المثقفُ العربيُّ وسؤالُ الثقافة

د. عبدالرحيم مراشدة
أكاديمي وناقد أردني/ جامعة عجلون الوطنية


الحديثُ عن حضور المثقف، وتمظهراته في بنية التفكير الاجتماعيّ والإنسانيّ، يذكرنا بطروحات (غرامشي) حول المثقف، التي تشير إلى دور المثقف الحيويّ في بناء الإيديولوجيات، وتوجيهها بشكلٍ فاعلٍ ومؤثر؛ وبذلك يصبح التماسكُ الاجتماعيُّ والإنسانيُّ وظيفةً يقوم بها؛ ولهذا نجده يقوم بتقسيم المثقف إلى قسمين: مثقف عضويّ، ومثقف غير عضويّ، فالأولُ، هو الفاعلُ الدائمُ النشاطِ والمتفاعلُ، والآخرُ على النقيض من ذلك، أو المتقوقعُ في إطارٍ لا يتعداه، ولا يذهب إلى تطوير ما لديه، ويضرب مثالًا على ذلك: الكاهن الذي يسير وفق محدّدات لازمة، والمعلمين التابعين لإيقاع مناهج صارمة، ويكرّرون ما لديهم، وهنا لا مجال للإبداع، ولا للتفكير الباني الذي يُسهم في التحوّل والتغيير المستمرين حسب سيرورة الحياة، وحركيتها مع الزمان والمكان، وليس لديهم إمكانية لافتة للتغيير في الكتلة الاجتماعيّة، أو الكتلة الإنسانيّة المستهدفة.
ما يهم هنا هو المثقفُ العربيُّ، الذي بات يعيش ظروفًا استثنائيّة، تتكالب عليه الحضاراتُ، والأفكارُ التي تتسارع مع معطيات العصر وتحوّلاته، ومن جهاتٍ عدة، مع العلم بأنَّه بات يصعب التقديم لمفهومٍ شموليٍّ للمثقف والثقافة، ولن نذهب على التوسع في تعريف الثقافة، وعلى حدِّ تعبير "إدوارد سعيد" في كتابه (صورة المثقف) : "ليس غريبًا أن نجد مكتبةً كاملةً من الدراسات عن المثقفين، مروعة جدًّا في مداها، متناهية التركيز في تفاصيلها.." ولهذا يمكن القول: إنَّ المثقفَ العربيَّ يعيشُ، وفقَ ما سلف، في خضم معطيات تقود له الارتباك في اختيار مسالك مأمونة، أو مناهج يمكن الاطمئنان إليها، حيث أنَّه يسير كما لو في حقل ألغام، اللهم إلا إذا كان لديه القدرةُ على الوعي بتحوّلات ما يجري للثقافة والمثقفين في هذا العالم الذي تتصارع فيه وتتزاحم قوى مختلفة، وتتأزم أحيانًا أيديولوجيات متنوّعة موجّهة، تمتدُ على مساحة المعمورة، ومن مشارب متنوعة، تتأرجح بين اليمين واليسار، وربما تجد من هم لا هنا ولا هناك، في تيهٍ وشرود، وهذا يبعثُ على سؤالٍ كبير؛ وهو: المثقفُ إلى أين، وبخاصّة المثقف العربيّ؟!.
المثقفُ العربيُّ بات يعيش التمزّق، من حيث عدم القدرة على تحديد المسار بشكلٍ سليم، واستيعاب ما يجري، حتى باتت شريحة واضحة من المثقفين إمَّا يجترون أفكار غيرهم، أو تذهب بعض الشرائح، كما يُقال، مع التيار، وبالتالي صار رسم صورة مقنعة للمثقف الذي يستحق هذا الاسم صعب المنال، لعدم القدرة على رسم الصورة الحقيقية والمقنعة، وبدت تظهر محنته وغربته وتراجع أثره وتأثيره في العالم الذي يعيش فيه، ولم يَعُد للمثقف العربيّ مشروعٌ يختصُّ به، أو لا يشير إلا إليه، أو على أقل تقدير بات المثقفُ العربيُّ يكتم مشروعه، إن وجد، وقد يتمُّ التنفيس عنه بالبوح، لو أمكن ذلك، عبر مسروداتٍ تخييليّة، أو رمزيّة، في نصٍّ هنا أو نصٍّ هناك، كما لو يعمل في الخفاء، ومن وراء ستار، في محاولة للتطهر والانعتاق باتّجاه الحرية المتخيلة لديه، لشعوره بوجود سلطة/سلطات ضاغطة عليه، سياسيّة واجتماعيّة وعقائديّة...إلخ، حيث السلطة والثقافة، غالبًا، لا يلتقيان، ونتيجةً لذلك؛ إذا لم يقم بالتكتم والتخفي سينجر إلى المهادنة، والتكيف، وربما إلى الانسحاب نحو الذات.
الممارسةُ للفعل الثقافي باتت تحتاجُ إلى جرأةٍ في الطرح والتناول والعطاء، لتجاوز المزالق والعوائق المربكة التي تقف أمام المثقف الحقيقيّ، ذلك أنَّ الثقافةَ الحقيقيّةَ النظيفةَ لا ترتضي الانضغاط في قالبٍ تجهَّز لها سلفًا، فيحيلها إلى مسخ.
الممارسةُ الممنهجة للثقافة، الواعية والرصينة المتجاوزة للاعتيادي والممكن، هذا ما يحتاجه المثقفُ العربيُّ، وأعني كذلك تلك الممارسة التي تخلخل السائدَ غيرَ المتناسب مع قيم المجتمع ومع الإنسانيّة، ومع البيئة التي يعيشها وينتمي إليها المثقف، لقد كثُر الزوان حتى بات البيدرُ لا يليق بحصادنا، وبإنسانيّتنا، وبصحة ثقافتنا الضاربة في التاريخ والحضارة والأصالة، القابلة للتحوّل والمعاصرة والتجاوز والتخطي، ومواكبة ما يستجد، فالمثقف الذي نريد، عربيّاً، وإنسانيًّا، كونيًّا، أن يكون، قبل كلِّ شيء، حرًا وطليقًا، ويحيا بين اليراع والفكر والحرف والكتاب، لينخرطَ في عملية الخلق والإبداع والتميّز، لأنَّ هذه الأشياء تشكّل وسيطًا بين المثقف وفكر من يقرأ لهم، أو يحاورهم، أو يسمع لهم...إلخ، وبين فكره هو، وما يحتضنه هذا الفكرُ من مرجعياتٍ وأنساق ثقافية تعينه على البناء على ما تحصّل لديه، ويضيف عليه، فيصبح منتجه تراكميًّا، ويقدم شيئًا مهمًّا للإنسانيّة، وعندما يؤمن المثقفُ العربيُّ بهذه الأشياء، ويكون مخلصًا لما ينتجه من فكر، سينال طاقةً مضافة، وسوف يستشعر في ذاته رعشةَ اللذة لإحساسه بما يمكن أن يكون كونيًّا وإنسانيًّا، وينتابه إحساسٌ بأنَّه يؤسسُ مع نفسه ومع غيره، ميراثًا عظيمًا يليق به وبإنسانيّته، ويتحسّسُ قيمةَ الرسالةِ الخالدةِ المقدسةِ لديه، ويصبح رسولَ معرفةٍ وثقافةٍ وإبداع، ويتحقّق فيه، ومن هو على أمثاله صفة مركزية الوجود الإنسانيّ، والهدف من هذا الوجود، وبتعبير صاحب الإشارات الإلهية في فصل الغريب عند قوله، مخاطبًا الإنسان: " يا هذا، أنت معنى الكون كله".