حوار مع الرِّوائي زياد محافظة

 

حاوره: جعفر العقيلي ‏

كاتب وصحفي أردني

jaloqaily@yahoo.com

 

يَرى الرِّوائيّ الأردنيّ زياد أحمد محافظة أنَّ الرسالة التي يحملها الرِّوائي، لا بدَّ أنْ تكونَ ‏واضحة، وجارحة أيضًا، وأنَّ التَّرميز لم يعُد يجدي نفعًا إذا أردنا الوقوف في وجه هذا العبث ‏الذي نعشيه. ويُعرب مؤلف "يوم خذلتني الفراشات" التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة لجائزة ‏الشيخ زايد للكتاب (2012)، عن أسفه لأنَّ الرِّوائي العربي يسير اليوم وحيدًا، دون أن يكون ‏برفقته مشاريع داعمة ومساندة له ولمسيرته الأدبيّة كمشاريع الترجمة أو التبادل المعرفي الإنساني ‏والثقافي. ‏

 

 

يُؤكِّدُ محافظة أنَّ خيال الروائي مهما جنح نحو الغرائبيّة أو الأفكار المجنونة، سيجد أنَّ الواقع ‏المغلوب على أمره قد تفوَّق عليه، وسبقه بأشواط كثيرة. ويوضِّح أنَّ روايته الأخيرة "حيث يسكن ‏الجنرال" (2018) بحثٌ عميق في فكرة الوطن والمصير والخلاص، وغموض الروح الإنسانيّة ‏وتوتُّرها وانهياراتها، وسعيٌ جادّ لفهم حاضر الإنسان وخساراته ومصيره المجهول. أمّا "نزلاء ‏العتمة" التي نالت جائزة أفضل رواية عربيّة في معرض الشارقة الدولي للكتاب (2015)، فتدور ‏أحداثها حول موضوع الموت وأسئلته الكبرى، ضمن رؤية تدعو إلى التفكُّر بمفاهيم ترتبط ‏بالموت مثل الخلاص والشعور الإنساني. ‏

ويأمل الروائي المولود في عمّان (1971) أن تكون روايته "أفرهول" قد أتاحت لعمّان التي تتخذ ‏دور البطولة فيها، أن تتقدَّم ويعلو صوتها، وأن تدافع عن حقِّها في الحياة والحُبِّ والحريّة والنُّور. ‏مقرًّا أنّ خوفه -كمبدع- على عمّان؛ المدينة والإنسان والحكاية، هو ما دفعه لكتابة هذه الرواية.‏

ويعتقد محافظة أنَّ المأزق الذي يقع فيه كثير من الروائيّين أنهم يخافون كتابة نصوص تُغضب ‏القرّاء، أو تتحرَّش بهم، مشدِّدًا على أنَّ الروائي مطالَب بعبور حقول الألغام المزروعة في طريقه ‏دون خوف أو تردُّد.‏

ويلفت صاحب روايتَي "بالأمس كنتُ هناك" و"أنا وجدّي وأفيرام"، إلى أنَّ الروائي كلّما كان ‏ديمقراطيًّا مع شخصيّاته، اتَّسم نصُّه بالمزيد من الانفتاح والرّحابة والتّنويع. وأنَّ الرواية كما ‏الحياة، بها مسارات ومصائر وأحداث وتفاصيل لا تنتهي، وفي أحيان كثيرة لا يمكن التنبُّؤ بها، ‏لهذا "ليس أجمل من أن يرافق الرِّوائي شخصيّاته ويمشي بجانبها ويصادقها، لا أنْ يخطَّ لها مسارًا ‏واحدًا ويرغمها على السَّيْر فيه".‏

تاليًا حوار مع محافظة الذي يحمل شهادة الماجستير في الإدارة العامة، ويعمل في دولة ‏الإمارات العربية المتحدة، حول تجربته الإبداعيّة ورؤاه واشتغالاته.‏

 

 

يتَّسم الأدب الذي تقدِّمه بالواقعيّة ويقترب من هموم المجتمع وقضاياه. هل تعتقد ‏بوجود رسالة اجتماعيّة للأدب؟ ‏

كروائي، أرى أنَّ الرواية اليوم أداة فاعلة ومؤثِّرة أكثر من أي وقت مضى، إن لم يكن لجهة تغيير ‏الواقع البائس الذي نعيشه، فعلى الأقل لجهة فضحِه وتعريتِه، وبالتالي توجيه الرأي العام نحوه، ثم ‏ما فائدة الرواية والأدب بشكل عام إن لم يحمل للواحدِ مِنّا الأمل بغدٍ أفضل! لذا، مع شراسة الواقع ‏وقسوته وبؤسه، لا بدَّ أن تكون الرسالة التي يحملها الروائي، واضحة وجارحة أيضًا، فالترميز لم ‏يعُد يجدي نفعًا... نريد أن نُسمّي الأشياء بأسمائها. ولعلَّ السؤال الذي طالما توقفتُ عنده هو: هل ‏يمكن للكتابة أن تقف بوجه هذا العبث الذي نعيشه؟ وجوابي دائمًا "نعم" كبيرة. ‏

 

تستعين في أعمالكَ بعوالِم غرائبيّة تقدِّم صورة تبدو طبق الأصل للواقع. ما الذي يقدِّمه ‏لكَ الغرائبيّ؟ وكيف تنجح في إقناع المتلقّي بواقعيّة الأحداث التي تنتمي إلى المتخيَّل؟

لو تأمَّلتَ ما يجري حولنا، لوجدته أقرب إلى فانتازيا لا يصدِّقها عقل، تأمَّل هذا الموت المجاني ‏والقتل العبثي الذي يتم على مرأى من الجميع وتحت أسماء عديدة، حاول أن تجد شيئًا يفسِّر هذا ‏الفساد والتخلف والدكتاتوريّة وإساءة استخدام السلطة، انظُر حولك وستجد أنَّ معظم دولنا هي ‏أقرب للدول الفاشلة، لأنَّ الشعوب لم يكُن لها في يوم من الأيام دورٌ في تقرير مصيرها. ‏

هنالك أنظمة أحكَمَت قبضتَها على مصائر الشعوب لعقود، وفشلت في التقدُّم بمشروع تنويري ‏حقيقي، يعْلي من قِيَم الحياة والحريّة والديمقراطيّة والعدالة والمساواة واحترام حقوق المواطنين، ‏لذا مهما جنح خيال الروائي نحو الغرائبيّة وحتى نحو الأفكار المجنونة، سيجد أنَّ الواقع المغلوب ‏على أمره قد تفوَّق عليه، وسبقه بأشواط كثيرة.‏

 

في روايتك الأحدث "حيث يسكن الجنرال"، تسعى لإيجاد عالَمٍ روائيٍّ يوازي الواقع ‏ويحاوره، ويمثِّله ويستجيب لتدفُّقه وضروراته. وفيها نداء إنساني يُعلي من شأن ‏الحريّة وقيمها. حدِّثنا عن هذه التجربة.. ‏

تدور "حيث يسكن الجنرال" حول الشخصيات المشتّتة والهائمة التي يمكن أن تسكن داخل الجسد ‏الواحد، فترهقه وتستنزفه وتمضي به نحو حافة الهذيان والجنون. ‏

تتناول الرواية سيرة جنرال يقرِّر الفرار من بلده قبيل ساعات من اندلاع الثورة فيها، فيهرب ‏خفيةً بعد ما أعدّ خطّة محكمة، غيَّرَ على إثرها اسمه وهويّته، راضيًا في سبيل الحفاظ على حياته ‏ومكتسباته، أن يرمي ذاك الجنرالَ وراء ظهره، بعد أن عمل سنوات طويلة في بناء مجدِه ‏وسلطتِه، ليصبح شخصًا آخر يعيش حياةً جديدة، بعيدًا عن مآسي الشرق وحرائقه المشتعلة. ‏

وتشاء الأقدار أن يتعرَّض الجنرال لحادث سير في المكان الذي هرب إليه، ويستيقظ على إثر ‏الحادث وقد استفاقت الشخصيّات بداخله، ليجد نفسه ممزّقًا بين روح مهدّمة وجسد مهزوم، ‏ومصائر غامضة تدفعه في اتجاهات شتى، ويتصاعد الحدث السردي فنكشف أمام الجنرال عوالم ‏خفيّة لم يعهدها من قبل، ليصبح من حيث لا يدري، مقصدًا للكثير من الأرواح الهائمة المعذَّبة، ‏التي راحت تفِدُ إليه من جهة الشرق؛ تلك الأرواح التي كان في يوم من الأيام سببًا في عذابها ‏وتحطيمها وقهرها. ‏

وعبْر ليالٍ موحشة وباردة، يقضي الجنرال حياته خائفًا ووحيدًا، وهو يترقَّب ويحاور تلك ‏الأرواح الحزينة المحطَّمة التي تتربَّص به، فتأتي مسكنَه كل ليلة وفي جعبتها الكثير من الأسئلة ‏المربكة، لتحاوره وتذكّره بما اقترفت يداه وتقتصّ منه، وربَّما لتبحث لنفسها من خلال تلك ‏الحوارات عن الخلاص المنشود. فالرواية وفق هذا البناء السردي، بحث عميق في فكرة الوطن ‏والمصير والخلاص، وغموض الروح الإنسانيّة وتوتُّرها وانهياراتها، وسعيٌ جادّ لفهم حاضر ‏الإنسان وخساراته ومصيره المجهول.‏

 

في "نزلاء العتمة"، لجأتَ إلى عالم الأموات بحيث جَرَت الأحداث تحت الأرض. ما ‏الفرق الذي صنعه هذا التوجُّه في بنيان الرواية وثيمتها؟

خلافًا لما تبدو عليه أحداث الرواية وسيرورتها، التي تصيب القارئ كما قيل لي في أحيان كثيرة ‏بحالة من الاكتئاب والسوداويّة والضيق، فقد كتبتُها باستمتاع. ربّما لأنّني اختبرتُ فيها لذّة الانتقال ‏بين عالمي الحياة والموت أكثر من مرَّة. ولم يكن هذا المزج الناعم، ليحدث لولا تلك المقاربة ‏التدريجيّة التي أتاحت لي فهمًا أعمق لتلك المنطقة الغامضة بين هذين العالمين. إذْ تدور أحداث ‏الرواية حول موضوع الموت وأسئلته الكبرى، وتتَّخذ من مسرح الموت مكانًا لأحداثها وحركة ‏شخوصها، ضمن رؤية تدعو إلى التفكُّر بمفاهيم ترتبط بالموت مثل الخلاص والشعور الإنساني. ‏

تذهب هذه الرواية باتجاه فكرة الموت وفلسفته، ليس من باب مُساءلته أو محاكمته، بقدر ما يتعلق ‏الأمر بمساءلة الحياة نفسها. ففي العالم الغرائبي الذي تدور الرواية في فضائه، يُتاح لأبطال العمل ‏ممارسة حياتهم في عالمٍ ماورائيّ متخيَّل، عالم الموت، حيث يُتاح لكل شخصيّة حريّة الحياة، ‏والتعبير عن مشاعرها وأحاسيسها وأحلامها وهواجسها وتطلُّعاتها. وفي الوقت الذي تفرد فيه ‏المجال للمخيّلة الخصبة لتتَّجه صوب عوالم جديدة لم يختبرها المرء من قبل، تحاول بلغة روائيّة ‏شفافة وبناء مشهدي محكم، الوصولَ بالقارئ لفهمٍ أعمق لتلك المنطقة الغامضة بين الحياة ‏والموت؛ تلك المنطقة التي لا بدَّ أن يتوقَّف عندها المرء، قبل عبورها بشيء من الخوف والقلق. ‏

 

في روايتك "أفرهول"، يظهر المكان بوصفه بطلًا. وتبدو "عمّان" كائنًا يتنفَّس؛ يعيش ‏ويستعيد الذكريات. لماذا هذا "الانحياز" للمكان. وهل بمقدور المكان أن يقدِّمَ صورة ‏عن ساكنيه؟ ‏

ما يُحسب لرواية "أفرهول" كما أرى، أنها -كغيرها من الروايات التي كان فضاؤها الجغرافي ‏مدينة عمّان- استشعَرَتْ قلق عمّان وارتباكها، وخوفها من القادم المجهول، فكان أنْ حَضَرَت ‏عمّان كشخصيّة حيّة بكامل بذخها وأناقتها وخوفها وهواجسها، لأنها سرّ الحكاية ولغزها. عمّان ‏التي كثيرًا ما أحَلْنا عليها خيباتنا وإخفاقنا، وعانت ما يكفي من الجحود وتنكّرَ لها أقرب الناس ‏إليها. أتمنى أن تكون "أفرهول" قد أتاحت لعمّان أن تتقدَّم ويعلو صوتها، وأن تدافع عن حقِّها في ‏الحياة والحُبّ والحريّة والنُّور، فتقف بصلابة في وجه مَن يريد امتصاصها أو التلاعب بها. ‏

 

يشي عنوان رواية "أفرهول" ببعض الأمل؛ فهناك عطب واهتراء، ولكن في المقابل ‏هناك احتماليّة -وإنْ ضئيلة- لنجاح الإصلاح. هل نحن محكومون بالأمل فعلًا؟ ‏

لم أكتب "أفرهول" بقصد الإثارة، بل كي أدافع عن حقي بغدٍ أجمل، وأستطيع القول إنها ‏نصٌّ مكثَّف الدلالات ومنوّع الرؤى، يحفر في عمق اللحظة الراهنة، ويفكِّك مدينة عمّان ‏ومشاهدها وبنيانها ليبحث عن إجابات لأسئلة قلقة وحائرة. ‏

فالرواية تتَّخذ من مدينة عمّان مسرحًا لأحداثها، فتسبر عبْر أصوات أربع شخصيّات ‏تناوبت عمليةَ السرد، جانبًا مهمًّا من حياة المدينة، وتعاين التبدُّلات التي طرأت عليها ‏وعلى ساكنيها خلال السنوات الماضية. وفي الوقت الذي تفكِّك فيه الرواية حاضرَ ‏المدينة؛ بارتباكها وأسئلتها وقلقها، تشير في الوقت نفسه إلى ملامح غدٍ طافح بالتوتُّر ‏والغموض والمجهول. ‏

وكلمة "أفرهول" التي اتَّخذتُها عنوانًا للرواية، تطلَق بالدارجة الأردنيّة على عمليّة ‏إصلاح محرِّك السيارة عندما يطاله الخراب، ويفقد قدرته على العمل بكفاءة، ويصبح ‏عندها بحاجة ماسة للإصلاح والتجديد. وهي تنسحب برمزيّتها ودلالتها العميقة هذه على ‏كثير من حيوات الناس وانتماءاتهم وأفكارهم، وعلاقاتهم الإنسانيّة، التي يصيبها الخلل ‏في مرّات كثيرة، وتغدو هي الأخرى بحاجة لشيء من العلاج وإعادة البناء. إنّ خوفي ‏على عمّان؛ المدينة والإنسان والحكاية، هو ما دفعني لكتابة "أفرهول".‏

 

تتبنى كتاباتك الموقف الشعبي/ الجماهيري من السلطات المستبدّة بأنواعها. هناك ‏ضغوط تعيشها المجتمعات، وهناك ممارسات تستهدف كرامتها ولقمة عيشها. هل هي ‏دعوة للنخبة لتستعيد دوْرَها في تنظيم الصفوف وتصدُّرها وصولًا إلى التغيير المنشود؟

لا بدَّ أن يتحلّى الروائي بالشجاعة. إن ظلَّ خائفًا من العيون التي تراقبه وترصد حركته وتعدّ عليه ‏كلماته، فلن يكتب شيئًا، فقائمة المتربِّصين به لا تنتهي، هناك السلطة وأدواتها، ورجال الدين ‏الخائفون من كل شيء، والقارئ العادي بمزاجه المتقلب، وهنالك أيضًا النقاد بميولهم واتِّجاهاتهم ‏المختلفة.. هناك مَن يرفض أن تتحدَّث عن المجتمع وسقطاته، أو تنبش في التراث، وهناك مَن ‏يغضب ويزمجر إن تمَّ الحديث عن الحريّة والمساواة، أو تمَّ الاقتراب من قضايا المرأة، أو العدالة ‏الاجتماعيّة أو الفساد أو الدكتاتوريّة..‏

إزاء كل هذه الحواجز التي ترتفع بوجهكَ كل يوم، هل المطلوب منكَ أن تُرضي الجميع؟ لقد قلتُ ‏أكثر من مرَّة إنَّ المأزق الذي يقع فيه كثير من الروائيين أنهم يخافون كتابة نصوص تُغضب ‏القرّاء، أو تتحرّش بهم، لكن على الروائي أن يعبر حقول الألغام المزروعة في طريقه دون خوف ‏أو تردُّد. ‏

 

إلى أيّ مدى تتقاطع سيرتك الذاتيّة مع سِيَر شخصيّات أعمالك. كيف تضمن النَّأي عن ‏الاشتباك، ومتى تقرِّر أن تُبرز ظلالكَ في النص؟

حياتي شيءٌ، وقصص شخصيّاتي الروائيّة شيءٌ آخر. القارئ ميّال بطبعة للتفتيش عن الروائي ‏بين سطور عمله، وعقْد المقارنات والبحث عن ملامح الكاتب في شخصيّات أبطاله، هذه حقيقة ‏يعلمها الروائيّون جيدًا، لذا يحاول الروائي قدر استطاعته أن يذيب شخصيّته الحقيقيّة، ويترك ‏لأبطاله حريّة التعبير عن هواجسهم وأفكارهم وأحلامهم، دون أن يقحمهم في مشاكله أو تعقيداته، ‏وكلما كان الروائي ديمقراطيًّا مع شخصيّاته، اتَّسم نصُّه بالمزيد من الانفتاح والرّحابة والتّنويع. ‏وبشكل عام، لا أحبِّذ أن يحمل شخوص أعمالي آرائي وأفكاري ومعتقداتي لأنَّني بهذه الحالة ‏سأجعلهم حاملين لفكرة واحدة لا أكثر. ‏

 

تَرى أنَّ الكاتب حين يشرع في الكتابة، لا يعلم كيف سيكون شكل عمله ومضمونه؛ هل ‏سيذهب نحو الواقعيّة التي تترك الأشياء على حقيقتها، أم سيمضي نحو عالم مُختلَق؟ ‏لكن هناك مَن يضع مخططًا لأحداث عمله الأدبي ومصائر الشخصيّات ومآلاتها قبل أن ‏يبدأ الكتابة. ما الفرق بين النَّهجَين؟ ‏

لا يوجد نص يولد في الفراغ، فكل رواية وقبل أن يشرع الكاتب في سردِها ولملمة خيوطِها، لا ‏بدَّ أن تكون قد نالت حظها الوافر من الصَّبر والتأمُّل. صحيح أنَّ كل شخصيّة تولد في مكان ‏قصيّ بعقل الروائي ومخيّلته، لكن نموّ هذه الشخصيّات وتطوُّرها والمسارات التي ستخطّها لنفسها ‏وتمضي بها، أمرٌ لا يقْدر الروائي على التحكُّم به، ولو فعل هذا لكان أقرب لِمَن يمسك خيوط ‏الدُّمى ويحرِّكها فوق المسرح بأصابعه، وهذا أمر يفقد الشخصيّات عفويّتها وحيويّتها. ‏

الرواية كما الحياة، بها مسارات ومصائر وأحداث وتفاصيل لا تنتهي، وأحيانًا كثيرة لا يمكن ‏التنبؤ بها، وليس أجمل من أن يرافق الروائي شخصيّاته ويمشي بجانبها ويصادقها، لا أنْ يخطَّ لها ‏مسارًا واحدًا ويرغمها على السَّير فيه.‏

 

هناك افتقار للمشاريع العربيّة الجادّة التي تعنى بالترجمة إلى اللغات الأخرى.. إلى أيّ ‏مدى ترى أنَّ عمليّة الترجمة ضروريّة وملحّة؟

لقد دعوتُ أكثر من مرَّة لتبنّي مشروع وطنيّ للترجمة، إذ لا يكفي أن يكون لدينا ‏نصوص جيدة حسب، بل يجب أن تصل للآخرين وتؤثِّر فيهم، خصوصًا أولئك الذين لا ‏يتشاركون معنا اللغةَ نفسها، وليس ثمّة وسيلة أفضل من أن يقدَّم النص الجيد للآخرين ‏وبلغاتهم، لذا تصبح ترجمة النصوص الإبداعيّة وفق هذه الرُّؤية، ضرورة ثقافيّة وطنيّة ‏ملحّة، وركيزة أساسيّة من ركائز استكمال الحلقة الإبداعيّة. ‏

للأسف، الروائي العربي يسير اليوم وحيدًا، دون أن يكون برفقته مشاريع داعمة ‏ومساندة له ولمسيرته الأدبيّة كمشاريع الترجمة أو التبادل المعرفي الإنساني والثقافي. ‏