لماذا بكى "لي كوان يو"؟

 د. سلطان الخضور
ناقد وباحث أردني

"لي كوان يو" هو صانعُ نهضة سنغافورة الحديثة، ومن مواليدها عام ألف وتسعمئة وثلاث وعشرين، من أبوين صينيين عاشا في سنغافورة من القرن التاسع عشر، وبغض النظر عن موقفنا من سياسات الأشخاص ومن مواقف الدول، نستطيع التأكيد أنَّ " لي كوان يو" هو صانعُ " سنجافورة" الحديثة كدولة لها وزنها وتأثيرها ومركزها بين دول العالم.
أمَّا الذي جعل" لي كوان يو" يجهش بالبكاء، هو أنَّ الرجل في حينه، لم يستطع إخفاء الحرقة التي اشتعلت في قلبه حين عاد إلى موطنه، بعد أن أكمل دراسته، فكان لا بدَّ أن تسيل الدموع من عينيه، ويضع رأسه بين كفيه وهو يرى الوضع المأساوي الذي يلفُّ كل بقعة من بقاع الجزيرة التي ينتمي إليها، وكان لا بدَّ أن يسمع كلُّ من حضر من الإعلاميين صوته، وهو يبكي؛ لأنَّه كان يبكي بصوتٍ مرتفعٍ لم يستطع " لي كوان يو" إخفاءه.
الدمّل الذي كان يعتمل في الصدر انفجر منذ اللحظة الأولى لوصول صاحب الإرادة ومفجّر ثورة التّغيير في بلاده، حيث تجدّد ما اعتمل في الرئتين من هواء، ودخلت كميات كبيرة من الأوكسجين المنقّى إلى رئتيه، لكن كل ذرة منها كانت مصبوغة بلون العزيمة والإرادة والتصميم على التغيير بدافع الغيرة على الوطن.
لم يبك "لي كوان يو"، العائد من الدراسة في الخارج، وتحديدًا من جامعة كامبردج في بريطانيا حيث درس القانون، من فاقةٍ أصابت ذاته، أو من مرضٍ ألمّ به؛ بل بسبب شعور الانتماء العميق الذي استوطن عقله، والأحاسيس المتألمة التي كانت تشدّه باستمرار لعمل ما يمكنه عمله لخدمة وطنه الذي أحب.
هذا الذي شدَّ مآزر النجاح والعزيمة والإرادة والمثابرة، وشمّر عن ساعديه. هذا المواطن العصاميّ الذي أدرك معنى المواطنة، والذي ترشّح فصار رئيساً للوزراء في سنغافورة، فحكم وعدل، ونحن ندرك معنى العدالة ومدى فعاليّة نتائج تطبيقها، وهو الشخص الذي أظهر نجاحًا منقطع النظير، وعلَّم العالم أنَّ الإرادة هي صانعة التغيير، وأنَّ المقتل الحقيقي للشعوب هو الاستسلام للواقع، هذا الذي حلم به " لي كوان يو"؛ فحقّق الحلم واستطاع انتشال بلاده من القاع ليصل بها إلى القمة، والذي استطاعت بلاده في وقتٍ قياسيٍّ أن تكون محورًا عالميًا مهمًّا في دنيا الاقتصاد.
لم يكن بكاؤه لسبب شخصي، أو بدافع الحسرة على موقف سبب له أزمة لا يستطيع الخروج منها؛ إنَّما كان القلق على مستقبل الجزيرة التي كانت عشّه الذي رأى النور فيه، حيث معاناته خلال سيطرة اليابان على المنطقة خلال الحرب العالمية الثانية، إذ بُنيت شخصيته منذ صغره على رفض الخضوع والاستسلام أمام الأجنبي، ورفض فَكَرة الظلم والاستعمار والمستعمرين.
كان ذلك عام ألف وتسعمئة وخمس وستين، عندما تُركت سنغافورة لينهشها الفقر، ويذوي جسدها ويتهالك أمام العالم بسب الفساد الذي تفشّى فيها بشتى أشكاله وصوره، حيث وصفت في حينه بأنَّها من أخطر الأماكن في العالم بسبب الفلتان الأمني المروّع الذي نتج عن هذا الفساد، وباتت تشتهر بكثرة الجرائم، وبات سكانها عرضة للنهب والسرقات، وبات الناس يتقنون هدر المال العام، ويحفظون حكايات اللصوصية وعدم الانتماء عن ظهر قلب.
بكى " لي كوان يو" على إثر قرار ماليزيا التخلي عن بلده للأسباب التي ذكرت سابقًا، والتي كانت قد انضمت اليها عام ألف وتسعمئة وثلاث وستين بعد أن رحل عنها المستعمر البريطاني وتركها في ظلام دامس وفوضى عارمة، وجهل مستطير. وهي الجزيرة الفقيرة محدودة الموارد، حيث كانت تشكل عبئًا على ماليزيا.
لم يكن أهلها البالغ عددهم خمس مليون ونصف من البشر يرتوون حتى من الماء، ولم تكن شوارعها لتخلو من النفايات وبقايا الطعام ومخلفات الصرف الصحي، بل كانت القذارة هي السّمة الرئيسة التي تميّز سطح الجزيرة.
وقد كان تخلي ماليزيا عنها لذات الأسباب، وخوفًا من اختلال تركيبتها السكانية، إضافةً لخشيتها من المدِّ الشيوعيّ في ذلك الوقت كونها ذات أكثرية مالاوية مسلمة، واستجابة لطلب المثقفين السنغافوريين ورغبتهم بالانفصال، وظهور صدامات عرقية بينهم وبين الصينيين، كان السبب الرئيس للقلق الذي اعترى" يو" وجرح قلبه لدرجة البكاء المعلن، ومما يروى عنه أنّه كان يطمح لبقاء سنغافورة في وحدة مع ماليزيا، إلا أنَّ ذلك لم يكن، وكان لا بدَّ لماليزيا أن تأخذ قرار التخلي عن سنجافورة، وتتركها لمستقبل مجهول من الواضح أنَّ معالمه ستكون مؤلمة، وهي اللحظة التي جعلته يجهش بالبكاء. فهل تُترك الجزيرة جثةً هامدةً لتنهشها الوحوش؟
بكى" يو " لأنَّه كان إنسانًا حالمًا يريد أن يرى بلده تتخلص من وضعها المتردي، وترتفع برأسها لتنافس أعلى اقتصاديات العالم مرتبةً، فتحوّلت الدموع إلى حبرٍ يكتبُ تاريخًا ويصنعُ مجدًا ويسهمُ في التقدّم ويرتقي بسنغافورة، لتقيم مع مثيلاتها من الدول المتقدمة على صعيد البناء والمال والأعمال، ولتصبح سيدة جميلة يعشقها كل من يراها، فهل كان لدى " يو " خلطة سحرية استمتع السنغافوريون بمذاقها، أم ماذا فعل؟
تحوّلت إحدى قطرات دموع " يو" إلى مجموعةٍ من القوانين التي فُرضت بقوة وعدالة على الجميع، وتحقّق النصر للدولة العادلة، ووضع الرجلُ المناسب في المكان المناسب، وبات القومُ بحكم تطبيق القانون بعدالة على الجميع وبحكم صرامته وتطبيقه بحزم وعزيمة، منضبطين في سلوكياتهم.
ارتقى القوم بسلوكهم وبأخلاقهم، فصار حتى البصق في الشارع محرم لديهم ويعاقب عليه القانون، ولا يقطعون الشارع إلا من الممر المخصص للمشاة، وصاروا يحرصون على نظافة الأماكن العامة وكأنَّها ملكية خاصة، وصار النظام سيّد الموقف، والعدالة محط اهتمام الجميع، حتى تمكن صاحب الفكر من تغيير نمط الفكرة، وحوّل وجه بلاده الذي كان بائسًا إلى وجه دائم الابتسام، ولتُعرف على مستوى العالم ببلد القانون. وباتت سنغافورة تنام بهدوء ولم يعد أهلوها يحلمون أحلامًا مزعجة، بل بات لحافهم طويلاً فيمدون أرجلهم، وينامون بأمن وأمان لا يخشون الوحوش سواء كانت وحوش الغابة من الحيوانات، أو وحوش المنازل من البشر.
وفي ظلِّ ما ذكرنا لم تكن مهمّة "يو" سهلةً عندما تحوّلت دمعة أخرى من دموعه وانسابت على شكل فكرة تجلّت بالالتفات للتّنمية البشرية، فكان المواطن هو الهدف، حيث أدرك " يو" مقولة أساسها أنَّ النهضة بالوطن لا تكون إلا من خلال النهضة بالمواطن، فتعلم المواطن وتدرب، وابتُعث الكثيرون للخارج للدراسة والبحث، واستُغلت الكفاءات المحلية للمساهمة في الرّقي والنّمو والتّقدم على الصعد كافة وفي شتى المجالات، وتم التّركيز على المناهج التّعليمية وبناء المعلم كقاعدة صلبة تبنى عليها الأجيال، وبات المواطن السنغافوري مثقفًا، متعلمًا ومؤهلاً ليس للبناء فقط؛ بل لمحاربة كل اشكال الرشوة والفساد والواسطة والمحسوبيّة ومناضلاً في سبيل التغيير.
لم تكن مهمة" يو" سهلةً، حيث وجد نفسه في جزيرة صغيرة لا تتعدى مساحتها السبعمئة وتسعة عشر كيلومترًا مربعًا، وسكانها متعددو الأعراق واللغات والأديان، ما بين صيني وهندي ومالاوي، ينطقون أربع لغات هي الإنجليزية والصينية والماليزية والتاميلية، ويدونون بالإسلام والبوذية والمسيحية والطاوية والهندوسية واللادينية. لكنَّه استطاع تحويل التهديدات إلى مكتسبات، فاستغل دفء المكان المداري الرطب ومعقولية درجة الحرارة في معظم شهور السنة، وإطلالته على المحيط الهندي من جميع الجهات، وعدم وجود حدود برية، ووجوده على مضيق " ملاكا" الذي يفصل ماليزيا عن جزيرة سومطرة الأندونيسية؛ لتكون ميناء عالميًّا ذا موقع استراتيجي مهم لدول شرق آسيا وللعالم، جعلها متنوعة الثقافات وحلقة وصل لهذه الدول مع أوروبا وأمريكا، ومحطة لشحن البضائع للعديد من الدول لا سيّما استراليا والصين، وموطنًا للتكنولوجيا الحديثة، ومحطة مهمة في عالم المال والأعمال والاستثمار.
ولم يكن " لي كوان يو" باني النهضة السنغافورية لينجح لو لم تتوزع عبراته على كل مساحات الوطن، فغرس معنى المواطنة، وفرش حقول التنمية بتراب مجبول بالعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وأخمد النزاعات العرقية التي كانت تعصف بالبلاد، وتوحدت لغة الجميع، وصار لسان حالهم يلهج بلغة واحدة تنطق باسم سنغافورة، حتى تمكّن من العمل على استثمار الموارد البشرية والمادية المتاحة. وبرزت سنغافورة كمورد اقتصادي مهم، وباتت العين تتجه لتحويلها من قرية للصّيادين إلى ميناء بحري عالمي متميز وضروري للكثير من الدول المجاورة، وصارت محجًّا للسّفن القادمة من الشّرق ومن الغرب من ستمئة ميناء في العالم، فميناء جوي يرتبط مع معظم دول العالم، وما كان ذلك ليكون لولا استثمار العقل البشري الذي أدرك قيمة الموقع فخطط ونجح.
وكانت دموع "يو" فيها من الإلهام ما يفرد على قطاع النقل والمواصلات؛ فتوسعت سنغافورة في شبكة المواصلات، وحدّثت هذه الشبكة، وبات الوصول إلى العمل في الوقت المحدّد متاحًا وسهلاً وبأرخص التكاليف، في حين رُفعت عائدات الجمارك على السيارات؛ فتخلى الناس عن وسائل النقل الخاصة إلى وسائل النقل العامة، ودارت عجلة الإنتاج بأقل كلفة في الوقت والجهد والمال، ونهض القطاع الصناعي والتجاري والزراعي متكئًا على التّدريب وعلى قطاع المواصلات.
وكان القطاع السّياحي من روافد الاقتصاد السنغافوري، فقد تساوى عدد السياح مع عدد السكان أي بمعدل خمسة ونصف مليون سائح سنويًّا، يجدون الفندقة الرّاقية والخدمات على أعلى المستويات، والالتزام بالوقت والجو الصيفي الذي يسهّل الحركة ويسهّل على السائح قضاء فترة زمنية تتّسم بالرّاحة والطّمأنينة والاستمتاع بالمناظر الخلّابة والمباني الشّاهقة، ومتعة التسوق في واحدة من أنظف مدن العالم ومن أكثرها جمالاً، وتحولت بيوت الفقر إلى ناطحات سحاب بأشكال هندسية حديثة وباتت أرضها حديقة غناء تسرّ النّاظرين.
ويبدو أن" يو" وهو يبكي كان الموقع السياحي المهم يجول في خلده، فالتفت إلى كيفية استثماره، فقد أسهم القطاع السياحي كغيره من القطاعات في عملية النهوض التي انعكست بشكل مباشر على دخل الفرد ليرتفع إلى أربع وستين ألف دولار سنويًّا. فبرزت المعالم السياحية الحديثة مثل متحف سنغافورة الوطني، و"فوت كاننغ" و"الميريليون بارك"، وحدائق الطيور والنبات والحيوانات، و"نايت سفاري"، وحدائق الخليج، وجزيرة "سنتوسا".
وبتشاركية القطاعات انحدرت نسبة البطالة إلى ثلاث بالمئة واستقرت لتصبح من أقل النسب في العالم، بل تحوّلت نسب البطالة إلى فرص للنجاح، وانقلبت الأمّيّة إلى أدوات للتكنولوجيا الحديثة تستخدمها يد واثقة لم تعد ترتجف من القهر أو من الجوع أو من الخشية على مستقبل كان الظّلام سمته الأساس.
بدموع " لي كوان يو" خطّت سنغافورة طريقها لمستقيل واعد؛ لتتبوأ المركز الإنمائيّ الرابع في العالم، والخامس من بين أغنى دول العالم في احتياطي العملات الصعبة، والمركز الثالث كأكبر مصدر للعملات الأجنبية.
هل كانت الصُّدف أم أنَّ الدموع جُبلت بها الأفكار؟ قطعًا كانت دموع الألم تختلط بدموع الأمل، وخلفت وراءها بعد النظر، وجذبت الكل السنغافوري للمشاركة بالمسؤولية وصناعة القرار، وسار الكل في هذا المسار، وتطلّع الكل لمستقبل مبتسم. شبكة عنكبوتية خارجية بحرية وجوية، وشبكة طرق داخلية، وبنية تحتية وتكنولوجيا متطورة وحوافز للقطاع الخاص، مع العزيمة والإخلاص، جعلت من سنغافورة نموذجًا صناعيًّا وتجاريًّا وسياحيًّا يُحتذى.
وقد مات الأب الروحي لسنغافورة وباني نهضتها عام ألف وتسعمئة وخمسة عشر، عن عمر يناهز الواحد والتسعين عامًا، بعد أن تولى منصب رئيس الوزراء ما ناف عن الثلاثة عقود.
المراجع
إسراء ربحي – معلومات عن سنغافورة
سناء الدويكات – أين تقع سنغافورة
الشرق الأوسط – عن مؤسس سنغافورة الحديثة
مدونات البنك الدولي – ثلاثة عوامل حولت سنغافورة إلى مركز عالمي.