُبر فيه التشكيل فنًا نخبويًّا، وهو ما جعل منهم لأوّل مرة في المغرب ‏يعملون على تنظيم معارض فنيّة بالهواء الطلق أو الفضاء العمومي، كما بلور مفهومه ‏‏"هابرماس". مع العلم أنّ هذا الخروج من القاعات المُغلقة هو ما سيُمهّد لاحقًا (نهاية الثمانينات) ‏إلى التنصُّل بين حينٍ وآخر من تجاوز الآفاق "الضيّقة" للّوحة المسنديّة وفتح المجال أمام ‏اشتغالات بصرية أخرى مُكثّفة، تُراهن على الفنّ المفاهيمي ورحابة المعنى المفتوح، سواء عبر ‏موضوعات جديدة، أو عبر تحرير لوحاتهم مع عنف الشكل وقلق التقنية وفتح اللوحة أكثر على ‏جُرح الواقع المغربي، وما كان يحبل به آنذاك من عنف وتنكيل.‏