العودةُ إلى الذات.. معالمُ الفكر الحضاريّ عند إبراهيم العجلوني

د.رائد عكاشة
....
يحاول هذا المقالُ الكشفَ عن منهجية التفكير عند إبراهيم العجلوني، ومنطلقاته، وآلياته، وتلُّمس معالم الاشتباكات الفكرية التي أظهرته مفكراً إسلاميّاً حضاريّاً، ومؤطِراً معرفيّاً في المنهج والمنهجية، مُنتخِباً بعض المعالم المهمّة في هذا السياق.

التكاملُ المعرفيُّ
يمثّل التكاملُ المعرفي منهجية العقل المسلم؛ إذ تُوفّر لصاحبها رؤية كُليَّة قادرة على تفحُّص العلاقات المعرفية والوجودية والقيمية. ونستطيع تلمُّس هذه المنهجية وهذا التكامل في منهجية تعامل إبراهيم العجلوني مع مصادر المعرفة وأدواتها، ونظرته إلى العلاقة بين النَّص والكَوْن أو ما يُسمّى بالقراءتين: قراءة الكَوْن المنظور (العالَم) والكَوْن المسطور (النَّص/ القرآن الكريم).
لقد مثّل سؤالُ المصدرية وعلاقتها بالأدوات المعرفية همّاً وقلقاً كبيراً عند العجلوني؛ نظراً لتفاوت البحث في هذا الإطار المعرفي بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي ماضياً وحاضراً، وتأليه العقل في الفكر الغربي؛ إذ رأى العجلوني أنَّ "الوعي الكوني في الإنسان مهيّأ بفطرته لنشدان أبعاده خارج حدود معطى الحِسّ والعقل" (وحي الآفاق، ج2، ص127). وهذا يعني أنَّ العجلوني على وعيٍّ يقظٍ بأنَّ ثمة حدوداً بين مصادر المعرفة وأدواتها، والخلط بينهما سيؤدي إلى خللٍ معرفي، ومن ثمَّ إلى تيهٍ وجودي، وهذا ما حدث للفكر الغربي منذ العصر اليوناني التأسيسي إلى اللحظة الراهنة.
لذلك حاول العجلوني تنظيم العلاقة بين مصادر المعرفة وأدواتها على النحو الآتي: ثمة مصدران أساسيان للمعرفة هما: الوحي والعالَم (الكَوْن)، وثمة أداتان هما: العقل والحِسّ، وهناك علاقة تفاعليّة بين المصادر ذاتها، وبين المصادر والأدوات، وعلاقة بين الأدوات ذاتها، وبين الأدوات والمصادر. وهو يستخدم هذا التنظيم المنهجي لتحقيق جملة من الأهداف أهمها:
- جناية الفكر الغربي على الفكر الإنساني والمنهجية العلمية؛ إذ حُصر التفكير فيما هو ملموسٌ ومحسوسٌ (فيزيقي)، وهذه المنهجية السقيمة "قَصَرت السَّببية على الكَوْن المنظور ووقفت بها عند حدوده، ولم تمضِ بها إلى ما وراءه، وسلبت الميتافيزيقا كل اعتبار علمي" (وحي الآفاق، ج1، ص288).
- مَنْح العقل مكانته الحقيقية بوصفه أداةً من أدوات المعرفة لا مصدراً لها، فلا يشكك العجلوني بقيمة العقل الهائلة وهذه المنحة الربانية القادرة على تسمية الأشياء وضبطها بالوعي الشامل المحيط، مما يسهم في بقاء النوع الإنساني (في مرآة الإسلام، ص29). فهو "التشكيلة الفذّة من (اللحظ) و(البصيرة) و(الحكمة) و(التجربة)" (وحي الآفاق، ج1، ص257). وقد تفحّص العجلوني مكانة العقل في الفكر الإسلامي، فلمس وعياً كبيراً عند الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمين في النظر إلى العقل بوصفه أداةً معرفية خاضعة لحاكم أكبر وإلى سيطرة ومعرفة "وراء المعرفة الحسية والعقلية" (قطوف غير دانية، ص162) (هذه الكتب القيمة، ص21)، وأنَّ "العقل ليس سيّد الأحكام" (رجال ومناهج، ص88).
- الكشف عن أهمية أدوات المعرفة الأخرى في بناء النظر الصحيح وتكوين الشخصية السَّوية وممارسة المنهجية العلمية القويمة؛ إذ ركّز العجلوني على السِّياحة والنظر والتفكُّر بوصفها أدوات معرفية للتدبُّر والاعتبار، وهي تتفاعل مع العقل وتقرأ النَّص والكَوْن في ضوء هذه الحركية. (صحيفة "الرأي"، الأحد، 25/11/2012). كما أنَّ العقل على علاقة وطيدة بالفطرة والاستدلال القلبي، وهما يمثلان علاقة الخارج والداخل، والوعي والحدس، مما أسماه العجلوني بــ "مَنْطَقَة حدوس الفطرة الإنسانية السليمة" (وحي الآفاق، ج2، ص115).
بناءُ الذات المسلمة والهُوية الحضارية
لعلَّ المتابع لكتابات العجلوني يلحظ أنَّ جزءاً كبيراً من هذه الكتابات يمثّل ردةَ فعلٍ تجاه تلكم المقالات التي تهاجم الفكر الإسلامي أو المنظومة المعرفية العربية، وبناء عليه كان لا بدّ له من تفكيكٍ وتركيبٍ في الوقت ذاته؛ إذ قام العجلوني بمحاولة بناء مَتْن معرفي لذاتٍ مسلمة قادرة على المواجهة والبناء الحضاري. وتجلّى هذا البناء في مستويات متعددة أهمها:
- إعادة تأسيس المفاهيم: وقد تمثّل هذا في تأصيل المفاهيم والمصطلحات وتأثيلها، وإعادة النظر في المفاهيم والمصطلحات الوافدة، وإنتاج بعض المفاهيم والمصطلحات المركزية. وقد اختار العجلوني مفاهيم مركزية في الفكر الإسلامي، كان لها تمثلاتٌ فكرية وسياسية واجتماعية، وحضورٌ في بِنَى الحركات القومية والإسلامية، ومن هذه المفاهيم: التوحيد، والأمة، والهُوية الإسلامية، والأمة الوسط، والعروبة، والأعرابية (انظرها في مقالاته المهمة في صحيفة "الرأي": 18/11/2011، 19/9/2011، 30/8/2012).
وقد نبّه العجلوني إلى الحضور القوي لهذه المفاهيم في صوغ العقل المسلم وفي بناء الشخصية الإسلامية، وإلى الاتساق بين الهُوية الإسلامية والعروبة ضمن مفهوم الهُوية الجامعة والهُوية المؤسِّسة. بل يتعدى هذا إلى الهُوية الإنسانيّة والعبء الحضاري للمسلم في نقل الحكمة والمعرفة، وقد صاغ العجلوني مفهوماً عميقاً في هذا السياق أسماه "الانتداب الكوني للعقل المسلم"، وهو مفهوم ذو دلالات تنبئ عن عالمية الخطاب الإسلامي في حمل مشعل النهوض الحضاري وبناء الإنسانية. وقد نجده أحياناً يفكّك المفاهيم الوافدة ويؤثّلها بناءً على المنظومة المعرفية الإسلامية، كما نلاحظ هذا في مفهوم "الآخر" الذي يتضمن ظلالاً تحيّزية غربية، لذلك يستبدل به مفهوماً حضارياً أصيلاً هو مفهوم "المختلف"، الذي يتضمن معنى الرَّحِم الإنساني. (نحن ومفكرو الغرب، ص11).
- مركزية المرجعية القرآنية في البناء: يرى العجلوني أنَّ في القرآن مبادئ ونظريات وحقائق وتوجيهات وتأسيسات لحياة طيّبة، وأنَّ العرب والمسلمين لن يستعيدوا عافيتهم العقلية بمعزل عن التجليات المعرفية التي كانت تتنوّر كتاب الله وآياته البينات (الشذرات، الكتاب الثالث، ص106)، لذلك يرى العجلوني أنَّه ينبغي أن تكون النظرية المعرفية القرآنية مرتكزاً أساساً في منطلقات التفكير الإسلامي وآلياته، وأن يُستحضر التصوّر القرآني في النظر إلى الواقع (قطوف غير دانية، ص15)، أو في نقد المذاهب المادية والفكرية (الشذرات، الكتاب الأول، ص239-241، وحي الآفاق، ج1، ص314). ومركز هذه المبادئ والتصورات هو التوحيد بوصفه قيمةً مركزيةً حاكمة ضمن ثلاثية القيم العليا: التوحيد والتزكية والعمران. وهذه المرجعية تجعل للعقل المسلم طبيعة خاصة في المباحث الفلسفية والكلامية؛ لأنَّها تنطلق من الرؤية الكُليّة الإسلامية التي تصوغ تصوّراً محدداً للخالق وللإنسان وللكَوْن، لذلك نشأت فلسفة إسلامية خالصة ومفارقة للفلسفة اليونانية، تنحت من النظرية المعرفية القرآنية تصوراتها للوجود، وتبتعد عن مصادرات اليونان، وهي في الوقت ذاته تضمُّ بين ثناياها من مارس الإسلام ثقافةً وحضارةً مثل نصارى العرب.
وقد وعى العجلوني أهمية توضيح العلاقة بين الأصول التأسيسية (القرآن والسنة)؛ إذ أدّى الخلل في فهم هذه العلاقة إلى حروب فكرية في دائرة الفكر الإسلامي، فحسم العجلوني المسألة بقوله: "القرآن الكريم هو مرجع السيرة النبوية الأول، والسُّنة المشرفة هي بيان للقرآن، وهما متظاهران في ابتناء الإيمان في وعي المسلم، وتأتي الأحاديث القدسية منزلة بين منزلتي القرآن والحديث، وكل أولئك يفضي بعضه إلى بعض ويعضد بعضه بعضاً في بوتقة معرفية ووجدانية واحدة" (هذه الكتب القيمة، ص20، ص94).
- منهجيّة التعامل مع التراث: علاقة العجلوني مع التراث علاقة حميمة دون تقديسه، فهو كثيراً ما يستدعي المفكرين والباحثين والأعمال التراثية من باب الاستشهاد أو البناء أو المقارنة والمقاربة. وهو يصنف المفكرين إلى مفكرين منبتّين وآخرين منتمين إلى الدائرة التراثية، ويرى أنَّ دائرة الوعي المنهجي تستدعي أن يكون التراث جزءاً مهمّاً في بناء العقل المسلم العربي، وأنَّ الخلل المنهجي كامن في مبدأ القطيعة الذي تمسَّك به بعض المفكرين المنبتّين، وهو يستحضر بعض الأعلام للكشف عن هذين الملمحين ضمن ثنائيات منتسبة إلى دائرة الفكر الإسلامي، فهناك من يمثل دائرة الانتماء والاتصال مثل الأفغاني ومدرسته، وهناك من يمثل دائرة القطيعة مثل آركون والعروي ومدرستهما (انظر الشذرات، الكتاب الثالث، ص22-23، ورجال ومناهج، ص22).
وتبلغ دائرة الاتصال بالتراث ذروتها عند العجلوني عندما يرى في الجيل الأول المثال الأسمى في فهم النص ومقاصده (رجال ومناهج، ص24). وحتى تستمر دائرة الاتصال يحثُّ العجلوني على تأسيس كليات خاصة بعلم الكلام والفلسفة، لما لهذه العلوم من دور في الوصل مع منهجية التفكير الإسلامية. (هذه الكتب القيمة، 46).

مقارناتٌ ومقارباتٌ مع الفكر الغربي
تنثال في كتابات العجلوني المقاربات والمقارنات مع الفكر الغربي، ويكاد يكون هذا الأمرُ منهجاً في كتاباته، ودرساً فكرياً في منهجية التعامل مع الذات ومع المختلف؛ إذ تبرز فيها شخصية المفكِّر المسلم الذي يدافع عن إرثه الحضاري، والناقد للحضارة الغربية وأصولها التأسيسية. فنراه تارةً مقارناً بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي في موضوع المرأة (وحي الآفاق، ج2، ص55)، وتارةً بين التنوير الغربي والتنوير الإسلامي (هذه الكتب القيمة، ص99، الشذرات، الكتاب الثالث، ص172)، ويقارن أحايين بين الكتابات التراثية والكتاب الغربية في مجالات علمية وفكرية وفلسفية، ليُظهر علو كعب التراثيين في هذا الإطار (الشذرات، الكتاب الثالث، ص86)، وكيف تعامل كلا الفكرين مع الضمير "هم" (نحن ومفكرو الغرب، ص104).
ويلجأ العجلوني أحياناً إلى الاكتفاء بنقد الفكر الغربي دون مقارنته بالفكر الإسلامي؛ إذ ينقد هذا الفكر وتحيّزاته ومصادره (هذه الكتب القيمة، ص16، وحي الآفاق،ج1،ص291). وهو يورد كثيراً من هذه المقارنات والنقد ليزيح عن كاهل المثقف العربي المسلم سطوة الانبهار الحضاري الذي أشعره بالدونية والتبعية، ويبتعد به عن الاستلاب الثقافي، وعن تبنيه تجارب الإصلاح الغربية دون وعي بالخصوصيات الثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية.
ويستمر العجلوني في الاشتباك مع الفكر الغربي عبر تقنية المقاربات والمثاقفة، انطلاقاً من منهج الحياد والإنصاف ووحدة أصل التفكير والفطرة؛ إذ يكشف عن بعض معالم النزاهة في هذا الفكر، فهو على سبيل التمثيل يمدح الاستشراق الألماني العلمي الذي يفارق الاستشراق الإنجليزي والفرنسي (هذه الكتب القيمة، ص92)، مستأنساً بالدور الحضاري للفكر الإسلامي في بناء الحضارة الغربية (قطوف غير دانية، ص146).
وبهذا يبرز إبراهيم العجلوني مفكّراً إسلاميّاً حضاريّاً وليس كاتباً في الإسلاميات، فثمة فرق كبير بين المفهومين، وهو نموذج لعمل العقل المسلم في النصِّ والتاريخِ والواقعِ والكَوْن والحياة.