الانتماءُ للإنسانيّة طريقٌ للترقي

د. مهند مبيضين
أكاديمي وباحث أردني
يقول أبو العلاء المعريّ:" وينبغي لمحبِّ الكمال أيضًا أن يعوّد نفسه صحبة الناس أجمع... فإنَّ الناسَ قبيل متناسبون، تجمعهم الإنسانيّة وتحلّهم قوّة إلهيّة هي في جميعهم، وفي كلِّ واحدٍ منهم، وهي النفس العاقلة، وبهذه النفس صار الإنسانُ إنسانًا(...) وينبغي لمحبِّ الكمال أن يجعل همّته فعل الخير مع جميع الناس ويتحرز من فعل الشر. فإنَّه إذا حاسب نفسه على أن من يفعل الشر فإنَّما يفعله لخير يعتقد أنَّه يصل إليه بذلك الشر...".
ما يبوح به النصُّ أعلاه، جليٌّ واضحٌ، بأنَّ الاجتماعيّ الإنسانيّ في الملة الإنسانيّة هو الطبع، وأنَّ فعل الخير مطلوب، والأهم في كمال البشرية صُحبة الناس، وقد أفاض المعريّ في بحث مسألة النفس العاقلة التي صيّرت الناس بشرًا، ولعلّ ما يؤكد حسن طالع مجلة "أفكار" لهذا العدد الذي وضع جهدٌ كبيرٌ فيه، لدراسة ومراجعة تراث أبي العلاء المعري لا من حيث نصوصه أو منجزه، بل من خلال الوقوف على مسيرة وتجربة أحد أهم الباحثين والشارحين لأفكار أبي العلاء المعري وهو الراحل الدكتور سحبان خليفات.
ومن حظِّ قراء مجلة "أفكار" في هذا العدد الجديد، أن يطالعوا وجبةً ثقافيّةً دسمة، وأن يعاينوا أبوابًا متعددة من الفلسفة والفكر وإبداع النص في المكان، وتجليات الشعر والقصّ، ولكن الأهم في هذا العدد، وقفُ الطيبين على من مروا من علماء الوطن والأمة، والوفاء للذوات الكبار، وتقدير العقل، وهو ما تجلّى في ملف العدد الذي اختصّ بالراحل الكبير الأستاذ الدكتور سحبان خليفات، أحد روّاد البحث والدرس الفلسفيّ في الأردن، الذي نذر بواكير جهده البحثيّ في التنقيب في الفكر الفلسفيّ العربيّ وتجليات الفلسفة العربيّة، بالإضافة لانفتاحه على فلاسفة الغرب.
وقد بذل- رحمه الله- عنايةً خاصة وتعلّقًا كبيرًا بفلسفة أبي العلاء المعري، وحقّق ونشر رسال أبي الحسن العامري وشذراته الفلسفيّة، وحين نتحدث عن سحبان خليفات نتحدث عن دور المثقف في مجتمعه وعن أدواره المختلفة، وعن تجليات المكانة والموثوقيّة العالية التي منحها لطلبته.
وبالعودة لأفكار المجلة والمشروع المستمر لوزارة الثقافة، فهي تؤكد دومًا أنَّ العمل المؤسسيّ في الثقافة يجدي خيرًا كبيرًا، ويحقّق الأهداف وينجز المهمات، وقد شرفتنا هيئة التحرير بتكليف الكتابة لافتتاحية العدد( 414 ) الذي جاء ممتلئًا وغنيًّا في ملفه ودراساته وإبداع النصوص. هنا نجد حضور المبدع الباحث مع الشاعر والقاص والمفكر، وهكذا فقد جاء العدد بحلة جميلة وتبويب متسق ومواد غاية في الأهمية.
"أفكار" منبرٌ للإبداع والتثقيف المشمول بدعم ورعاية وزارة الثقافة؛ وهو انتصارٌ كبيرٌ للزمن الثقافيّ ولثقافتنا العربية بعامة والأردنية بخاصة، وانتصار للقامات العلمية التي اعتادت "أفكار" أن تحتفي بها وبمنجزها المعرفي.
هل كان الراحل سحبان خليفات قاصدًا أن يعيدنا إلى بواكير الفلسفة؟ وأن يختار نماذج مثل ابن هندو وأبي الحسن العامري وأبي العلاء المعري ليقدم منجزهم الفلسفيّ للقارئ العربيّ؟ هل كانت الفلسفة سؤالاً مطروحًا على المجتمع كي يعيه بصيغ عديدة؟ ربما كلّ ذلك كان في وعي سحبان خليفات الذي مثّل سيرة الباحث الفلسفيّ الجاد بكلِّ مهنيّة وموضوعيّة والتزامٍ علميٍّ بالقيم الأخلاقيّة والمعرفيّة.
لقد جالت مواد هذا العدد في أسئلة الاهتمام المعرفي وتنوّعه عند سحبان خليفات، ولعلَّ الجهد المبذول في الملف كافٍ للإجابة عن الأسئلة السابقة التي طرحناها حول المنجز الفلسفي للراحل سحبان خليفات.
لعلّ المطروح اليوم ثقافيًّا على المشهد العربي هو أمرٌ كبيرٌ، وتحديات جمّة في زمن الذكاء الاصطناعي وفي زمن الحروب الجديدة التي تأخذ صيغة عابرة للدول لم تكن معهودة من قبل، وهنا يدور الحديث عن مستقبل الثقافة وأدوار المثقفين في مجتمعاتهم وفي مسؤوليتهم الأخلاقية تجاه السياسة، ولا أريد العودة هنا لطرح مسألة المثقف والسلطة، وإنَّما التذكير بقدرتنا على توفير الحماية الثقافية لأبناء جلدتنا من أهل الصنعة من أرباب القلم في أزمنة عربية صعبة في أكثر من قطر عربي.
نعم نحن في زمن عربي صعب، وفي زمن عالميّ يتصارع فيه الغرب بمعزل عنا، وكأنَّنا مجرد تابع متأثر بصراعاته وخياراته، وليس لدينا الحق في الحديث عن مصير الإنسانيّة وما يهدّدها، ولعلَّ هذا يتطلب من المثقفين العرب أداورًا جديدة في الـتأثير من خلال أمكنة الهجرة التي يعيشون بها، ومن خلال المسارات المفتوحة أمامهم، سواء عبر المؤسسات الوطنية، أو العابرة للدول، أو من خلال مؤسسات العمل الثقافيّ في المجتمع المدني.
للأسف اليوم تتراجع أداور الإعلام، وتخبو منابر وتصعد أخرى، لكن المهم تكوين شبكة اتصالٍ عربيٍّ ثقافيٍّ بين النخب تكون مدنية وغير حكومية لإعادة زيارة العقل الثقافي الرسمي والتأثير فيه لصالح المشروع الثقافي الوطني لكل بلد؛ المنسجم قطعًا مع مشروعنا الحضاريّ العربيّ، ومع القيم الإنسانيّة التي ترتكز إلى سؤال الحرية أولاً، والكرامة والعدالة والإحسان. وهو قطعًا ما تطالب به تعاليم الشرائع السماوية ورسالة الأنبياء عليهم السلام.
إنَّنا في زمنٍ حرج عربيًّا وإسلاميًّا وإنسانيًّا، ولا بدَّ من إعادة إحياء مفردات وعناوين طرحها مثقفون عرب أفذاذ مثل "الثقافة التي نريد" و"الزمن الثقافي" و"مستقبل الثقافة" و"النهضة العربيّة" على أن تكون إعادة الطرح مقصودة ومحدّدة الأهداف بما ينتهي بوثيقة خاصة بالتجديد الثقافي العربي المنشود لكي نحقّق ما دعا إليه أبو العلاء المعري من ضرورة فعل الخير والصحبة الخيرة التي تحدّد معالم الانتماء للإنسانيّة كطريقٍ وحيدٍ للترقي