- العمودُ الشعريُّ؛ مقبرةٌ دفنت تعدديّة الفضاء الشعريّ العربيّ وتنوّعه

غازي الذيبة
شاعر وباحث أردني
(1)
ما تزال قصائدُ "العمود" المدرجة على مدونة الشعر العربي الحديث، مسكونة بخفوت صوتها، برغم علوّه في الماضي، وما يزال هذا الشكلُ من الكتابة الشعرية، يمتثل لاكتماله بـ"الإرث"، وينأى عن "الحاضر"، ويغيب عن "المستقبل"، دائخًا في العماء، والتبرج ببلاغات سكّتها عملة "الموروث" والقعود فيه، وغلبت عليه استعاراته النمطية القادمة من الماضي.
إنَّه شكلٌ شعري، يصرُّ على الاحتماء بخلوده، ويعتقد بأنَّه صالحٌ لكل الأمكنة والأزمنة. لم يتفلت شعراؤه من النهل من نماذجه القارة، ولم يحركوا أي ساكن في بركته الراكدة. كل ما فعلوه، إنَّهم وضعوا القطار مكان الجمل، وتغنوا بالكهرباء بدل القمر.
قد يبدو هذا التوصيف مجحفًا بحقِّ الشعر والشعراء العموديين الحديثين، لكنَّه الأقرب إلى وصف حالتهم. فقد استقروا على ما استقر عليه شكل ومبنى قصيدتهم، وما غايره، ممنوع الاقتراب منه، أو لمسه، مغرقين في سلفية متطرفة، تذهب إلى تكفير من يخرج على "العمود".
منح هذا النمطُ الشعري قدسيّةً، مع أنَّ قوّاليه وناظميه، هم من مختلف الطوائف الإسلامية في بلاد العرب، تلك التي تكفر بعضها، وتستبيح دم بعضها، لكنَّها في القصيدة العمودية، تُغيِّب تلك الحساسيات الطائفية، ويصبح "النمط" بطلاً، يُمنع مَسُّه أو الثورة عليه.
والمثير للغرابة، أنَّ عقل شعراء العمود الحديثين، يصر على تغييب شعراء من الكار نفسه، كانت لهم إسهامات في الاختلاف مع هذا النمط الشعري من ناحية المعنى، معتبرينهم مجدفين، وخارجين على السلف، فأبو نواس مثلاً، الذي فهم الشعر بعيدًا عن منطقة وعي النمط له، وذهب إلى أقصى المناطق الحرجة في القول الشعري، محاولاً القطع مع الماضي، بهدم الطللية مثلاً، ووجّه بالرفض، ووضع تحت المجهر في زمنه، أمَّا في زمننا، فقد غيّبه الدرس الشعري العربي الأكاديميّ، وتعامل معه بحذر وانتقاء.
(2)
عاش ناظمو القصائد "العمودية" في ظلال ديمومة التراث، باعتباره "حي لا يموت". وهذه الأخيرة، عبارة مشحونة بقدسيّة لا نهائيّة، ما دفع بعض الماكرين في الأدب العربي، إلى ربط الشعر بشكله العمودي ضمن هذا المعنى، أي بالحياة الأبديّة، وهذه خديعة مصفاة، تمنع أي اقتراب من نقض هذا "النمط"، لأنَّه وضع في مصاف المقدس اللانهائيّ.
لم ينطو التفكير بالتراث العربي على قراءات مغايرة، تفكّكه، وتعيد قراءته، وتبتكر مسارات بحثية، تحاول فهم آليات إنتاجه، وكيفية وصوله إلينا. بقي الاعتماد على "عصر التدوين" كفاصلة نهائية للقول بهذه القدسية، قاطعًا بذلك أي مسافة يمكن أن تأتي بما هو مختلف، أو أن تقترب من وصف التراث، بعيدًا عن صفاته المقدسة.
في القرنين التاسع عشر والعشرين، احتدمت التساؤلات حول القصيدة العمودية، ومجرد المساس به، اعتبر مغامرة، وكانت المحاولات الحيية لإعادة قراءته في سياق قراءة التراث، مهمة شاقة، بيد أنَّ تلك المحاولات كانت أساسًا جيدًا للخروج على "تراث العمود"، واجتراح "أشكال جديدة" للقصيدة، واستخدامات مغايرة للشعر.
كل ذلك الاحتدام، امتثل لتخليق شكل ومبنى مختلفين للقصيدة العربية، لكنَّه استُلَّ من فضاء الشعر الغربي، بخاصة الفرنسي، واعتبر المغامرون الأوائل، أنَّهم أنتجوا شكلاً جديدًا في الشعرية العربية الحديثة، مغفلين أنَّ هذا الشكّل، لم تنتجه تلك الشعرية، فهم جلبوها إمَّا ترجمة أو تأثرًا مما ترجم، وغرقوا في نمطية ما أنتجوه، فأضحت مهمة التغيير لديهم شبه منتهية، أنتجوا على هامشها تنظيرات، بدت في حينه سريعة، ثم أضحت تجتهد في تبرير محاولاتهم التغييرية تلك.
وبعد أن نقلوا نموذجهم مترجمًا، وتأثرنا بالترجمة، ووقعنا في فخاخها، بقي وعينا ناقصًا لفكرة التغيير والاختلاف.
صحيحٌ أنَّ جهدهم كان بمنزلة الثورة، تداعت بعدها الحركات المتمردة على الشعرية السائدة، لكنَّه ما يزال يحتّم علينا أن نذهب إلى أبعد من القعود في أثر الترجمة، وأن نمضي في البحث إلى أقصاه، لاكتشاف منابع شعريتنا وأشكالها وفضاءاتها العربية الأولى .
كما علينا ألا نغيِّب، أنَّه في مقدمة هذه المحاولات، اعترى أولئك المغامرون الحياء في الاختلاف، فمتحوا من أساس الشكل القار للقصيدة العموديّة، وهو ما رأيناه في قصيدة التفعيلة، التي يعد جذبها للشعر العربي، فعلاً مراوغًا، فقد مدت بالوزن، ومنحت قافية متباعدة أحيانًا، وحرية تخالف ما يتسم به "العمود" من ناحية الشكل فقط، وذهب أبطالها إلى النوم على وسائد تريح فهمهم للبيئة العربية الحاضرة، في نطاق بلاغي مشدود إلى الماضي.
هذه المحاولات التي صارت جزءًا من حركة العرب للتغيير، بدت مهمة رائدة، وعميقة، برغم ما استتر تحت قشرتها من سطحية، قُدّم لنا روادها وهم يتصاروعون حول أسبقية من أقدم على المبادرة في التغيير، وبدا التأمل لمضمون التغيير وشكله حينها، منسرقًا للصراعات بينهم.
(4)
نلمح في صفحات التأريخ لمحاولات الخروج على النمط الشعريّ المستقر في الذهنية العربية، تدويناتٍ بسيطةً لمقدمات ذلك الخروج في القرن التاسع عشر، تتحدث عن القصيدة المنثورة، ونقرأ نصوصًا ساذجة، تحاكي بعض الترجمات البسيطة لقصائد فرنسية وغيرها من اللغات الحية، لكن جلّها يشبه الخواطر.
كل هذه المحاولات، أنتجت اليوم، حالة أودت نسبيًّا بـ"العمود"، وأرست شكلاً جديدًا للشعر، ومضت في برارٍ لم تكن مألوفة، غير أنَّها مستلة في فضاءاتها من التجربة الفرنسية غالبًا، وأخرى من أنماط شعرية مختلفة ك"الهايكو" الياباني.
(5)
منذ مئات السنين، تربى العربي سماعيًّا، على الإصغاء للقصيدة العمودية، ووصلنا من هذا المنتج نصوصٌ كثيرةٌ جدًّا، كلما تفحصناها، نتلمس قدرتنا العجيبة على الصبر والثبات، ففيها نلمح غياب العقل العربي عن إنتاج شعر مختلف، متعدد الأشكال والآفاق، بعيدًا عن "العمود"، الشكل المستقر.
وكما لو أنَّ هذا الشعر، غير مهيئ لأن يتغير، أو يجترح موازيًا له أو مختلفًا عنه، متناسين في غمرة هذا النقاش، وغيره مما سبق من نقاشات، أنَّ العرب عاشوا حقبًا من التنوع الزاخر في حياتهم الثقافية والفنية والفكرية، لكن هذا التنوع لم نر له أثرًا فيما وصلنا من شعر.
لم يسجل تأريخ الشعر العربي الكثير من محاولات الخروج على النمط، أي العمود، ولا حتى القليل منها. فقد استسلم المؤرخ لما هو ناجز أمامه، وأعياه الانتباه للانفلاتات الثرية لشعراء عاموديين، حاولوا أن يخرجوا على هذا الشكل المستقر، لكن أسر النمط، كان يحدُّ من تفلتهم، ويدفعهم إلى "التهيب"، ربما من المضي أبعد مما هو سائد.
وقد جلبت لنا المدائحُ والهجائياتُ؛ وهي نمطٌ شعريٌّ مكانته ضعيفة في شعر اليوم؛ ما يحمل على أنَّها فرضت على المجتمعات العربية بالقوة، ومكّنت ضحاياها، من جعلهم، فاعلين في تمكين القوة السياسية التي تحتاج عادة إلى التنميط، لترسي معادلاتها في الحكم، وهي بذلك ثبتت قواعد للشكل الشعري، الخروج عليها، يعني الخروج على طاعة ولي الأمر.
وكان الشاعر الخارج على ولي الأمر، يذهب إلى مماثلة ما فرضه هذا الولي، في قوله وفعله، ليتمكن من جذب المستعمين إليه، وإقناعهم برسالته الثائرة، وسوى قلة استخدموا بلاغاتهم النثرية، وربما الشعرية المختلفة، فإنَّنا لا نجد مما وصلنا الكثير مما يدلل على خروقات ذات بعد مختلف في المعنى الشعري.
ليس صحيحًا أنَّ التراث لا يموت، ومن ينظمون "العمود" لم يسألوا أنفسهم: ماذا كتب الشعراء القدامى قبل القصيدة العمودية التراثية، تلك التي وصلنا منها عشرات الآلاف من الأبيات، والتي يتسرب في دقائق كثير منها، ذلك التوق للانفلات من ربقة السائد، والاختلاف في صناعة معان تبتعد عما استقر آنذاك.
ما سبق "العمود" هو تراث أيضًا، وقد غاب، لن نقول إنَّه مات، لكنَّه غير موجود الآن، وجزء من "العمود" نفسه، هو تراث، لم يعد موجودًا.
(6)
في زمن أمرئ القيس الذي يُستشهد به كواحد ممن أثروا الشعر العربي في العصور القديمة، كان ثمة شعراء يكتبون بعيدًا عن الهندسة الشكلية للقصيدة العربية (العمود) ذات الشطرين، لكن هؤلاء لم يصلنا منهم ما يشي بالإفصاح عن تنوع شعريتنا.
وما نقدمه في هذه المقالة، إنَّما هو محاولة للتساؤل والبحث والاستدراك، لنقول إنَّ ثمة خللًا غيّب فضاء شعريًا كاملاً، كان عليه أن يستقر كما "العمود" في الشعرية العربية.
لقد قيل إنَّ المهلهل ابن أبي ربيعة (الزير سالم) وفق الروايات غير المستقرة لحقيقة وجود هذه الشخصية، هو من أقدم على بناء القصيدة وفق الشطرين، ووحد رويها وقافيتها، ولو صحت هذه الرواية، فذلك يعني أن المهلهل، سوى أنَّه ثار على ما كان سائدًا في شعرية ذلك الزمان، كان نتاج وعي تغييري سبقه أو عاش زمنه، ما يعني أنَّ هناك أكثر من مندفع نحو ما اجترحه هو من تغيير في القصيدة.
وهذه بذاتها، تدفع للتساؤل: لِمَ يُستند إلى شخصية لم يصل من شعرها سوى القليل المشكوك بصحته، وتحوم الشكوك أيضًا حول وجودها، في وضع أساس النمط الشعري، وتقديسه، من دون أن يأخذ هذا التقديس حقّه الكامل في النقاش والبحث والتساؤل حوله وحول أهميته التي دفعت بالشعر لأن يستقر على ما هو عليه لقرون طويلة؟.
إنَّه لمن المريب أن يقدم لنا مدونو الشعر العربي، ابتداءً من الفترة التي تعترف بحضور المهلهل كأول من هلهل الشعر، أي قفاه ومنحه الجِرس الموسيقي، وصفاه من السائد، السابق عليه، ثم يقودوننا للاستشهاد بصحة ما نقلوه إلى شعراء نمذجوا ما ذهبوا إليه، أبرزهم شعراء المعلقات، ليدفعوننا دفعًا إلى اعتبارهم نقاطًا مفصلية في تأريخ الشعر العربي، يفصحون فيه عن أن أول الشعر بدأ من هناك، بمعنى أنَّه لم يسبقهم غير ما استقر.
كيف إذن يمكن أن يأتي المهلهل، ليقدم لنا شكلاً في الشعر، يصبح سائدًا، بينما لا يصلنا ما سبقه مما كان يشغل شعراء أقدم منه؟ ليقرّ بما جاء به كفاعل، أسّس وعينا كل هذه المدة للشعر وشكله ومعناه، وليصبح الخروج بعدها على ما جاء به، خروجًا على المستقر، المقدس؟
لم يتوقف ما خلفه استقرار النمط الشعري، عند حدٍّ بعينه، كالشكل والمعنى، بل أرسى فهمًا جامدًا في الوعي العربي اللاحق، تحتاج زحزحته إلى ثورة كي تغيره، وأغفل منجزات سابقة عليه، مُحيت من الذاكرة الشعرية العربية، ليقر بعدها بأنَّ العربي ابن هذا النمط في الشعر، وسادنه، وهذه أسهمت بسجن التفكير في الخروج على السائد، ما تجلّى في تنميط الوعي العربي، وزجّه داخل بوتقة الثبات والجمود.
ولولا ما أقدم عليه شعراء ثائرون لاحقًا، لمواجهة مُناخ حجري كهذا، لما رأينا الاختلافات الثريّة في المدونة الشعريّة العربية، برغم رسوّ النمط والتزام حتى الثائرين بشكله.
(7)
انعكس "النمط" تقريبًا على الكثير من أشكال التفكير العربي، وانتشر التفكير "العمودي" في الوعي العربي، حتى شغله بشطريه وأوزانه التي منع الخروج عليها.
وفي الوقت الذي يذهب فيه بعض الشعراء من الحقب الماضية إلى أنَّ الشعر لم يسجن في ستة عشر بحرًا وزنيًّا، وأنَّ هناك نظمًا وقولًا شعريًّا، خارج ما أقره الخليل بن أحمد الفراهيدي في أوزانه، فإنَّهم بذلك يصرخون في وجه النمط الذي استقر بتلك الأوزان على بحورها المعروفة، ويطوح بهذيان الاستقرار ليضع أمامنا فضاء مغايرًا لما فرضه المدونون، ولما استجلب من إقرار بأنَّ الشعر، ابن "العمود" وعدة بحور ضيقة الأفق، مصنوعة في نطاق، سجن الشعرية العربية في بوتقة الأوزان الفراهيدية لقرون، وسواه لا يعد شعرًا.
هل نستطيع القول إنَّ القصيدة العربية كانت بلا شطرين، وإذا كانت هناك قصائد مشطرة، فهل كانت هي البطل الذي لا يشق له غبار في منظور الشعراء القدامى؟ وفي ظلِّ هذا التساؤل، ألا يحق لنا أن نسأل: من أين خرجت القصائد المغناة آنذاك، بأشكالها التي تُضبط وفق ألحان تحتاج إلى عدم الاستقرار ضمن وزن بعينه، وإلى التفلّت من أيّ شكل، لتبقى متوهجةً، متنوعةَ الجرس، جاذبةً للمتلقي.
ثم، ألم يكن لأشكال عديدة من فنون القول، والتي تدور في فضاء شعري، أن تكون جزءًا من التنويعات الشعرية في الشكل والمعنى، كتراتيل كهنة المعابد، التي تحتمي بإيقاعات صوتية، تقربها من الشعر الموزون في الشكل والمعنى، إذ كانت تحمل أبعادًا تأملية وبلاغات مفارقة لما هو متداول في الكلام العادي؟
ثمة فنون للقول الشعري، يمكن أن نتفحص التاريخ لنستدرك أنَّها كانت موجودة، من دون عناء، فلا يعقل أن تغيب ترانيم الأمهات لأطفالهن عن مخيلة المدوّن كنوعٍ من أنواع الشعر، حتى لو رآه بسيطًا، ولا يمكن القول إنَّ الغناء في الأعراس، كان مرتبطًا بالقول العادي، لا بألوان من الشعر الصالح للغناء، وغيرها كتأملاتِ الرعاة والهاربين من سطوة العبودية، والثائرين على قبائلهم، فمن ينتج القصيدة العمودية بفخامتها المعمارية تلك وبلاغاتها العالية، لا بدَّ وأنَّه أنتج في فضاء الشعر أنماطًا أخرى، تقاربها، أو تفارقها، لكنَّها تقع في فضاء الشعر، وتجوس وهاده التي لا تُحدُّ، ومن ينبش فيما بقي من أقوال الكهنة، سيجد مقطعاتٍ تحتمي بالتأمل والانسياب الشعري المتفعل، أي المسكون بالتفعيلة والأوزان الخارجة على البحور الستة عشر، أو الواقعة في نطاق الإيقاع الحر المنثور.
ففي شواهد ما وصلنا من الموروث الشعري العربي، هناك الكثير مما يمكن اصطياده كدالات على أنَّ القصيدة ليست نمطًا واحدًا، ولا مبنى مسكونًا بهذا الفقر الشكلي للبناء الشعري، (العمود). أمَّا المعنى، فقد تنوّعت المساحات التي انشغل بها شعر العرب القديم، وهي نتاج طبيعي للبيئة العربية ومجتمعاتها.
فذاك الحارث بن حلزة مثلا، قال قصائد، يحتشد فيها الإقواء، وتبتعد عن استقامة التفعيلة، وتنتهك مسار الشطرين، وهو من الشعراء الكبار، وصاحب معلقة شهيرة. وثمة شعراء آنذاك، كانوا يجولون في براري مختلفة عما هو سائد، ومنهم من كان يتطلع للاختلاف، والتغيير في المبنى والمعنى السائدين للشعر، في المقابل، كان هناك شعراء، مهمتهم تقتضي الاستقرار داخل نمط بعينه، لفقر رؤاهم، ولضحالة تجاربهم ومحدوديتها، وهذا يحدث في كل الأزمنة.
(9)
لا أحد من المغرقين في الانتماء للقصيدة العمودية، يريد الإدراك بأنَّ الامتثال لهذا الشكل المستقر (العمود) آنذاك، هو فقرٌ حقيقيٌّ للمخيلة الشعرية العربية، التي تنبي مساحات البحث فيما وصل منها إلينا، بأنَّها صاحبة تنوّع ثريّ، يتجاوز الأشكال القارة، ويختلف عما نمّطه به اللاحقون في العصور التالية.
ولا أحد من هؤلاء يريد أن يصدق بأنَّ مثل هذا التنوّع، ليس إرثًا لما سبقه، بل هو اجتراحاتٌ، بُنيت على ما سبق، وأضافت اليه، وأنَّ العمود ليس مقدسًا، فالبرية الشعرية أكبر من أن تُحشر في شطرين، وأن تستقر في نمطٍ محدّدٍ، ولا أحد يريد أن يمتثل إلى أنَّ المنطقة العربية، لم تكن منطقة متوحدة اللغة والثقافة. فالتنوع كان ممثلاً للعرب، ولبريتهم التي يتجولون فيها عبر الثقافات واللغات العديدة التي سكنت بلادهم أو عبرتها.
وقد أفصحت المدوّناتُ التي اكتشفها آثاريون عن فيض لافت من الشعرية المكتوبة بلغات قديمة في المنطقة العربية، استخدمت أشكالاً لم تحتكم إلى هندسة الشطرين، ولم تقع في براثن الاستقرار داخل نمط بعينه، فالتراتيلُ الكنعانية مثلًا، شاهدٌ على هذا التنوّع، وكذلك أشعار السومريين والبابليين والأدوميين وغيرهم ممن قطنوا البقاع العربية، وكان لهم إنتاجٌ معرفيٌّ فيها، مثّل الشعر جزءًا منه، وقدم في بوتقات تتعلق بالعبادات والمناسبات الاجتماعية والحروب، وغيرها مما يمكن للشعر أن يمنحه حضورًا باذخًا في تاريخ تلك المجموعات الحضارية.