عن إبراهيم العجلوني الذي يشبه البحر

 . يوسف عبده
أكاديمي وناقد أردني
رجلان يربكان الكاتبَ إذا حاول أن يكتب عنهما؛ رجلٌ لا يستطيع أن يجد ما يقوله فيه، ورجلٌ لا يستطيع أن يختصر ما يعرفه عنه. ومن المسلمات في تاريخ الإنسان، أنَّ مِن أفراده مَن يعلون حتى يكونوا بأخلاق ملائكيّة، ومنهم مَن يسفلون حتى يكونوا بأخباث شيطانيّة .
الأوّلون هم أصحابُ الرسالات؛ فحياتهم للناس ولقضايا أمتهم. الآخرون هم أصحاب الشهوات؛ فحياتهم لأنفسهم وذواتهم. ولا مراء في أنَّ الأستاذ إبراهيم العجلوني قد كان من أصحاب الرسالات، وتجلّت في أخلاقه مزايا الإنسان الرفيع؛ فاتفق على نبله جميع من عرفه، وتمثّلت في كتاباته صفاتُ الكاتب الكبير، واعترف بفضله جميعُ من التقى به .
والحق أنَّ معرفتي بالأستاذ العجلوني _ من حيث المدة _ قد كانت قليلة؛ فلم أُعاشره طويلاً حتى أقول: إنَّي أعرف ما لا يعرفه غيري عنه، ولكن هذا الوقت - على بساطته - كان كفيلاً ببناء جسر من الصداقة والمعرفة فأحاطني بحبه وعلمه، حتى أنَّه هيّأ لي جميع كتبه ووقته أثناء كتابتي أطروحة الدكتوراه التي تناولت بلاغة الحِجاج في مقالاته .
الحديثُ عن الأستاذ العجلوني ليس بالمهمّة السهلة إذن، وليس اكتناه هذه الشخصية الفذة يمكن أن يتم بعشرات أو مئات الصفحات؛ لأنَّك في حضرته تجد نفسك مع إنسانٍ كالبحر، في أعماقه كلُّ ما يمكن أن يخطر ببالك من الكنوز، وعنده منجم الثقافة التراثية الأصيلة، مقترنة بالثقافة السائدة. لديه وعيٌّ عميق بالماضي، إلى جانب الانفتاح على حاضر الفكر والنقد والاجتماع، وفي حضرته ترى نفسك أمام كاتبٍ أصيل كالرافعي والزيّات وزكي مبارك. عقلاني التفكير، موضوعي الحكم، حرّ الرأي، عصيّ على الانقياد للآراء السطحية، والأحكام العاطفية، وباختصار فهو رجلٌ ضليعٌ بالثقافة والفكر والأدب والشعر والاجتماع والسياسة.
وليست الكتابة عن رجلٍ بحجم الأستاذ إبراهيم العجلوني الذي أفنى عمره في البحث الجاد والتأليف العميق، يمكن أن تكون مهمّةً سهلة، لأنَّه صاغ وعي أجيال متعاقبة من الباحثين والدارسين، وأثّر في قوافل متتابعة من المثقفين العرب بما كان ينشر من نتاج أدبي وفكري، ما نزال ننهل منه عمق التحليل، وسداد الرأي، واستشراف المستقبل .
والأستاذ العجلوني شخصيّةٌ اجتمع لها من الخصائص والمميزات ما يفردها؛ فقد تشكّل عنده مخزونٌ ثقافيٌّ ومعرفيٌّ قلّما تجده عند كاتب آخر، فأصبح صاحب أسلوب لا يخطئه القارئ بين ما يقرأ من الأساليب، فهو كما وصفه الدكتور ناصر الدين الأسد صاحب المعنى الغزير في اللفظ الوجيز .
والقارئ لمقالات ومؤلفات العجلوني لا بدَّ أن يدرك غزارة معناه، وهو ينتقل بقارئه في رحاب الدنيا الواسعة؛ فتارةً تراه يعرض للقارئ أخبار اليونانيين القدماء وأساطيرهم وعلمهم، وتارةً ينتقل إلى أمر من أمور العرب والمسلمين في ماضيهم وحضارتهم ومناهجهم، ثم في أمور حاضرهم وما ينتظرهم في قابل الأيام .
وللقضايا الوطنية العربية - خاصةً قضية فلسطين - نصيبٌ وافرٌ من عنايته، وقد أفردها بالتحليل للفكر الإسرائيليّ ومرجعياته وخططه وجذوره، وكشف الممارسات الصهيونية في حق الأمة العربية والشعب الفلسطيني، وإبانة التزوير والتلاعب في المعاهدات والاتفاقات؛ ففلسطين في معتقد العجلوني ليست قضية وطنية أو قومية أو دينية أو تاريخية؛ بل هي كلُّ ذلك وأكثر.
وها هو العجلوني يحيا بيننا بمؤلفاته ومقالاته ﻷنَّه يستحقُّ الحياة؛ فمن كتب لحرية العقل، ومعنى الحياة، كيف به يموت؟ !
باقٍ أنت يا أبا سلطان فينا، أدباً خالدًا، وشمساً تضيء عتمة العقول.