الحراك الموسيقي.. ودوْر المؤسسات الثقافيّة
الحراك الموسيقي.. ودوْر المؤسسات الثقافيّة
د. نضال محمود نصيرات
رئيس قسم الفنون الموسيقيّة/ الجامعة الأردنيّة
needal_nusir@yahoo.com

شهد العقدان الماضيان اهتمام جلالة الملك عبدالله الثاني بنشر المشروع الثقافي في جميع محافظات المملكة التي شهدت حراكًا ثقافيًّا فنيًّا مميَّزًا، لهذا توجَّهت الثقافة الأردنيّة، وبشكل خاص الأدب والفن، إلى النُّضوج، وصاحَبَ هذا النُّضْج العديد من البصمات التاريخيّة التي وضعها عدد من نساء ورجالات الأردن الذين رفعوا اسم الفن الأردني عاليًا.
حَقَّقَ الأردن في الآونة الأخيرة مكتسبات ثقافيّة تمثَّلت في مشروعات ثقافيّة وفنيّة عديدة انعكست على المبدعين والحركة الثقافيّة بشكل عام، ونَقَلَ رسالةً حضاريّةً إلى العالم ارتكَزَت على منهجيّته ووسطيّته واعتداله وتقبُّله للآخر في إطار الاحترام المتبادَل.
ففي عام 2002، وعندما تُوِّجت عمّان عاصمة للثقافة العربيّة، تشكَّل لدى المثقفين والمجتمع بشكل عام الوعي نحو الانطلاق والإبداع وإطلاق الطاقات الإبداعيّة، إذْ شهدت المملكة نشاطًا ثقافيًّا على المستويات كافة، وهذا التطوُّر ساهم وبشكل كبير في دعم قدرات الإنتاج الثقافي، بحيث لم تعُد الثقافة مجرَّد حالة إبداعيّة، وإنَّما صناعة تروِّج لتاريخ الأردن وحضارته، وترسم أدواتها وحرفها اليدويّة تاريخًا يربط الماضي بالحاضر، وأصبح الإنسان يتطلّع إلى المستقبل لوضع إبداعاته في المجالات كافّة على الخريطة العالميّة.
ومن الناحية الموسيقيّة، فقد لاقت الموسيقى دعمًا كبيرًا ومباشرًا من جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين تمثَّلت بإطلاق مهرجان الأغنية الأردنيّة؛ وهو عبارة عن مسابقة على مستوى الكلام واللّحن والتأليف في الموسيقى العربيّة، ويتمّ منح الفائزين بهذا المهرجان جائزة تحت مسمّى "جائزة الملك عبدالله الثاني للإبداع الموسيقي" في خطوة هدفت إلى إعادة الاعتبار إلى الأغنية العربيّة الأردنيّة.
·الحراك الثقافي الموسيقي ومعيقاته
تعدَّدت فروع الثقافة وتنوَّعت، ومنها الفنون الموسيقيّة، والتغيُّر الذي يحصل على طبيعة النشاط الموسيقي يعتبر تغيُّرًا نوعيًّا وأساسيًّا؛ إذْ ينجم عن الإبداع الثقافي الموسيقي والاتِّصال مع الثقافات الأخرى والتفاعل معها، ويعتمد وبشكل مباشر على التغيُّرات الثقافيّة. وموسيقانا بحالة تجدُّد مستمرّ، وحراكها يحدُث من خلال الانتشار عن طريق وسائل الإعلام كالمذياع والتلفاز والسينما والصحافة والمجلات والمهرجانات الفنيّة والثقافيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الحراك الثقافيّ الموسيقيّ في الأردن يختلف في مدى استجابته لعمليّة التغيُّر الثقافي، فعوامل التغيير ليست على درجة واحدة في التأثير على المجتمع، وإنَّما هناك اختلاف بين فئات المجتمع في مدى تقبُّل هذه العمليّة، فبعضهم يستجيب للتغيُّر بدرجة واسعة وعميقة، وبعضهم الآخر يُظْهِر مقاومة شديدة له، ممّا يؤدّي إلى ضيقِه وسطحيّة أثرِه، وهذا الاختلاف يعود إلى وجود عوائق مختلفة وعديدة، لعلّ أهمّها في هذا السياق العوائق الثقافيّة التي تؤثر وبشكل مباشر على الفكر الإنساني.
·الوسائل السمعيّة البصريّة والمهرجانات
ودَوْرها في الحراك الثقافي الموسيقي الأردني
تلعب الوسائل السمعيّة البصريّة بشكل عام، والمهرجانات الفنيّة بشكل خاص، دورًا مهمًّا في خلق حراك ثقافي موسيقي، لكنّها في الوقت نفسه يمكن أن تكون مناوئة للثقافة الموسيقيّة؛ بما يقدِّمه بعضها من مضمون لا يرتقي بالذائقة الجماليّة للمُتلقّي الأردني والعربي. ولكي نصل إلى حالة من التنمية الثقافيّة والحراك الموسيقي النَّوعي، ينبغي التدقيق في نوعيّة البرامج الموسيقيّة العربيّة التي تقدَّم وتؤثِّر على نطاق المُشاهدة، والنَّظر في إمكانيّة تطوير تعليم الاستعمال الثقافي لهذه الوسائل وتوجيهه، وتحديدًا في ما يتعلّق بالمضمون الخاص للموسيقى، في عمليّة انتقاء لنوعيّة البرامج المقدَّمة ليكون التأثير موجَّهًا لخدمة الموسيقى من أجل حمل الرسالة والهويّة العربيّة ونشرها بفعاليّة من خلال الفضائيّات المنتشرة الآن على نطاق واسع لدى الجمهور.
كذلك، ينبغي العناية باختيار مضامين المهرجانات الفنيّة بحيث تكون موجَّهة لعرض النتاجات الموسيقيّة، وانتقائها بما يساهم في الاطِّلاع على تجارب الآخرين والاستفادة منها في جميع النواحي الفنيّة والخصائص والسمات الموسيقيّة الخاصة بالأردن. وأيضًا الاهتمام بوسائل الاتصال الجماهيري الأخرى التي تعطي إمكانيّة حقيقيّة لتنمية الثقافة الموسيقيّة، وهذا يعتمد وبشكل مباشر على التمويل والتخطيط للعمل الثقافي.
·المؤسسات الثقافيّة الأردنيّة ودَوْرها في الحراك الثقافي الموسيقي
أصبَحَت المؤسسات الثقافيّة في الأردن مظلّة تدعم الفنانين والمثقفين، وبالأخص وزارة الثقافة التي أقرَّت العديد من المشاريع الثقافيّة والتي بلغ عددها 31 مشروعًا ثقافيًّا وفنيًّا يقوم على إدارتها فنّانون ومثقفون في مختلف محافظات المملكة، ومنها مشروعات تطبَّق لأوَّل مرَّة في المملكة والعالم العربي مثل مشروع المدن الثقافيّة الذي بدأ في محافظة إربد عام 2007. ولهذه المؤسسات دَوْرٌ بارزٌ في تحقيق التنمية الثقافيّة عبْر الدعم المالي لبعض المشاريع الثقافيّة، أو عبْر تبنّي إقامة أنشطة ثقافيّة بشكل مباشر، ولا سيّما في حقل الموسيقى العربيّة.
·وزارة الثقافة
من ضمن مكوّنات وزارة الثقافة الأردنية "مديريّة تدريب الفنون" وتتألّف من أقسام عديدة منها قسم الموسيقى الذي يقدِّم دورات تدريبية مجانيّة للمواطنين في العزف على البيانو والجيتار والعود والكمان والناي، والإيقاع، ولمدّة عامين، يمنح بعدها المتدرِّب شهادة مصدّقة من الوزارة. وقد تخرّج في هذه الدَّورات مئات المتدرِّبين على مدى العقدين الماضيين.
ومن منجزات الوزارة مشاركتها في العديد من المهرجانات الدوليّة نذكر منها: مهرجان البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا، ومهرجان جرش للثقافة والفنون، ومهرجان نقابة الفنانين الأردنيين، ممّا ساهم في خلق حراك موسيقي عربي ودولي فاعل.
وعندما تمَّ إعلان عمّان عاصمة للثقافة العربيّة عام 2002، وفي ما يخصّ جانب المهرجانات، فقد شهدت المملكة العديد من النشاطات التي نُفِّذَت على مدار العام وبنجاح ملحوظ، وكان من بين نشاطاتها الأيام الموسيقيّة العربيّة الشعبية والتي تضمَّنت حلقات ودراسات نقديّة موسيقيّة، وحفلات موسيقيّة لفرق عربيّة ومطربين عرب ومحليّين، بالإضافة إلى إقامة المهرجان الثقافي الأردني الذي كان محفّزًا للثقافة الفكريّة والفنيّة، فقد تضمَّن مسابقات في العزف والغناء والتلحين؛ تمخَّضت عنها مجموعة من المبدعين الشباب الذين أصبح لهم -في ما بعد- دورٌ كبيرٌ في المشاركة في المحافل الدوليّة والعالميّة، وكان من بين المهرجانات التي أقيمت مهرجان الأغنية العربيّة ومهرجان الأغنية الأردنيّة.
وفي هذا السياق، أقرَّت وزارة الثقافة الأردنيّة ولأوَّل مرَّة في عام 2008 أحد أهم المهرجانات الثقافيّة الأردنيّة وهو "مهرجان الأردن" الذي ينقل خطاب الدولة الأردنيّة إلى العالم، وشاركت به 45 دولة ضمن فعالياته المختلفة ومنها الموسيقيّة. وتجدر الإشارة إلى المشاركة العربيّة من خلال "الأيام الثقافيّة العربيّة"؛ حيث شاركت معظم الدول العربيّة بتقديم نماذج حيويّة لمنظوماتهم الثقافيّة ومنها الموسيقيّة العربيّة، مؤكدين بذلك على حراك ثقافي موسيقي مبني على التلاحم والتواصل العربي بأهمّ عناصره وهو ثقافة الشُّعوب العربيّة. وكان الهدف من هذه الفعاليات تعريف المواطن الأردني والعربي بما تزخر به عمّان من تراث متنوِّع وحركة ثقافيّة موسيقيّة، ودعم الإبداع والموسيقيين الأردنيين، وتعزيز التَّفاعل الثقافي الموسيقي بين الأردن وثقافات الشعوب وحضاراتها.
وعندما أصدَرَت وزارة الثقافة تعليمات المهرجانات الثقافيّة/ مدن الثقافة الأردنيّة لسنة 2007، كان من أهدافها: تفعيل الحراك الثقافي في المدن الأردنيّة، والإعلاء من شأن النُّخَب الإبداعيّة ودَوْرهم في المجتمع والدولة، وجعْل الفعل الثقافي وسيلة ترفيهيّة ومعرفيّة واقتصاديّة في حياة المواطن. وتضمَّنت فعاليات احتفاليّة وزارة الثقافة بالمدن الثقافيّة إقامة مهرجان ثقافي فنّي كبير وعروض موسيقيّة في كافة المدن الأردنيّة ومسابقات في الموسيقى العربيّة. ·الدائرة الثقافيّة التابعة لأمانة عمّان الكبرى
تقوم أمانة عمّان الكبرى، متمثِّلة بدائرتها الثقافيّة، بالتَّعاون والتَّواصل مع مختلف الجهات لتحقيق تنمية ثقافيّة شاملة. وقد تأسَّست "الدائرة الثقافيّة" في أمانة عمّان الكبرى عام 1977، ويتكوَّن الهيكل التنظيمي للدائرة من عدة أقسام مثل قسم الدراسات والنشر، وقسم الفنون، وبيت الفن، وفرقة الأمانة للفنون الشعبية....إلخ، وتتلخَّص مهامها في إقامة النشاطات الثقافيّة على اختلاف أشكالها وأنواعها ومنها الفنون الموسيقيّة العربيّة، واشتملت على قاعات ومراكز ثقافيّة وحدائق عامة وشارع للثقافة بالإضافة إلى المدرَّج المكشوف في حدائق الحسين والذي يتَّسع لما يزيد عن 5000 شخص، ويُستخدم لإقامة الاحتفالات والمهرجانات الموسيقيّة الشعبية والغنائيّة في المناسبات المختلفة. وقد أخذت الدائرة على عاتقها إقامة عدد كبير من المهرجانات الغنائيّة مثل مهرجان الفرق الفنيّة الشعبيّة، بالإضافة إلى دعم المهرجانات الفنيّة والثقافيّة التي أقامتها وزارة الثقافة في الفترة (2000- 2005) مثل مهرجان أغنية الطفل ومهرجان عمون وغيرها.
وتجدر الإشارة إلى أنَّهُ تمَّ اعتماد هذه الدائرة كمكتب رسمي لجائزة عبدالله الثاني ابن الحسين للإبداع، وهي جائزه أردنيّة عربيّة تمَّ اعتمادها للمرَّة الأولى عام 2002 بمناسبة إعلان عمّان عاصمة للثقافة العربيّة، وممّا تهدف له الجائزة بناء تنافس خلّاق بين المبدعين الأردنيّين والعرب في مختلف الحقول والتي من ضمنها الفنون الموسيقيّة العربيّة. وقد دأبت أمانة عمّان ومنذ العام 2000، وبالتَّعاون مع المراكز الثقافيّة التابعة لعدد من السفارات العربيّة والأجنبيّة، على إقامة الاحتفالات والمهرجانات الموسيقيّة من مختلف الأنواع، وذلك في إطار بناء منظومة من التَّعاون والتَّبادل والحراك الثقافي مع مختلف شعوب العالم.
·مهرجان جرش للثقافة والفنون
يُعتبر مهرجان جرش للثقافة والفنون من أهمّ المهرجانات على الساحة العربيّة والعالميّة في تنشيط الحراك الثقافي بوجه عام، والحراك الموسيقي بوجه خاص، فمنذ نشأت فكرة المهرجان عام 1981 أصدَرَ جلالة المغفور له الملك الحسين كتابًا رسميًّا بتعيين لجنة وطنيّة عُليا للمهرجان لرسْم سياسته والإشراف على تنفيذ نشاطاته السنويّة على أفضل وجه.
وكان المهرجان قد رسم أهدافًا استراتيجيّة؛ منها إنشاء جسر للاتِّصال الثقافي بين الأردن والأقطار الأجنبيّة في إطار التبادل الثقافي، وذلك عبْر استضافة الفِرَق الموسيقيّة الأجنبيّة للمشاركة في فعاليّات المهرجان.
وقد انفتح المهرجان على المؤسسات الثقافيّة والفنيّة داخل الأردن، وفي الإطار العربي تمَّت توأمة المهرجان مع مهرجان قرطاج وبصرى والشام وجرش والتنسيق مع مهرجان بابل العراقي ومهرجان القاهرة الثقافي والفنّي. وعند الحديث عن الحراك الثقافي الموسيقي عبْر السنوات الماضية، فقد استضاف مهرجان جرش المئات من الفرق الموسيقيّة العربيّة والغربيّة بهدف إعطاء المهرجان حقه في التنمية الثقافيّة في الأردن والعالم العربي والغربي، ومن أجل الحفاظ على الموسيقى الأردنيّة وتطوُّرها، والاطِّلاع على تجارب الشعوب المختلفة لتساهم في بناء حراك ثقافي فني موسيقي على المستوى المحلّي والعربي والعالمي، وإيجاد سُبُل حقيقيّة لدعم هذا المُنْتَج الثقافي الموسيقي وتوثيقه، وحمايته من التَّحريف أو التدمير، وذلك عبْر تكريس الأداء الفنّي العربي الأصيل عند تقديم الموسيقى الأردنيّة والعربيّة، والعمل على رفع مستوى التذوُّق الموسيقي لدى أفراد المجتمع الأردني على وجه مخصوص، وأفراد المجتمع العربي بشكل عام. ولا يزال هذا المهرجان يحظى برعاية واهتمام ملكي إلى يومنا هذا.