روان عبد
مهندسة وكاتبة أردنية
إنَّ المعرفة حجمًا ونوعًا بالإنسان وبغيره، ومرادفها الإدراك الذي يتوِّج أعلى العمليّات العقليّة شأنًا -وإنْ سُمِّي شعبيًّا "الذكاء"- مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبيولوجيا، فلا العمر العقلي (M.A) ولا نسبة الذكاء (IQ) تسمح لنا بتجاهل كينونة الإدراك الذي يتمثَّل في التنظيم الذاتي ونظام المعلومات العصبي الناشط كحقيقة أساسيّة لوجود الإنسان.
بارَكَتْ البشريّة زواج علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي نهايات القرن العشرين بعد أن غيَّرت نظرتها تجاه النشاط العقلي المعرفي، وأخذت الإستثارات العقليّة المعرفيّة والبيئيّة التي يتعرَّض لها الفرد خلال مراحله النمائية والحياتية بعين الاعتبار، فلمّا كان أبو الطب الإغريقي وأحد رموزه الأوائل "أبقراط" يقول: "المخ هو أساس المعرفة والمصدر الرئيس لها"، فإنَّ المتتبِّع لتطوُّرها يدرك أنها أصبحت مجزّأة أكثر وبعيدة كل البعد عن مفهوم العقلية العامة الجامدة (النظرة الفوقية للعقل كوحدة واحدة) حتى من قِبَل "جيلفورد" (Guilford,1989) الذي كاثر القدرات المعرفيّة العقلية الأولية إلى 120 قدرة نوعية امتدَّت لتصبح أكثر من 180 في يومنا هذا.
العامل الوراثي (مجموعة عوامل الفطرة) والعامل البيئي (مجموعة عوامل الخبرة) هي العوامل الأوليّة التي تشكل أسس نمو الإنسان معرفيًّا، وكلاهما مرتبط بالبيولوجيا؛ الأوّل من خلال الجين وتأثيره الذي يتجلّى على شكل فروقات فرديّة تشمل تباينات في التكوينات العقلية للأفراد، وقدراتهم، ومستوى ذكائهم، وقوة حواسهم ومداركهم، والصفات والخصائص الموروثة لدى كل منهم، والذي اعتُبرت نظرية "ثيرستون" (thurston,1983) الذي قسم القدرات العقلية إلى سبع قدرات عقلية أوليّة تشمل: الطلاقة اللفظية، والفهم اللفظي، والقدرة العددية، والقدرة المكانية، والذاكرة، والسرعة الإدراكية، والقدرة الاستدلالية، دليلًا عليها، والثاني -أي البيئي- بسبب علاقته الوطيدة بالجهاز العصبي، والذي كان يُدْرَس في مرحلة ما من خلال تجارب وفحوصات طبيّة ودراسات سلوكيّة على التوائم المتطابقة، لإقصاء آثار العامل الوراثي ودراسة الأثر التراكمي للبيئة على الأفراد وما قد تخلقه من فروقات فردية مكتسبة. فالتعلُّم المرتكز على المعرفة المرتكزة بدورها على استجابات حسيّة للبيئة المحيطة، تُحدِث تغيُّرات في التراكيب الفسيولوجية والبيولوجية؛ نتيجة استثارة المراكز العصبية في المخ لتواكب الاستثارات العقلية المعرفيّة ومدخلات النشاط العقلي الحسية التي خلقتها تلك البيئة، للسموّ به نحو علاقة بنائيّة، مُتبادلة، إيجابية ترفع من مستوى نشاط الدماغ والجهاز العصبي وتنعكس على حجم ونوع المعرفة التي يكتسبها الفرد، وبالتالي الجماعة.
للربط بين الخطاب العاجي العلمي والواقع نحتاج للاستعانة بروابط خفيفة يحبها الدماغ، فكما يستخدم المخرجون في الأفلام ألواح مصنوعة من السُكَّر عوضًا عن ألواح الزجاج لإعطاء طابع مثير أكثر لتحطُّم هذي الألواح لحظة اصطدام البطل بها -فالشظايا تتناثر في كل مكان بغزارة- تعطي البيولوجيا وعلومها هذا الطابع نفسه عندما تُستخدم كأداة لتفسير كل تفاعلات الإنسان مع الأحداث وتحليل كل ما هو مسلَّم به أو موروث معظَّم سواء كان قصيدة، أو حتى انتحارًا وتضحية مقدّسان، فكما أنَّ للُّغة دورًا عظيمًا في الإدراك كمثير خارجي (باعتبارها ذات وجهين: معرفة ناتجة عن خوارزميات تحليل صوتي وتركيب لغوي ومثير خارجي إذا مثّلث مدخلًا لبناء معرفة مركَّبة متراكمة)، وللبيولوجيا دورٌ عظيمٌ في الإدراك من خلال الجهاز العصبي، فإنَّ للبيولوجيا واللغة معًا دورًا كبيرًا في صياغة المعرفة؛ فعندما يقول محمود درويش مثلًا: "أنا لاعب النرد" متقمِّصًا دور المتحكِّم لرفع وتيرة الدهشة عند المتلقّي ومستخدمًا مهاراته اللغوية لحصد أكبر قدر ممكن من نظرات الإعجاب، ما هو إلّا باحث عن دفقات هرمونات السعادة سواء كان واعيًا أو غير واعٍ بذلك، مثل أيّ كائن حيّ آخر؛ السيروتونين (serotonin)كمحسِّن عام للمزاج، والدوبامين (dopamine) كمكافأة للدِّماغ، والأكسيتوسين (oxytocin) المرتبط بالجماعة والذي يزداد بزيادة الثقة والتقدير والقرب منها. وأمّا قول ماجدة الرومي الذي نكاد نصدِّق به: "ذوَّب في الفنجان قطعتين وفي دمي ذوَّب وردتين" يجبرنا أن نغوص في بحر علوم الجينات، "مَن هو الشريك الأفضل الذي سيحمل جيناتي للأجيال القادمة؟"؛ سؤال ملِحّ على الإنسان، فكيف تذوِّب ممثلة نزار قباني هذي ورودًا في دمها إذا كانت لم تلتقِ بطلها الغامض قبلًا إلّا إذا تسبَّبت الفرمونات في ذلك؛ حيث تطلق أجسام الكائنات الحيّة فرمونات كيميائيّة بلا رائحة مع العرق تستقبلها الكائنات الأخرى مسبِّبة الانجذاب العاطفي والجسدي، فعطر الجاذبيّة هذا يستقبله جهاز (vomeronasal) عند الآخرين والذي يرسل بدوره رسائل عصبيّة للدماغ تقول له: هذا الشخص المطلوب، فذوِّب ورودًا في دمي كمتحكم ومركز للعواطف في الجسم.
أما بطلة قصة "على ورق سيلوفان" للقاص يوسف إدريس فهي تعجز عن تبرير خيانتها لزوجها الطبيب ذي الأصابع الرفيعة النحيلة مع آخر أصابعه ثخينة إلّا بأن تقول: "أصابعه مثل ماسورة" غير مدركة أنَّها بجملتها تلك تلخِّص عددًا من دراسات علم التطوُّر؛ فالزواج فكرة حديثة نسبيًّا؛ إذْ كانت أنثى الإنسان القديم تختار شريكها الذي تسمح له باستثمار بويضتها واستهلاك جسمها ومخزونها من الصحة والشباب أثناء الحمل بحسب كفاءته الجسديّة؛ صحّة أعلى تعني فرصة أعلى في الحماية وتوفير الطعام، فنشر جينات الذكر للأجيال القادمة لن يكلِّفه تسعة أشهر أو بويضة ثمينة قد تكلّف الأنثى حياتها، وبتغيُّر أسلوب المعيشة ونوع الخطر استمرَّت الصحة في كونها جاذبًا مهمًّا، فالشَّعْر الغامق الكثيف والجسد الرياضي كمثالين ودليلي خصوبة وصحة يشرحان سبب الحيرة التي وقعت فيها البطلة.
كما أنَّ قراءة الأمثلة السابقة بالمقلوب تسمح لنا بالمرور على بعض الآثار الصريحة لتداعيات الاضطراب العصبي بشقِّه البيولوجي على المعرفة؛ فبعيدًا عن الاستخدام الشائع لحالة "فان جوخ" الهولندي ( (Vincent van Goghوصراعه مع اضطرابات ثنائي القطب قبل قطع أذنه، فإنَّ كل من ديكنز (Charles Dickens) و"ليو تولستوي" (Tolstoi) صوَّرا حالتهما الشخصيّة كمصابين بمتلازمة "توريت" (خلل عصبي وراثي يسبِّب تشنُّجات لا إراديّة) في كل من شخصيّة السيد "بانكس" في رواية "دوريت الصغيرة" و"نيكولاي ليفين" في رواية "آنا كارنينا"، وحيث يُذكر أنَّ ذلك أسَّس لموجة كبيرة من سوء الفهم وحتى لوصم مصابي "توريت" بالبذاءة باعتبارهم غير لائقين اجتماعيًّا.
واذا ما رجعنا بالزَّمن قليلًا، أيّام الحُطيئة مثلًا، وكان هناك تصوير مغناطيسي لثبت أنه مريض بالاكتئاب أو على الأقل لثبت نشاط اللوزة الدماغيّة المسؤولة عن المشاعر السلبيّة ووحدة المنطق والواقع في دماغه، هذي الوحدة التي تجعل الإنسان أكثر واقعيّة لدرجة تهدمه -على المستويات النفسي والاجتماعي والبيولوجي أحيانًا- أو لنقُل لدرجة تجعله في حالة هجو مستمرّة حتى لنفسه، حالة يدركها المعرّي بعد مدّة تسمح له ببناء بيت لمريضنا الحُطيئة على أطراف الجنّة مشيرًا لمشاركته الحالة البيولوجيّة من خلال تعظيم صدقِه في كتابه "رسالة الغفران".
يزعم الكثير من الناس بأنهم يملكون مصادر حسيّة خاصة للمثيرات العصبيّة؛ فهم يملكون ممرّات معلومات خفيّة سريّة دون غيرهم من الناس يسمّون نتاج معالجتها إلهامًا، ولمّا كان الإيمان بالغيبيّات ليس ببعيد عن البشر، فإنَّ التصديق بأقوال الموحى لهم حقيقة منذ آلاف السنين، وإنَّنا عندما نقرِّر الخوض في مفهوم "الإلهام" من وجهة نظر بيولوجية نضطرّ أنْ نعودَ لنستخدم بداية المقال كنقطة مرجعيّة؛ فالأبحاث الطبيّة، واقتفاء أثر الإصابات المُخيّة وتأثيرها على السلوك الإنساني، وتتبُّع مسار المواد المشعّة في الأجزاء النشطة من المخ، والأقطاب الجانبية، و CAT scan، و X-ray scan، و MRI، وغيرها من الأدوات والتجارب التي أجريت على الحيوان والإنسان على حدٍّ سواء أثبتت لغط القول بالعقل العام؛ فالقشرة المُخيّة وهي طبقة مليئة بالتلافيف (Gyrus)، سمكها لا يتجاوز 3 مم، تتحكَّم في التفكير والوظائف الحسيّة والحركة الإراديّة، والتهابها يمكن أن يسبِّب هلوسات بصريّة وسمعيّة، فالمريض سيرى ويسمع ويحس بأشياء غير موجودة ويؤمن بها، وربّما ينقلها للآخرين بوجود ثقة عالية والقليل من النرجسيّة، والمهارات اللغوية. والتلفيف الحصين(hippocampus) له دور في تذكُّر المعلومات -مع التشديد على أنَّ الذاكرة لا مكان محدَّد لها- والفصوص الجبهي والصدغي والقذالي مسؤولة عن تجهيز ومعالجة الحركة والعمليات العقليّة العليا، والمثيرات السمعيّة، والبصريّة على الترتيب، ممّا يعني أنّ أيّ خلل أو ضعف أو عجز في وظائف أحد أجزاء الجهاز العصبي سينعكس فورًا على إدراك الإنسان وأحكامه ومعارفه، لا بل الأمر يتجاوز الجهاز العصبي نفسه، ليشمل كيمياء الجسم والهرمونات التي تؤثِّر فيه مباشرة، الصلاة أنموذجًا؛ إذْ تسبِّب الحركات الرياضية في أيّ صلاة إفراز هرمون السيروتونين الذي يتحوَّل بعد استهلاكه الى ميلاتونين مسبِّبًا حالة من الاسترخاء والشعور الخفي بالسعادة الذي يسبِّب حالة من الإدمان ضمن ظروف معيَّنة، الإدمان نفسه الذي يجعل الجنس وتوصيفاته ملحّة في الخطاب الإنساني، فلا دفقة كيميائيّة تعلو على دفقات الذروة الجنسيّة، ممّا يجعل استمالة تركيز أدمغة البشر بالتلويح بالجنس فعّال دومًا.
أخيرًا، أقول إنَّ المعرفة حجمًا ونوعًا بالإنسان وبغيره ومرادفها الإدراك الذي يتوِّج أعلى العمليات العقلية شأنًا -وإن سمِّي شعبيًّا "الذكاء"- مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبيولوجيا فلا العمر العقلي (M.A) ولا نسبة الذكاء (IQ) تسمح لنا بتجاهل كينونة الإدراك الذي يتمثَّل في التنظيم الذاتي ونظام المعلومات العصبي الناشط كحقيقة أساسيّة لوجود الإنسان، حقيقة تذكِّره بها كل ومضة عصبيّة نتجت عن مثير يقول أثره التراكمي على البناء المعرفي: إنَّ الحساسيّة الأعلى للمثيرات تعني ذكاءً أعلى، وبالتالي معرفة أكبر يستخدمها البنيان الإنساني ويظلّ يدرُس صحّتها على طول نهر الزَّمن المتجمِّد.