"تراب الغريب" لهزاع البراري؛ الساردُ الميتُ يحاكمُ الحياة

منير عتيبة
شاعر وناقد مصري
برغم كلِّ ما ذكرته الأديان السماوية والأرضية، والفلسفات، والآداب، عن الموت، يظلُّ هو الغامضُ الأكبرُ في حياة الإنسان، يسعى لأن يتعرف ماهيته، وموعده، وكيفيته، وما قبله، وما بعده إلخ. وستظل الكتابة الأدبية عن الموت محاولة عميقة لاكتشاف كنه هذا الغامضِ المرعب، لكنَّها في وجهها الثاني الأعمق ربما تكون محاولة للتعرف على ماهية الحياة ذاتها، تلك المنحة الربانية التي علينا أن نفهمها لنعيشها بعمق، وبسعادة إن أمكن.
وفي روايته "تراب الغريب" (أزمنة للنشر والتوزيع-الأردن-ط. أولى2007م) يتناول الكاتبُ الأردنيُّ "هزاع البراري" إشكالية الموت كنقيض للحياة، ومحاولة الحياة للانتصار على الموت، وذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "شعرية الموت" في مقابل "واقعية الحياة".
يقدّم الكاتب لروايته بثلاثة مختارات، الأولى مما نُسب للرسول محمد -صلّى الله عليه وسلّم- "الناس نيام وإذا ما ماتوا انتبهوا". والثانية على لسان بطل الرواية "هذا ترابي أنثره عليكم، وهذه أرواحهم لا تتركنا... الغريب". والثالثة من العصر الفرعونيّ بمصر "اللعنةُ على كلِّ من يقترب من هذه الأرواح، أو يحاول إزعاجها- (نقشٌ مفقودٌ من مقبرة توت عنخ آمون)". وكأنَّ الكاتب بهذه المختارات يقدم مفاتيح قراءة الجوانب الأساسية لروايته. فهي تجمع بين الديني السماوي، والروائي التخييلي، والتاريخي الديني الأرضي. وهي تتناولُ في المقتطف الأول، فكرةَ الموت وعلاقته بالحياة، باعتباره اليقظةَ الكبرى من نومة نطلق عليها الحياة، وبالتالي يصبح الأمر في جوهره أنَّ الموت هو ما يجب أن نسعى إليه لأنَّه بوابةٌ للحياة الحقيقية، وما الحياة التي نعيشها حاليًا إلا فترة مؤقتة لسنا فيها بكامل وعينا وانتباهنا. وفي المقتطف الثالث إشارة إلى فكرة عدم إزعاج الموتى في حياتهم الجديدة، لأنَّ من يفعل ذلك سيُصاب باللعنة، وهي الفكرةُ التي تفعل الرواية نقيضها. أمَّا المقتطف التخييلي فهو يجمعُ بين المقتطفين السابقين، بإشارته إلى أنَّه/السارد سينبش قبره بنفسه حتى ولو كان الثمنُ لعنةً أبدية، مع التأكيد على أنَّ أرواح من ركبوا سفينة الموت لم تغادرنا، وإن غادرتنا أجسادهم، وبالتالي فنحن نعيش فعليًا فيما يمكن أن يكون طبقات متوازية من أشكال مختلفة من الحياة التي تعني الاستمرار في الوجود، بعكس الموت الذي هو العدم.
يخشى ساردُ الرواية الموتَ، ويراه يطارده في كلِّ ما ومن حوله، ويرى نفسه مشدودًا إليه بقوة لا يستطيع منها فكاكًا، فيتابع سيرة كل من مرّوا بحياته وابتلعهم الموت، موت الأمل والحلم الشخصي والعام، موت الأعضاء الجسدية بالمرض المقعد عن الحركة، موت خروج الروح من الجسد، موت تحلّل الجسد إلى تراب، موت نسيان من رحل حتى لم يعد حتى ذكرى في ذهن أي شخص ممن عرفوه، وهذا الأخير هو العدم. يربط السارد الحيوات الخاصة بتفاصيلها وحكاياتها عن الحب والأمل والرغبات والدناءات، إلخ، بالحالة العامة في دول عربية عديدة، بل ولبعض العرب الذين هاجروا خارج الوطن العربي، ليقدم فسيفساء للهزيمة النفسية والشخصية والوطنية، المقدمات الحقيقية لموت محتوم، سواء كان الشخص جسدًا على قيد الحياة، أو جسدًا بدأ يتحلّل إلى تراب بفعل الموت "لو حفرت أي قبر فلن تجد غير التراب... انظر إلى هذه الريح التي تمرُّ، تضرب على نوافذ المنازل. إنَّها أرواحهم تريد العودة لبيوتها. أمَّا نحن فنجيد غلق الأبواب والمنافذ؛ لأنَّنا لم نعد نرغب بعودتهم... هذه هي الخيانة الحقيقية... حياتنا لم تعد تتسع لذكرياتنا معهم... هذا ما يجعل الموت قاسيًا" هنا قسوة الموت على من ماتوا، بتخلي من لا يزالون أحياء عن ذكرياتهم عنهم. لكنَّ السارد يقدّم الوجه الآخر للمعضلة أيضًا "نحن الموتى لا نتعذب بموتنا... نحن نعيشه بينكم، أنتم من تُعَذَّبون بموتنا.. تلاحقكم الذكريات والصور حتى تفزعون في الليالي كالمجانين، إنَّنا نشفق عليكم، تأكلكم نهاياتنا حتى تنتهون ذات يوم مهمل". وكأنَّ فعل الموت؛ أو فعل الانتقال من حالةٍ حياتيّة إلى حالةٍ أخرى، هو فعلُ عذابٍ محتم، عذاب يرتبط أساسًا بفكرة التذكّر، فإذا تذكّر الأحياء من رحل تعذّبوا، وإذا نسوهم تعذّب الراحلون.
لن يكتشف القارئ أنَّ سارد "تراب الغريب" هو ساردٌ ميت في أواخر الرواية، إلا إذا انطبق عليه/على القارئ المقتطف الذي يشير إلى أنَّ الأحياء نيامٌ غير منتبهين، فالكاتب يبدأ روايته بكلمتين في أول سطر، ولا يكتب بجوارهما كلمة أخرى؛ "هذا قبري"، ثم يكرّرهما بالشكل نفسه في الصفحة ذاتها. لكن القارئ ربما لا يخطر بباله أنَّ ذلك الخائف من موت الأحبة والأحلام ومن موته الشخصي، والباحث عن أسباب الموت الخفية، وعن بعض دناءات البشر التي تؤدي إلى الموت بمحاربة الحب والنبل.. أقول؛ ربما لا يتصبر القارئ أنَّ هذا السارد ميت، جاء من الشاطئ الآخر للحياة ليعيد النظر في شكل حياتنا الآن، بعدما عرف ما كان يجهل. وربما تكون اللغة الشعرية والسرد الشعري معًا سببًا في انسحاب القارئ خلف الكاتب في رحلته لتشريح المجتمع والإنسان على ضوء الموت الذي يعدّه البعضُ نقيضًا للحياة وعدمًا. وربما لأنَّ الكاتب استخدم مهاراته المتميزة ككاتبٍ مسرحيٍّ في إدارة حوارٍ روائيٍّ ينبض بالحياة الواقعية ولا يخلو من عمق التأمل في موضوع روايته. ربما كل ذلك أو بعضه أو غيره، لكن الأهم أنَّ مفاجأة القارئ بأنَّه يستمع عبر ما يزيد عن مائتي صفحة لساردٍ ميت؛ إنَّما جاءت بسبب توحد القارئ بهذا السارد، ويصبح القارئ هو نفسه "نسرين" صديقة السارد التي كان عليها أن تقف على برزخ مرعب ما بين الحياة/حياتها وبين الموت/موته، فتراه وتحدثه "لم يكن يسمعني، نظرت إليه خائفة، الديدان تمضغ لحمة وجهه، والحشرات الصغيرة تخرج من فتحة أذنه، قلت له وأنا أرتعد: أنت ميت حقًا...؟. مرَّ فوق قبره فانفتح التراب وابتلعه... ومضيت وحيدة، أشعة الشمس خبت، ودخل في القلب المتجعد هسيس حياة الليل والعتمة. حين يحاصرنا الفقد يشوهون أيامنا بحضورهم الذي لا ينتهي، وحين نموت لا نستريح". فيجد القارئ نفسه؛ برغم متعة اللغة الشعرية، والسرد الشعري، والحوارات المتقنة، في المواجهة التي لا بدّ منها، مواجهة فرد وحيد مقابل الموت، فيضطر لأن يعيد محاكمة الحياة، ربما جعلها أفضل، فيذهب إلى الموت بطرقٍ أكثر نبلًا.