الشخصيّةُ الشعبيّةُ في روايات نجيب محفوظ رواية "القاهرة الجديدة" أنموذجاً

د. زياد أبولبن
أكاديمي وناقد أردني.
إذا كان التراثُ الشعبيُّ العربيُّ يشكّل المهادَ الجمعيَّ الفكريَّ الذي تأثرت به المادةُ الإبداعيّة الحديثة، فلا بدّ من أنَّ التقنيات السرديّة الحديثة تتأثر به، وتنعكس بالضرورة على المُنتج الروائيّ الحديث. وتشكّل الرواية في بنيتها مادةً خصبةً لتوظيف الشخصيّة الشعبيّة، مفردةً من مفردات عناصر الرواية الحديثة ومكوّناتها، وتشتبك مع باقي العناصر في تعالقٍ لا فكاك منه، فيتداخل الفضاء الروائيّ بشقيه: الزمان والمكان، في رسم صورة غير مستقرة للشخصيّة الشعبيّة في ذهنيّة القارئ العربيّ.
فأين تقع الشخصياتُ الشعبيّةُ في روايات نجيب محفوظ؟ وإن حُدّد موقعها، فما ارتباطها بالمجتمع، هل تشدّ القارئ أو السامع لها؟ وهل يسعى القارئ أو السامع لتتبع سيرها على مدى الرواية وإلى نهايتها؟
فهنا، تتعدّد الشخصيات الشعبيّة في روايات نجيب محفوظ، وتتنوّع أيضاً، فقد تكشف الدراسة عن شخصياتٍ مناضلةٍ ثوريّةٍ بالمفهوم الوطنيّ، وشخصيات مثقَّفة، وشخصيات منحلّة بالمفهوم الأخلاقيّ العام، وشخصيات وصوليّة انتهازيّة، وشخصيات متديّنة، وشخصيات رافضة للواقع متمردة، وأخرى عبثيّة،.. وغيرها.
وإنَّ مفهوم تطوّر الشخصية تغيّر جوهريّاً في السرد الروائيّ، وإنَّ خلق الشخصيات وبناءها يُعدُّ مثالاً نقيّاً لاستبطان الشخصيّة، وإنَّ الشخصية الشعبيّة تمثّل الوجدان الجمعيّ، وتمتلك قدراتٍ كبيرة.
يبدأ نجيب محفوظ في روايته "القاهرة الجديدة"(1)، واصفاً المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية، وهو مكانٌ جديدٌ على المجتمع المصريّ، ومصدر الإشعاع العلميّ والثقافيّ لأبنائه، إنَّها الجامعة التي أخذت مكانةً جديدةً بينهم. حيث شكّلت هذه الرواية اتجاهاتٍ مختلفةً بين الطلبة، ونقاشات ذات اليسار وذات اليمين والوسط، واستغراباً واستهجاناً من قبل الجميع لدخول الفتاة إلى حلقات العلم والدراسة الجامعيّة، وتنبأ بعضهم بمنافستها للرجل مستقبلاً. فأخذ الجميع بالسخرية والتهكم على فتيات الجامعة، وقد أبرز نجيب محفوظ لنا شخصيات الرواية، واتجاهاتها الفكريّة، من خلال النقاش الذي دار في بداية الرواية حول المرأة، ومكانتها في المجتمع، "وقد استخدم أنموذج محجوب عبد الدايم لتجسيد القضيّة الأولى، كما استخدم النموذج مأمون رضوان لإبراز قضية الانتماء إلى اليمين، وأنموذج علي طه المنتمي إلى اليسار، وأخيراً أنموذج أحمد بدير رمزاً لفئة من الشباب لا يهتم بالانتماء لأيٍّ من التيارين، أو بتحديد فكر واضح لها"(2).
النموذج الأول: محجوب عبد الدايم، الذي تمثّلَ بشخصيته الشعبيّة في "القاهرة الجديدة"، ذاك الشاب اللامبالي بما يدور حوله، فلا يعبّر عمّا يحيط به أو ما يواجهه من أزماتٍ إلا بكلمة "طظ"، وهي فلسفته وشعاره، فهو شخصيّة عبثيّة تسقط في بحر الفساد والمرض الاجتماعيّ، لما تفرضه ظروف حياته عليه في سنته الأخيرة من الدراسة الجامعيّة وما بعدها، بعد أن يعجز أبوه عن تأمين مصاريفه الشهريّة، وتحمل مسؤوليات الأسرة، وبعد تخرّجه يعجز عن إيجاد وظيفة يرتزق منها، وكما وصفه مأمون رضوان "أحق الناس بلقب فوضويّ"، فهو دائماً على قلق، صاحب نظرة توحي بالتحدّي والسخرية، ويتمتع بشخصية متمردة على الواقع. لقد دفعته فلسفته التي آمن بها دائماً إلى اتّخاذ الأمور ببساطة، دون اكتراث لما لها من عواقب وخيمة، قد تنقلب عليه في يوم من الأيام، فإذا "كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفته الحرية كما يفهمها هو "طظ" أصدق شعار لها. هي التحرر من كل شيء، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعيّ عامة!"(3).
ويأتي الحوار الداخليّ الذي يتمثّل في فلسفته من خلال الظروف التي يعيشها، وأيّ ظروف تلك؟ ظروف الأسرة التي لم يرث منها إلاّ الفقر. وهو الرافض لهذه الظروف بكلّ معطياتها وأبعادها، من خلال سخريته من نفسه:
"إنَّ أسرتي لن تورثني شيئاً أسعد به فلا يجوز أن أرث عنها ما أشقى به! وكان يقول أيضاً: إنَّ أصدق معادلة في الدنيا هي: ... + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طظ."(4).
هذه القيم التي تساوي عنده "طظ"، هي قيم ساقطة بالنسبة إليه في ظلِّ هذه الحياة، ويأخذ مركزيّته في هذا الوجود بالتفسير الديكارتي للوجود "أنا أفكر فأنا موجود"، وهو يعتبر نفسه أساس هذا الوجود، ولم يكتفِ أن تكون نفسه أساس الوجود، بل الوجود كلّه، وأهم من الوجود نفسه.
وتسعى الرواية إلى تفسير فلسفة محجوب عبد الدايم في الحياة، بما يقوله علماء الاجتماع أيضاً:
"من أنَّ المجتمع خالق القيم الأخلاقيّة والدينيّة جميعاً، ولذلك يرى من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة حجر عثرة في سبيل نفسه وسعادتها!."(5).
ووصل إلى إرشاد تمثّل في العلم ورجال العلم، وهو يسخر من كلّ هذا وذاك، ويؤكّد لنفسه حقيقة أنَّ دنياه هي اللذة والقوة والسعي إلى تحقيقها بأيسر الطرق والوسائل، ضارباً بعرض الحائط كل القيم والأخلاق والعلم والفضيلة، كلّ هذا نشأ معه منذ صغره في الشارع والبيت الذي تربّى فيه، فالبيت فقرٌ وحرمانٌ، والشارع في بلدته "القناطر" سبّ وقذف واعتداء على الآخرين، مثلما سُبّ واعتدي عليه. هذه حياته مع أمثاله من الصبية، فدخل المدرسة، ثم الجامعة، فوجد غير ما كان قد وجده في صباه من شباب طموح ومهذَّب، وله آمال ومُثل عُليا، وعَرَفَ نزعات جديدة تختلف عمّا عَرفه سابقاً، وهذه النزعات الفلسفيّة تقبّلها بسرعة، لأنَّها تخدم فلسفته التي سار عليها، وهي فلسفات علماء النفس والاجتماع والأخلاق، القادمة من الغرب والموصلة إلى الإلحاد، وقد أخذ منها ما يوافقه ويوافق حياته التي دائماً يتمرد عليها، فرفض مجتمعه القديم القائم على الفضيلة والأخلاق وتفسيراته الغيبيّة، فقلب موازينها، وبنى فلسفةً قائمةً على الرذيلة والفساد، يعبّر عنها بالمزاح والسخرية، ويؤمن بها وحده دون العالمين، ولم يكتفِ بذلك بل وصل إلى القناعة التامة بهذه الفلسفة الشيطانيّة:
"الحريّة المطلقة… طظ… ليكن لي أسوة حسنة في إبليس… الرمز للكمال المطلق… وهو التمرد الحق، والكبرياء الحق، والطموح الحق، والثورة على جميع المبادئ!"(6).
وقادته حياته تلك إلى التعلّق بفتاة جامعة أعقاب سجائر، وهذا الحبّ لم يختلف كثيراً في تفسيره عن فلسفته في الأشياء، فهو يصل إلى تصاعدٍ قويٍّ، واضطرابٍ نفسيٍّ من خلال حوارات داخليّة. فيحدّث نفسه في وحدته، قائلاً:
"لست خيراً" منها فهي جامعة أعقاب سجائر، وأنا جامع أعقاب فلسفة، ثم إنَّي في نظر المجتمع شر منها!"(7).
فهو جمع فلسفته من نخالة الفلسفة وفتاتها، وسط هذه الفوضى التي زرع نفسه فيها، يتذكر أباه في "القناطر" عندما جاءه خِطاب يخبره أنَّ أباه قد أصابه المرض، وأقعده الفراش، ويجب أن يعجّل في السفر إليه، هنا يلجأ الكاتب إلى الاسترجاع عن طريق الحوار الداخليّ الذي يتمثّل في مرضه المفاجئ، وهو العارف بأبيه القويّ الذي لم تثقل الأيام خطواته، فقرّر السفر سريعاً وهو يحدّث نفسه قائلاً:
"لو انتهى أجل الرجل لوأدت آمالي جميعاً.. رباه أيمكن أن يحدث هذا، وما عاد بيني وبين الامتحان النهائي سوى أربعة أشهر‍"(8).
هنا تبدأ المشكلة التي تأخذ في التفاقم، ويبدأ صراعه مع المجتمع. ونلاحظ أنَّ الكاتب يتدخّل عن طريق التعليق والوصف بين ذهنيّة الشخصيّة وبين القارئ، حيث إنَّ هذه الشخصيّة لا تختلف في حديثها النفسيّ عن حال الكاتب، وكان من المتوقع أنَّ الكاتب يشعرنا بالحوار الداخليّ من خلال شخصيّة ما. "فالمونولوج الداخليّ عنده لا يقوم في المحلِّ الأوّل بخلق العالم النفسيّ للشخصيّة، بل البرهنة على أفكار المؤلف. فالشخصيات تتقلّص وتنكمش وتصبح نماذج مختزنة كزوائد ملحقة بالفكرة التي تتكشّف وتشكّل مادة الرواية"(9).
لكنّ نجيب محفوظ يفاجئنا في روايته، فيرتب المصادفة ترتيباً يتلاءم مع الأحداث التي تتبع ذلك، وهذه الصدفة كان يمكن أن يبرّرها في موقف آخر من الرواية، حتى لا يشعر القارئ أنَّها صدفةٌ مقصودةٌ في وقت ضاقت بشخصية "محجوب عبد الدايم" الدنيا، وسوف تكون شخصية "سالم الأخشيدي" التي يلتقي بها أحد الأسباب التي توصله إلى السقوط في الفساد الفعليّ بعد أن كان يمارسه ذهنيّاً بفلسفته التي تبنّاها(10). ويعرض الكاتب من خلال الحوار الداخليّ لدى محجوب عبد الدايم، كيف أنَّ صديقه - سالم الأخشيدي - هذا الذي يتولّى مركزاً حسّاساً في الدولة كان في يوم من الأيام زعيم طلبة الكليّة، وهو الذي وزّع منشورات ضد الدستور الجديد، وكيف قابل الوزير، ولكن بعد مقابلته تلك تغيّر الحال وانقلب فجأة وأصبح شعاره" "ميدان الجهاد الحقيقيّ للطلبة: العلم!"(11)، وعُيّن فيما بعد بوظيفةٍ حسنةٍ كان واسطته الوزير الذي قابله، وهو نموذجٌ انتهازيٌّ متسلِّق إلى الوظيفة (12).
وبعد أن يلتقي محجوب عبد الدايم بأهله ويطمئن على صحة والده الذي أقعده المرض، يتلقّى الصدمة بقسوة وألم، فيحدّد مصروفه الشهريّ بعد أن كان ثلاثة جنيهات، أصبح جنيهاً واحداً فقط، وهذا سيجعله في فقرٍ مدقع وبؤسٍ دائم، ولكن لا خيار له، وهذا ما يخبرنا عنه الكاتب، وكثيراً ما يلجأ نجيب محفوظ إلى تفسير الأشياء أو طرح الأسئلة على الشخصيات. ويجيب عنها، وهنا نرى تدخّل الكاتب مباشرة في شخصيات روايته، ولو ترك هذا على لسان الشخصيات لأعطى الرواية عمقاً وبعداً أكثر نضوجاً واستكشافاً للموقف من قبل القارئ، فمثلاً قول الكاتب:
"فماذا هو صانع غداً بجنيه واحد؟!… هل يملك خياراً حقَّاً؟! كلا، إنَّ أباه مُكره، وما عليه إلا الإذعان والتسليم.."(13).
ويصوّر الكاتب عن طريق الحوار الداخليّ تشابك الأسئلة من جديد وتزايد القلق من المستقبل، فمحجوب عبد الدايم لم يكن يستطيع أن يكّيف نفسه سابقاً بثلاثة جنيهات فكيف به الآن بجنيه واحد؟، فيضيق ذرعاً بهذا الواقع، ويمقت حظه وقدره:
"لماذا قدّر له أن يولد في ذلك البيت؟ وماذا ورث عن والديه سوى الهوان والفقر والإمامة؟. أليس من الظلم أن يرسف في هذه الأغلال قبل أن يرى النور؟ ولو كان "ابن حمديس بك" مثلاً لكان له جسم غير هذا الجسم، ووجه غير هذا الوجه، وحظ غير هذا الحظ، ولذاق الطمأنينة والسلام، ولاقتنى سيارة"(14).
فلم يكن حظُّه إلاّ أسوأ حظ، ولم يترك قدره بحاله إلاّ ليبعث به من جديد فيزيده شقاءً وفقراً، فينظر حوله إلى أقرانه أمثال مأمون رضوان بحسدٍ وحقدٍ دائمين على ما هو فيه من سرور ودعة ورزق وفير وحبّ يهزّه طرباً ونشوة كل صباح ومساء، وأيضاً صديقه علي طه الذي يحسده ويكنّ له الحقد، ليس بأقل من مأمون رضوان فيلجأ دائماً محجوب عبد الدايم لإظهار ما في قلبه من حسد وحقد إلى السخرية منهما والاستهزاء بأفعالهما.
وتنتظم حياة محجوب عبد الدايم الجديدة بأن يأكل مع جماعات العمّال الذين تجمّعوا أمام دكان، والذي كان صديقه علي طه يرثي حالهم هذا، فيزيد من محجوب عبد الدايم بؤسه ورفضه للحياة، ويعلن على نفسه: "إمَّا النجاح وإمَّا الانتحار"، ولم يتوقف حظُّه وقدره عند هذه الحال التي آل إليها، وإنَّما يحاول الكاتب أن يفاقم الأزمة أكثر في شخصية محجوب، ليجعل من اتجاهها نحو الفساد سبباً مبرراً، ويقصد الكاتب أن نتعاطف دائماً مع شخصياته الشعبيّة مهما كانت انحرافاتهم، وزاد في شقائه:
"وبلغ الكرب ذروته حين طالبته الكليّة باقتناء كتاب اللغة اللاتينيّة، ثمنه خمسة وعشرون قرشاً، فأسقط في يده، ولم يجد من ثمنه مليماً واحداً، وقد بات الامتحان قريباً!"(15).
ماذا يفعل؟ ليقرّر زيارة قريبه أحمد بك حمديس بعدما رفض أن يسعى سائلاً في بابه، ولكن هذه الزيارة لم تُحقّق ما جاء من أجله، وهو مساعدته ماليّاً، فزاده حقداً وكرهاً لهذه الحياة، وكيف أنَّ أحمد بك حمديس لم يعره أي اهتمام أو سؤال، فالكاتب يسلّط الضوء من خلال استرجاع الذكريات عن طريق الحوار الداخليّ عند محجوب عبد الدايم على طفولته وأيام زمان، قبل خمسة عشر عاماً مع عائلته وعائلة أحمد بك حمديس الذي تغيّر به الحال، وأصبح موظفاً كبيراً يقطن الزمـالك، وفي ترف ترنـو إليه العيون(16).
فيفكّر محجوب عبد الدايم بابنة أحمد بك حمديس، ويسعى إلى ربط العلاقة بينهما ليصل إلى ما يفكّر فيه، ويتردّد في نفسه من الظفر بها، فهو ليس لديه مبادئ أو قيم أو أخلاق تردعه عمّا يفكر به. ويبدأ من خلال حديثه مع نفسه بالمقارنة بين فقره وغنى آل حمديس هذا، الفقر الذي اتّصف بالمرض والدمامة، وذاك الغنى الذي اتّصف بالصحة والجمال والرفاهية، كل هذا ويبحث عمّا جوّعه:
"ذلك الجوع الذي جعل من دراسته كفاحاً مريراً، ومن لياليه عذاباً أليماً"(17).
فيتحدّى قدره ويهدّد غاضباً بأنّه:
"سيدفع العالم ثمن هذه الآلام؟!"(18).
وعندما تأتي الفرصة المناسبة مع ابنة حمديس يحاول الاعتداء عليها، لكنَّها تصده، وتتركه بين حجارة الأهرام التي يتمنّى في هذه اللحظة أن يقذف بها القاهرة، وكلّما ضاقت به الحال تذكّر والده ولياليه السوداء، وليالي الجوع والهذيان، فيسعى إلى سالم الإخشيدي لمساعدته، ويدعوه إلى حفلة في دار جمعية الضريرات لمقابلة السيدة "إكرام نيروز"، ويكتب عنها مقالاً في مجلة النجمة، ويوافق فوراً، ويذهب إلى دار الجمعية، ومن الملاحظ أن نجيب محفوظ يوظف سخريته من هذه الدار بما تقوم به النساء والرجال في أبهى الثياب، وتبدأ الحفلة بإلقاء كلمة، وتبدأ مسرحية "لموليير"، وغناء لمدام "كارد" أغنيّة فرنسيّة، في حين أنَّ الضريرات مسلمات، ورقص وموسيقى إيطاليّة، وكؤوس مترعة، ومسابقة الجمال، كلُّ هذا في دار جمعية الضريرات؟!.
هذا التناقض في المجتمع، وهذا الزيف والتملّق يدفع بمحجوب عبد الدايم إلى أن يكتب مقالاً تختفي فيه الحقيقة، ويظهر فيه الزيف والتملّق، لينال إعجاب "إكرام نيروز"(19).
هكذا تتغير الحقائق، وهذا ما تقوم عليه فلسفة محجوب عبد الدايم، وتتعمّق فيه هذه الفلسفة لما عليه المجتمع من فسادٍ ورذيلة. لكن سالم الإخشيدي يتّصل بمحجوب عبد الدايم ويدعوه لمقابلته، وترك مقال "إكرام نيروز" ويعرض عليه الفرصة الذهبيّة التي طالما انتظرها، ليحقّق حُلمه البرجوازيّ على حساب كلِّ القيم التي تخلّى عنها محجوب عبد الدايم وحاربها، وهو زواجه من عشيقة قاسم بك فهمي مقابل الوظيفة.
ويدخل في صراع مع نفسه في أن يكون زوج عشيقة ووظيفة ومال ومركز، أم حياة بؤس وفقر دائم، لا يتردّد أن يطلق "طظ" في هذه اللحظة والمواقف، ويوافق فوراً. ويتم زواجه المفاجئ من "إحسان شحاته" حبيبة صديقه علي طه، فهي سقطت في الفساد والرذيلة، بعد أن هدّدها الفقر والجوع، وهدّد أخواتها السبعة وأباها وأمها. وما كان لها من وسيلة إلاّ الاندفاع بهذا الطريق، كما يبرّره لنا الكاتب، فيجعل من "إحسان شحاته" شخصيّة المرأة الساقطة ويبرّر هذا السقوط بالظروف التالية:
المُناخ الأُسريّ الذي نشأت فيه "إحسان"، فقد كان أبوها يرتزق في سوق النساء، حتى تزوجته أمها، ووهبته ما ادخرت من مال بدّده على المخدرات والقمار. فيصبح الاثنان متكافئين في الرذيلة، وكلّ منهما دفعته ظروفه إلى هذا، فهي لا تختلف أبداً عنه، فكلاهما واحد.
ويلجأ الكاتب إلى الحوار الداخليّ عندما يبدأ محجوب عبد الدايم في المقارنة بين الماضي والحاضر، وبين الحقيقة والزيف الجديد، وهذا ما ذكّره بأبيه عندما رأى صورة الفلاح المصريّ على ورقة الجنيهات العشرة:
"وتساءل لماذا لم يصوّروا أحد الباشوات؟.. أو العلم التركيّ؟!.. وقال لنفسه ساخراً: إنَّ هذه الصورة شبيهة بإمضائه على عقد الزواج"(20).
وقد ذكّره بدكان الفول بميدان الجيزة وليالي فبراير الباردة، عندما وجد نفسه يلبس طربوشاً وحذاءً وثياباً جديدة، وذكّره بباب سيارة ابنة حمديس عندما أقفلت في وجهه ساعة رحلتها للهرم ومحاولته الاعتداء عليها، وحاله الآن وهو يجلس على مقعد فخم ضخم وباب مكتبه الذي يُغلق عليه:
"وذكّره المرتب بوالديه اللذين ينتظران على لهفة نصيبهما من مرتبه"(21).
وكلُّ تلك الذكريات تأتي من خلال الحوار الداخليّ المتصاعد عند محجوب عبد الدايم:
"ليالي فبراير، دكان الفول بميدان الجيزة، رحلة الأهرام، تردّده بين الجيزة وشارع الفسطاط، والأخشيدي مادّاً يده بالسؤال، زواجه"(22).
كلُّ هذا ليبرّر محجوب عبد الدايم ما اتّخذه من قرارٍ جديد، وما تقبّله من أن يكون قوّاداً بقرنين. وتبدأ حياته الجديدة مع إحسان شحاته، ويعلم كلّ العلم أن زواجه منها ما كان إلاّ قواداً لها وهي "عاهرة" عشيقة لقاسم بك فهمي، مقابل حياة رغدة وعيشة هانئة:
"وجعل يوصي نفسه قائلاً: اقتل الشك. امحُ الكرامة من قاموسك، احذر الغيرة، أفرغ شهوتك، توثب للطموح. واذكر أنَّ ما أنت فيه هو الامتحان الأول والأخير لفلسفتك، فقل الآن، "طظ"، قلها بلسانك وبقلبك وبإرادتك.."(23).
ويصل به الأمر إلى أن يعرف حياته الجديدة، وما يدور بها فيعبّر عن نفسه، وهو عائدٌ إلى بيته:
"أنا في الحجرة والكبش في الحقل.. أنا في الحانة والبك في الحجرة"(24).
النموذج الثاني مأمون رضوان الذي تمثّل بالانتماء إلى اليمين، وهو يعبّر عن فكر الإخوان المسلمين(25)، وتنحدر شخصية مأمون رضوان من أسرة برجوازيّة منعَّمة مترفة آمنة اقتصاديّاً بعكس محجوب عبد الدايم الفقير المسحوق بطبقته وسط فساد الطبقات البرجوازية الأخرى. "ويكشف مأمون رضوان عن وجه الإنسان الناجي المؤمن المهتم بخلاص الإنسان وروحه"(26)، وهذا الكشف يأتي في بداية الرواية لتنحو الرواية منحىً آخر، أي تّتجه إلى رسم شخصية البطل محجوب عبد الدايم، وتختفي الأصوات الباقية من زملائه الذين يشكّلون تيارات مختلفة في المجتمع، الذين ينضمون تحت صرح الجامعة، ويحاول مأمون رضوان طرح فكرة بأنَّ الإصلاح واجب في طريقة الدعوة الدينيّة، وليس المشكلة في الدين نفسه، وإنَّما في الذين يقومون على هذا الدين، فالحوارُ الداخليُّ يكاد يختفي تماماً عند شخصيات الرواية، ما عدا بطلها محجوب عبد الدايم، وهذا الاختفاء ناتج عن اختفاء الشخصيات نفسها، وإنَّ الصراعَ المتمّثل في الرواية بعيدٌ كل البعد عن تلك الشخصيات الثلاث: مأمون رضوان، وعلي طه، وأحمد بدير، فهي شخصيات لا تعاني وتواجه ما يعانيه محجوب عبد الدايم ويواجهه من مشاكل.
ومحجوب عبد الدايم لا يكره مأمون رضوان كما يكره علي طه، وإنما كان دائماً يعتبره رجلَ دينٍ، ورعاً، ولهذا عندما ضاقت به السبل ذهب إلى مأمون رضوان يطلب مساعدته، لأنَّه:
"حقيق بأن يصون سرّه، ويحفظه بالغيب. جدير بأن يغضي عنه إذا تأخر عن قضاء دينه"(27).
كما قال محجوب عبد الدايم، ومأمون رضوان تُفتح له أبواب المستقبل، ويرشَّح لبعثة "للسوربون"، ويعود مأمون رضوان في الظهور عندما يقابل محجوب عبد الدايم، ويسمع منه تبرير زواجه من إحسان، وإنَّه لم يخن صديقه علي طه، وبعد انتهاء الزيارة:
"شعر محجوب وهو يصافح مأمون أنَّ الشاب يودّعه الوداع الأخير، وما أن سمع صفقة الباب وهو يغلق حتى بصق باحتقار وغضب وغمغم بحقد شديد "طظ""(28).
وفي الفصل الأخير من الرواية يجتمع الأصدقاء الثلاثة: علي طه، وأحمد بدير، ومأمون رضوان، ويدور حديثٌ بينهم وبعد "فضيحة القاهرة"(29) تلك، يظهر مأمون رضوان بمظهر الإنسان المسلم الذي يلقي عظاته وإرشاداته التي تلاقي اعتراضاً من صديقه علي طه الذي ينتمي إلى اليسار الاشتراكيّ، ويبرّر مواقف الآخرين أمثال محجوب عبد الدايم بأنَّ:
"حقيقة المسألة أنَّي أرى الخير متعلقاً بجوهر الروح، وتريانه، أو يراه الأستاذ تابعاً للرغيف. فإذا أحسن توزيع رغيف محق الشر..!"(30).
النموذج الثالث علي طه الذي يقدَّم تيار الفكر التقدميّ الاشتراكيّ، وهذه الشخصية تحاول إصلاح المجتمع، والانكباب على الكتب، وتطرح النظريات لحّل المشاكل السياسيّة التي يعاني منها المجتمع، وإذا نظرنا إلى علي طه نجده أيضاً من أسرة ثريّة منعَّمة اقتصاديّاً، ويسعى دائماً مع فتاته إحسان شحاته التي أحبّها، فيطرح آراءه وأفكاره عليها، دون النظر إلى المأزق الاقتصاديّ الذي تعانيه، فلهذا نجدها في حوارٍّ داخليٍّ يرتكز على حُلم يخرجها من الفقر الذي يهدّدها، ويهدّد إخوتها السبعة وأباها وأمها، فهي:
"تقول لنفسها مرات متأسفة: إنَّ العيش السعيد شباب وثياب! ولحظت بذلته الصوفية الأنيقة فرغبت في لومه"(31).
ويدخل في تناقض بين أفكاره وأفعاله، حيث إنَّه يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر: "والواقع أنَّه لم يكن يخلو من تناقض. كان كثيراً ما يستهين بالملابس والمأكل ونظام الطبقات، ولكنَّه كان يلبس فيتأنق، ويأكل لذيذ الطعام حتى يشبع، وينفق عن سعة"(32).
لهذا فشل في حلّ مشكلة إحسان شحاته، وكيف يكون ذلك؟ وإحسان شحاته ليس لديها مشكلة الثقافة، وإنَّما مشكلة الفقر الذي يهدّدها دائماً مع أسرتها. وانتهت قصة حبّهما سريعاً عندما سقطت إحسان في الرذيلة، فوجدت المال والثياب التي كانت تحلم بها.
ويجمع بين علي طه وزملائه الآخرين صداقة الدراسة بالرغم من اختلاف مشاربهم الثقافيّة، سواء محجوب عبد الدايم الذي كان يكرهه ويمقته ويحسده، أم مأمون رضوان النقيض التام لفكره، أم أحمد بدير الصحفيّ الذي يسجّل الأحداث دون التعليق عليها، كلّ هؤلاء كانوا ينهمكون في نقاشٍ فكريٍّ كلّما طُرِحَتْ مشكلة أو قضية أمامهم، ويختلفون الاختلاف كلّه، ويختفي صوت "علي طه" في الرواية، كما تختفي باقي الأصوات، ويعجز عن حلّ مشاكل المجتمع، ويبقى بين نظرياته وكتبه: "ونستطيع أن نجمع خيوط هذه الشخصيّة، فنجدها تقدّم التشدّق والضجيج بالشعارات الرنانة، والتجوّل بين النظريات المختلفة، وهو يبدأ حياته بالعمل في مكتبة الجامعة، والتسجيل لنيل الماجستير، ثم يترك هذا كلّه، ويقرر فتح مجلة يجعل منها منبراً لأفكاره الاشتراكيّة، وهذا رغم أنَّه لم يستقر على شيء بعد"(33).
أمَّا النموذج الرابع أحمد بدير الصحفي الذي يسجّل الأحداث التي تجري في المجتمع دون التعليق عليها، فهو "مراقب صامت على طول الرواية يعرف الأسرار ولا يتكلم، ويتعامل مع الواقع بمنطقه مع إدراكه لفساده"(34).
وعندما يدور النقاش في بداية الرواية بين الأصدقاء الأربعة حول المرأة، يسألون أحمد بدير عن رأيه فيقول باستهانة:
"على الصحفي أن يسـمع لا أن يتكلم، خاصّةً في عهدنا الحاضر"(35).
فهو إذاً مسلوب الإرادة والحريّة، فهو لسان الحكّام، يقول كما يأمرونه، ويأتي دوره دائماً بالذي يسأل عما يدور حولهم، وهو لا يُصرّح برأيه في هذه الأشياء، ويقوم بالتعريف بشخصيات المجتمع، كما فعل عندما التقى محجوب عبد الدايم في حفلة دار جمعية الضريرات: "فلا يبدو له أيّ دور في التركيبة النفسيّة التي تتشكّل من الرفاق الثلاثة الآخرين، وأنَّ النصَّ لا يشير إلى أي غرفة خاصة به في بناء دار الطلبة، وفي الحديث الذي يتناول به الرفاق علاقة الشباب بالفتيات ينحو دوره باستدراج الآخرين إلى التعبير عن آرائهم بهذا الخصوص"(36).
ويعلن في نهاية الرواية عن مجتمعه الذي تعوّد على مواجهة مثل هذه الظروف، ومثل تلك الفضائح التي كشفت عن شخصيات المجتمع الساقطة الغارقة في الفساد والرذيلة:
"إنَّ مجتمعنا يستطيع أن يهضم هذا الوزير وأمثاله إذا أساغه بشيء من النسيان. وسوف يقبع عاماً أو عامين أو أكثر في نادي محمد علي، وعسى أن تخرجه غداً المظاهرات الوطنيّة من عزلته، وتحمله كالأبطال إلى الوزارة مرة أخرى، فيعيد سيرته الأولى، أو يلعب دوراً جديداً، ومَنْ يَعِشْ يَرَ"(37).
عندما نمضي في قراءة الرواية لا نجد أنَّ أحداثها تضيف جديداً إلى محجوب. لقد كانت صفات محجوب التي حدّدها الروائي أشبه "بالقاعدة" العلميّة والأحداث التي تلتها أشبه "بالتطبيق" على هذه القاعدة. وكان أبلغ تطبيق عليها في الرواية هو زواجه من –إحسان شحاته، عشيقة قاسم بك وكيل الوزارة - لقاءَ أن يُعينه البك سكرتيراً لمكتبه. إنَّ محجوب نفسه كان يرى أنَّ في الأمر امتحاناً أو اختباراً لفلسفته: "فجعل يستصرخ ما جُبل عليه من جسارة واستهانة وفجور. أجل! ما الذي يُخجله؟ ما الذي يُؤلمه؟ أيؤمن بالزواج؟ أيؤمن بالعِفة؟ أيشعر بإِهانة في تصريح صاحبه؟ إنَّ الحياة تنبري لامتحان –فلسفة- ليثبت بالتجربة المحسوسة، أكانت سفسطة وجدلاً أو عقيدة وعملاً.."(38). وبهذا.. كانت شخصية محجوب شخصية "مُسطَّحة" يستطيع القارئ أن يحكم على نوع "الاستجابة" التي تواجه بها الأحداث عادة، فهي استجابة تخلو من الصراع، وتضع المصلحة الشخصيّة فوق القيم الاجتماعيّة، والمُنتظَر من الكاتب في كلِّ أدبٍ رفيع "أن يقدّم لنا النموذج البشريّ أو الشخصيّة الإنسانيّة في حركتها وفي تأثيرها وفي نموّها ككائن حيّ. وهو ما يُسمَّى عادة بديناميكية الرواية أو بتنامي أحداث الرواية. وبهذا الأسلوب يمكن أن يضيف الكاتب إلى فهمنا للحياة فهماً جديداً، ويرفعنا إلى مستوى أعلى من الوعي العام بالحياة والواقع. هذه مهمّة الروائي الأصيل"(39). ونقصد بالشخصيّة التي تتغير، تبعاً لتغيير الزمن والأحداث، ومع ذلك فشخصيّة محجوب من الشخصيات التي لا تُنسى؛ لأنَّ الكاتب من ناحية، ركّز فيها نوعاً واحداً من السلوك هو "الانتهازيّة"، وهو أيّ "الروائيّ" بهذا مثّل "شكسبير" الذي كان يركّز في الشخصية غريزة واحدة أو سلوكاً واحداً، غير أنَّ "شكسبير" كان يجسّم ذلك من خلال الصراع الذي خَفَتَ صوته في شخصية محجوب، لأنَّها شخصيّة "مقتنعة" بموقفها الانتهازيّ حيال المجتمع الظالم الذي لا يقوم على الحقِّ والعدل والأخلاق - كما يراه الروائيّ نجيب محفوظ – طبعاً، من خلال تصويره لشخص محجوب. من ناحية أخرى أتى ببعض الوسائل من خارج الشخصيّة ساعدت على تجسيمها من خلال زميليه علي طه ومأمون رضوان المحافظين على القيم، ثم من خلال التناقض بين حياته وحياة أفراد الطبقة الأرستقراطيّة كما ظهروا في حفلة جمعيّة الضريرات التي شهدها محجوب، وجرت في الحفلة كل المنكرات التي تمارسها الطبقة الأرستقراطية عادة. ثم التشابه بين شخصية محجوب وشخصية إحسان "التي تزوّج منها" من حيثُ إنَّ كُلاً منهما ذو فِطرة نزّاعة إلى الانحراف، وجدت ظروفاً سيئة فانحرفت، فالفطرة والبيئة والفقر كانت أسباب الانحراف والوقوع فيه، ولا ريب في أنّ هذه أسباب قاهرة لا يمنع من الوقوع في الانحراف تحت وطأتها إلا الإيمان العميق الذي يستهين بمباهج الحياة إلى جانب ما وَعد الله – تعالى - من النعيم في الجنّة.
ولم تخلُ حياة محجوب من مُصادفات، أهمها اثنتان: زواجه من إحسان شحاته، وزيارة أبيه له. عندما يقرأ المرء حكاية زواج محجوب من إحسان، فلا يملك إلّا أن يسأل نفسه: لماذا لم تسقط مع قاسم بك إلا إحسان، حبيبة علي طه، زميل محجوب؟ أما يدل هذا الجمع المدبّر على قدرة الروائيّ على خلق التواصل بين شخصيات روايته؟ ذلك حق، وإنَّ الروائيّ رمى من وراء ذلك إلى هدفين مهمّين؛ الأول: هو انتقاد علي طه الاشتراكيّ الذي اكتفى في علاقته مع إحسان بالشعارات، دون أن يقدّم لها شيئاً يعينها على مقاومة إغراء المال. أليست هي القائلة له، وهو يرى مِعطفها القديم ويدّعي أنَّ اللبس من الصغائر: يا لك من مُراءٍ أتعُدّ اللباس من الصغائر وأنت تتأنق مزهوّاً؟.، والهدف الثاني: أن يعمّق إحساسنا بمأساة محجوب، إذ لم تكن الفتاة التي تزوّجها ساقطة فحسبُ، بل كانت أيضاً حبيبة لزميله في الدراسة وصديقه "علي طه" وهذه – إذن- مصادفة مقبولة فنيّاً، لأنَّها مصادفة.. احتمال وقوعها كبير. أمَّا زيارة الأب فمع أنَّها مصادفة ممكنة الحدوث.. بعد أن رفض محجوب طلب سالم، بأن يتبادلا الوظيفة، - سالم الذي كان على اطلاع على كل شيء-، فإنَّها لا تخلو من الافتعال، لأنَّ الأب وصل قبل موعد زيارة وكيل الوزارة بساعة، وكان يمكن لإحسان أو محجوب أن يعتذر لوكيل الوزارة، فيخبره بالظرف، وبقدوم الأب؛ لأنَّ الفضيحة كان يمكن أن تقع، وأن يعاقب الجُناة دون حضور الأب، لأنَّ حضورَ الأب كثّف الجرعة الدراميّة في الموقف، مما جعل الموقف يبدو جارحاً، يبعث القارئ على النفور، والشعور بمأساويّة الحياة الاجتماعيّة بدل أن يضفيَ عليه جوّاً من التطهير للنفس، شأنَ الأدب الرفيع.
وأخيراً. كان يمكن أن يتصرف امرؤ كما يتصرف محجوب.. ثم يعلو ويعلو حتى يصبح من الطبقة الأرستقراطيّة دون أن يُفتضح أمره أو يصيبه مكروه.. كما كان مع سالم الإخشيدي الذي اتّخذ الانتهازيّة طريقاً كمحجوب، ولكنَّه اقترب من الطبقة الأرستقراطيّة دون ضجيج أو عجيج، بفعلٍ من الروائيّ. ومثل هذا يحدث في الحياة العربيّة غير المؤدلجة كثيراً. هذه الحياة التي لا تقوم على "نظام اقتصاديّ" عادل يؤمن بتكافؤ الفرص. وبذلك كانت نهاية الرواية منسجمة مع فلسفة الروائيّ؛ استقال قاسم بك، ونُقِلَ محجوب إلى أسوان يخوض بِحاراً من الظلمات نحو مصيرٍ غامض. "وتمتم محجوب بصوت مبحوح:
- "انتهى كل شيء. أعجب بها من حقيقة! أيخفق ذلك الكفاح الجبار ولمّا يتسلّم ماهيّته الجديدة؟. أتصاب الحظوظ كالأعمار بالسكتة القلبيّة؟!"(40).
هكذا الشخصيات الشعبيّة في الحياة تلعب دوراً مهمّاً في تطوير الأحداث داخل الرواية، فهي شخصياتٌ تتمردُ على واقعها، لكنَّها تسقط عندما تخرج من هذا الواقع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نجيب محفوظ، 1977، القاهرة الجديدة، مكتبة مصر، القاهرة، د.ط، 1977.
(2) فاطمة الزهراء محمد سعيد، الرمزيّة في أدب نجيب محفوظ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1984، ص32.
(3) نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، ص24-25.
(4) المصدر سابق، ص25.
(5) المصدر السابق، ص25.
(6) المصدر سابق، ص31.
(7) المصدر السابق، ص26-27.
(8) المصدر السابق، ص29.
(9) إبراهيم فتحي، العالم الروائيّ عند نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، القاهرة، ط1، 1988، ص26.
(10) قد اختلف مع محمود أمين العالم، الذي يعتبر الصدفة في كتابه "تأملات في عالم نجيب محفوظ"، ص39، "تعبيراً رمزياً لانتظام الأشياء"، واختلف – أيضاً- مع فاطمة الزهراء محمد سعيد، التي تعتبر الصدفة في كتابها: "الرمزية في أدب نجيب محفوظ"، ص40، "وسيلة فنيّة لتبرير الأحداث والسير بها، ولكنها تأخذ شكلاً أعمق في التناول.."، واتّفق مع عبد المحسن طه بدر، في كتابه: "الرؤية والأداة (نجيب محفوظ)"، ص260، "من غير المألوف أن يلتقي على رصيف القطار بسالم الأخشيدي بالذات".
(11) نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، ص33.
(12) قدّم نجيب محفوظ شخصياته الوطنيّة التي تنهار وتسقط وتُغيّر مبادئها فجأةً في رواية "زقاق المدق"، مثل شخصيّة المعلم كرشة، وفي رواية "اللص والكلاب" شخصية رؤوف علوان، وفي رواية "أولاد حارتنا" شخصيات أبناء الحارة جميعهم.
(13) نجيب محفوظ، نجيب، القاهرة الجديدة، ص40.
(14) المصدر السابق، ص40-41.
(15) المصدر السابق، ص52.
(16) انظر المصدر سابق، الفصل الثالث عشر، ص53-59.
(17) المصدر السابق، ص60.
(18) المصدر السابق، ص68.
(19) انظر المصدر سابق، ص100.
(20) المصدر سابق، ص120.
(21) المصدر السابق، ص161.
(22) المصدر السابق، ص172.
(23) المصدر السابق، ص135.
(24) المصدر السابق، ص147.
(25) وهذا النموذج نجده مكرراً في شخصيّة عبد المنعم شوكت في الثلاثيّة.
(26) عبد المحسن بدر، الرؤية والأداة (نجيب محفوظ)، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1985، ط1، ص256.
(27) نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، ص68.
(28) المصدر السابق، ص151.
(29) هذا اسم الرواية في طبعتها الأولى الصادرة عن نادي القصة، في نوفمبر، سنة 1935.
(30) نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، ص209.
(31) المصدر السابق، ص16-17.
(32) المصدر السابق، ص17.
(33) فاطمة الزهراء محمد سعيد، الرمزيّة في أدب نجيب محفوظ، ص42-43.
(34) عبد المحسن بدر، الرؤية والأداة (نجيب محفوظ)، ص256.
(35) نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، ص8.
(36) سامي سويدان، أبحاث في النصِّ الروائيّ العربيّ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1986، ط1، ص40.
(37) نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، ص209.
(38) المصدر سابق، ص107.
(39) محمود أمين العالم، في الثقافة المصريّة، دار الفكر، بيروت، 1955، ط1، ص26.
(40) نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، ص205.