النص الديني ومصادر المعرفة ‏

 د.عامر الحافي

أستاذ الأديان المقارنة في جامعة آل البيت/ الأردن‏

 

 

المعرفة البشريّة على المستوى التاريخي سابقة للمعرفة الدينيّة، على الرغم من أنَّ السلطة الدينيّة ‏قد جعلت من الدين نقطة البداية التي تستعلي على الإنسان والمعرفة والتاريخ. فالنص الديني ‏يمكن أن يمثل مصدرًا للمعرفة التي تتَّصل بما وراء الطبيعة، وأن يقدِّم إجابات للأسئلة الكبرى ‏التي تؤرِّق النفس البشرية. لكنَّ الخشية من حدوث انفصال معرفي بين الدين والدنيا، جعلت الفكر ‏الديني "الشمولي" يستعذب فكرة اشتمال النص الديني على المعرفة الشاملة للوجود كله. ‏

 

يَزْخرُ تاريخنا البشري بالكثير من الكتب المقدَّسة، كما هي حال الـ"فيدا" عند الهنود والـ"أفستا" ‏عند الفرس والكتب الخمسة عند الصينيين. هذا بالإضافة إلى التوراة والإنجيل والقرآن لدى أتباع ‏اليهودية والمسيحية والإسلام. تُمثِّل الكتب المقدَّسة تجسيدًا محاذيًا للتجربة الدينية البشرية، ‏فالاعتقاد بأنَّ علم الله وصفاته يمكن لها أن تتجسّد في النصوص الدينية يمثِّل تقاربًا استثنائيًّا بين ‏المقدَّس والدنيوي في الوقت ذاته الذي يمثِّل فيه مشكلة للنَّظرة الكلاميّة التنزيهيّة التي ترفض أيّ ‏تداخل بين المقدَّس المفارق والدنيوي الحادث. وهنا يمكن لنا أن نلحظ كيف انتقلت تمثُّلات أرواح ‏الآلهة في تاريخ المعتقدات الدينيّة من الطبيعة إلى أشخاص مختارين من السماء أو كهنة أو ‏زعماء أقوياء.‏

إنَّ تمثُّل الخطاب الإلهي في صورة كلمات منطوقة بلغات بشريّة، أو كتابة منقوشة على ألواح ‏حجريّة، يذكِّرنا بالألواح السومريّة المزخرفة بأحرف أوّل كتابة ابتكرتها البشريّة قبل ألواح ‏موسى بقرابة ألفي سنة، وهذا ما يجعل الفكر الديني ظاهرة قابلة للتفسير والفهم وفق معطيات ‏التاريخ.‏

النَّظر إلى النص الديني باعتباره تجسيدًا للصفات الإلهيّة "النص هو الإله" جعل كل حرف من ‏النص الديني بمثابة لغز أزلي لا طاقة للإنسان بأن يحيط به. فالنَّظرة "التأليهيّة" للنص الديني من ‏شأنها أن تجعل مساحة العقل البشري ودوْره في فهم النص محصورة في دوائر ضيِّقة.‏

بعيدًا عن الاستخفاف بمصادر المعرفة البشريّة باعتبارها غير منتجة في بلوغ الحقائق الدينية، ‏فقد ظهرت في الفكر الديني محاولات توفيقيّة تسعى إلى إبراز العلاقة التكامليّة بين المعرفة ‏الدينية والمعارف الأخرى في العلوم الطبيعية أو الاجتماعية. وعلى الرغم من الإشكالات العديدة ‏التي تُساق حول هذا الاتِّجاه، فإنه يبقى أكثر إدراكًا لمشكلة العلاقة بين النص الديني والمعارف ‏البشريّة من الاتِّجاه الذي قال بإسلاميّة المعرفة! فالمعرفة البشريّة على المستوى التاريخي سابقة ‏للمعرفة الدينية. على الرغم من أنَّ السلطة الدينية قد جعلت من الدين نقطة البداية التي تستعلي ‏على الإنسان والمعرفة والتاريخ.‏

نستطيع أن نفهم طبيعة العلاقة بين النص الديني والمعارف البشرية عندما نتَّفق على تحديد ‏وظيفة الدين والمجالات التي يمكن له أن ينتج فيها. فالدين ما يزال فاعلًا بقوّة في الجوانب ‏الروحية والأخلاقية والعاطفية، كذلك نجده محفِّزًا للمخيّلة البشرية وملهمًا للأدب الإنساني.‏

لا بدَّ من التفريق بين أثر النص الديني في المعرفة وبين اعتبار النص مصدرًا لجميع أشكال ‏المعرفة. فالنص الديني، والدين عمومًا يمكن أن يمثل مصدرًا للمعرفة التي تتَّصل بما وراء ‏الطبيعة. وأن يقدِّم إجابات للأسئلة الكبرى التي تؤرِّق النفس البشرية، ومهما كانت معقوليّة كثير ‏من تلك الإجابات، إلا أنّها تحقق كثيرًا من الطمأنينة للإنسان.‏

النصوص الدينية نصوص ملهمة ومحفِّزة للعقل والإرادة البشرية. وهي تشتمل على مبادئ كليّة ‏عامة في الجوانب الأخلاقية والروحية، ولكنها لا تشتمل بالضرورة على إجابات تفصيلية لكل ‏شيء.. ‏

إنَّ معرفة قوانين اللغة والمعارف البشرية والطبيعية وظرفيات التلقّي والخصوصيّات الثقافية ‏والاجتماعية. تمثل مقدمات تأسيسيّة لفهم النص الديني، وكذلك الدنيوي أيضًا، في تراثنا البشري ‏على وجه العموم. وهذه المعرفة تمثل النطاق الأوسع لمفهوم "أسباب النزول" الذي حصره ‏العلماء القدماء في مرويّات محدودة في كتب التفسير وعلوم القرآن. ‏

السؤال الحاضر هنا، ما دام النص الديني مشتملًا على الحقائق العلميّة والكونيّة، وما دام ‏المؤمنون هم الأقدر على فهم نصوص دينهم ومعرفة خفاياه، فلماذا لم يتوصّل المؤمنون إلى ‏الحقائق العلميّة المتضمَّنة في نصوصهم قبل غيرهم؟ ولماذا لم تكن هذه النصوص منطلقًا ‏لاكتشافات علميّة جديدة عوضًا عن محاولات الرَّبط بين ما يكتشفه غير المؤمنين من حقائق ‏علميّة وبين أفهام متكلّفة لبعض الكُتَّاب لنصوص دينيّة يضعونها في قوالب مغشوشة! الأمر الذي ‏جعل النص الديني يبدو في نهاية المطاف "موسوعة" تشمل كل تفصيلات المعرفة.‏

لا بدَّ لمصادر المعرفة أن تكون منتجة للمعرفة البشرية في جميع سياقاتها الثقافية والحضارية ‏فهي"عالميّة" و"موضوعيّة"، وهذا لا يمكن تحقيقه دون أن تكون تلك المصادر مستقلة عن ‏العواطف والانفعالات "الذاتيّة".‏

وفي سبيل إعطاء النص شموليّة معرفيّة تفصيليّة يرتكز بعض الكُتَّاب على فهم مغلوط لبعض ‏النصوص الدينية من قبيل قوله تعالى: "مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ"(الأنعام:38)، والتي لم ‏تكن تتحدث عن الموسوعية المعرفية، وإنَّما جاءت في سياق الحساب الإلهي للبشر وإحاطة الله ‏بأعمال خلقِه. ‏

فالنَّظر إلى النص الديني باعتباره نسخة عن "اللوح المحفوظ" يختلف عن النَّظر إليه باعتباره ‏‏"صحف إبراهيم" أو "ألواح موسى"، كما أنَّ "أم الكتاب" الذي "عند الله" يختلف عن "الكتاب" ‏الذي تلقّاه الأنبياء عليهم السلام بلغات أقوامهم، وكان فيه لكل منهم "شرعة ومنهاجًا".‏

القول إنَّ النصوص الدينية تشتمل على معرفة المستقبل، وتواريخ زوال الدول، كما في كتاب ‏‏"زوال إسرائيل عام 2022". واستعمال حساب الجمل والقيمة العدديّة للحروف وما يسمّى ‏بالإعجاز العددي، جعل النص الديني يتحوَّل من كتاب هداية إلى كتاب سحري للمشعوذين ‏والمُتَهوّكين والعرّافين "الشرعيّين"! ولا ننسى هنا استمرار استعمال النصوص الدينية في مختلف ‏الأديان في تسويغ المعتقدات الشعبية كعزائم لطرد الأرواح الشريرة أو تلاوات وطلاسم لإزالة ‏السحر.‏

يمكن للمعرفة الدينية أن تؤثِّر في المعرفة العلمية؛ من حيث البحث وراء الظواهر عن القوانين ‏الناظمة لها. وهنا يمكن لنا أن نشير إلى العلاقة بين عقيدة "التاو" في الديانة التاوية الصينية، ‏والبحث عن القوانين الطبيعية التي تقف خلف الأشياء. فـ"التاو" هي "القانون الطبيعي الذي تسير ‏وفقه الكائنات". والتاو "تنتج الملاء والخلاء ولكنها ليست ملاء ولا خلاء، تنتج الذبول والهلاك ‏ولكنها ليست ذبولًا ولا هلاكًا، تنتج الجذور والأغصان ولكنها ليست جذورًا ولا أغصانًا". وهنا ‏نجد ملامح جدليّة فلسفيّة قديمة يلتقي فيها البحث عن الحقيقة المطلقة بالبحث عن قوانين الطبيعة ‏من خلال ظواهرها المتغيِّرة.‏

كيف يمكن للعقل البشري أن يقرأ النص الديني في سبيل معرفة الإنسان والكون جنبًا إلى جنب ‏مع سعيه لبلوغ اليقين ومعرفة المطلق؟ وكيف يمكن للمؤمنين أن ينتقلوا من البحث عن الله في ‏النص الديني إلى البحث عن الإنسان والمعرفة البشرية التي يشتمل عليها ذلك النص؟

تنسجم المضامين المعرفيّة في النصوص الدينية مع التراكم المعرفي للمجتمعات البشرية. فالتفكير ‏الديني القديم يمثل مصدرًا للمعرفة في سياقه التاريخي للمجتمعات القديمة، ولكنه لا يمثل مصدرًا ‏للمعرفة العلمية في جميع السياقات والأوقات، وهنا لا بدَّ من التنبُّه إلى أهميّة التفريق بين وظيفة ‏الأسطورة الدينية التي تنطوي على محاولة تفسيرية ميتافيزيقية للظواهر الطبيعية، وبين الخرافة ‏التي تنطوي على معتقدات خارقة للطبيعة ولا تحوي أي قيمة معرفيّة. ‏

يمكن لنا أن نتفق على وجود أثر لعقيدة "البعث" عند المصريين في بناء الأهرامات، أو في ‏تطويرهم للوسائل الطبيّة في تحنيط الموتى. وكذلك نستطيع أن نلمح أثر البحث عن "أكسير ‏الحياة" أو "شراب الخلود" لدى أتباع الديانة التاوية الصينية في تطوير بدايات مفيدة في الكيمياء. ‏أو أثر الإيمان بألوهيّة الأفلاك في تطوُّر علم الفلك عند البابليين.‏

بعيدًا عن موثوقيّة النص الديني أو صحة نسبته إلى مصدره، فإنَّ ثمّة تشابهًا كبيرًا في طريقة ‏تعامل العقل الديني مع النصوص الدينية على المستوى المعرفي. وإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ المعرفة ‏في العديد من موضوعاتها تنطوي على كثير من الغموض والفراغات التي تعكس في جانب منها ‏مشكلة الإنسان في فهم ذاته أو طموحه في بلوغ الكمال والخلود.‏

الاعتقاد بأنَّ النص الديني يحوي الحقائق العلميّة والمعارف البشريّة كلها لا يقتصر على أتباع ‏دين بعينه، وإنَّما يمثِّل سمة لأنماط من التديُّن التوفيقي الذي يسعى إلى ردم الهوّة بين ثبات النص ‏الديني وتطوُّر المعرفة البشريّة.‏

إنَّ البحث عن نص ديني يكمل النص الأوَّل هو ظاهرة متواترة في تاريخ الأديان، فالتلمود ‏والمجامع الكنسيّة، والسنّة، جميعها تؤكد استمرار الحاجة إلى نصوص محاذية للنص المؤسِّس. ‏والواقع أنَّ المشكلة لا تقتصر على النص المحاذي من حيث اعتباره "محاولة تكميليّة" وإنَّما تكمن ‏في وجود ثقوب في نظرتنا للنص المؤسس وفق الفهم الرَّسمي للنص الديني.‏

الخشية من حدوث انفصال معرفي بين الدين والدنيا، جعل الفكر الديني "الشمولي" يستعذب فكرة ‏اشتمال النص الديني على المعرفة الشاملة للوجود كله. ومن هنا تصبح المعرفة البشرية جزءًا من ‏معرفة مطلقة يشتمل عليها النص.‏

ليست المشكلة في تعدُّد مصادر المعرفة، وإنَّما المشكلة في أن نتَّخذ للمعرفة مصادر غير منتجة ‏تجعلنا نقدِّس أنماطًا جاهزة من المعرفة! وبعيد عن ذلك يمكن لنا أن نجد في التراث الديني بذورًا ‏معرفيّة تساعدنا على تلمُّس المراحل المختلفة التي مرَّت بها المعرفة البشرية. ‏

إنَّ قوة النص الديني واستعلاء مصدره المفارق جعل كثيرًا من النُّظم السياسية ترى فيه أنموذجًا ‏لفرض تصوُّرات محدَّدة على المعرفة البشريّة ليس في الشأن الديني فقط، وإنَّما في شتى ‏المجالات الدنيويّة كذلك. ‏

يمكن لنا أن نجد في نظرة القرآن التي تميِّز بين عالم الغيب وعالم الشهادة أنموذجًا للحدّ من الخلط ‏والاستحواذ المعرفي، الذي يمارسه كثير من دعاة الشموليّة الحَرفيّة للنص، على عالم الشهادة وما ‏يشتمل عليه من معارف بشريّة، فالقرآن يشير إلى ثلاث طرق للمعرفة: الحس والعقل والإلهام، ‏الطريق الأوّل والثاني منها مُتاح للجميع "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ ‏لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ‎ ‎ۙ‎ ‎لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"(النحل 78 )، فالمعرفة الحسية والعقلية هما ‏القاسم المشترك بين الناس جميعًا، أمّا المعرفة الإلهاميّة، فهي حالة استثنائيّة طارئة لا يمكن ‏اختبارها أو اكتسابها. وهي لا تمثِّل بديلًا للمعرفة البشريّة بقدر ما تنبِّه على وجود معارف أخرى ‏لم يبلغها الإنسان بعد.