أعوامٌ في القاهرة

أ.د. إبراهيم السعافين
أكاديمي وكاتب أردني

لم يكن الأمر سهلًا حين وصلنا القاهرة، تدبّرنا أمرنا كما أسلفت سابقًا، وانتظمنا في الدّراسة وتعرّفنا على الأساتذة والمعيدين والطلاّب، وشاركنا في النّشاطات الثّقافيّة والاجتماعيّة والطلّابيّة.
كانت البيئةُ الجامعيّةُ توفّر فرص النّشاط الثّقافيّ التي لا تقتصر على ما هو داخل أسوار الجامعة على ما في داخلها من أنشطةٍ ثقافيّةٍ موّارة، بل كانت تسحب الطلاّب خارج أسوار الجامعة حيث المنتديات والجمعيّات الثقافيّة والمسارح ودار الأوبرا وسواها، وكانت الإذاعة وبرامجها الثقافيّة ولا سيّما البرنامج الثاني من عوامل التّوجيه والتّثقيف، وكانت البيئة الثّقافيّة العامّة حاضنةً مهمّة في هذا الصّدد.
شاركتُ في مجلّة الحائط التي كانت تصدرها اللّجنة الثّقافية في القسم، وأذكر من ضمن مواد المجلّة حوارًا مع نجيب محفوظ يجيب فيه عن أسئلةٍ فكريّةٍ ووجوديّةٍ، وعن أسئلةٍ أخرى تتعلق بأدبه وحياته الشخصيّة، وكان أحد الأسئلة موجّها بصورة مباشرة عن الصّلاة. وشاركتُ في ندواتٍ ومسابقات شعريّة في كليّة الآداب وفي كليّة دار العلوم في مبناها القديم في حيّ المنيرة.
في السّنة الأولى نشرتُ أوّلَ قصيدةٍ عنوانها " بيتنا الخالي" عام ١٩٦٣ في جريدة فلسطين التي كانت تصدر في غزة قبل عام ١٩٦٧ في ملحقها الثقافيّ الذي كان يشرف عليه الشاعر محمد حسيب القاضي، وكانت أوّلَ مشاركة صحفيّة لي وأنا طالبٌ في المرحلة الثانويّة، وهي مقالةٌ سياسيّةٌ قصيرة تتحدّث بصورة عامّة عن تمدّد إسرائيل في القارّة الإفريقيّة ومطالبة الحكام العرب بالالتفات إلى هذا الخطر، ربّما في جريدة أخبار الأسبوع الأردنيّة أو في عمّان المساء التي كان يحرّرها عرفات حجازي، نشرها المحرّر في بريد القراء كما أذكر.
ومن مشاركاتي التي أذكرها مسابقة شعريّة في مدرّج كليّة الآداب، إذ شاركتُ في هذه المسابقة بقصيدة " أيّار وملّاح جديد" المنشورة لاحقًا في ديوان ( أفق الخيول)، وهي قصيدة استشرافيّة ترى أنّنا نسمع وعودًا ولا يتحقّق منها شيء، وهكذا في كلّ عام. ومن طريف ما جرى أنَّ عددًا من الجمهور سألني بصوت عالٍ: "إيه أيار" لأنّ النّاس في مصر يستخدمون لفظة (مايو).
وألقى معنا شعراء العامية، ففازوا على شعراء الفصيحة وكان منهم الشّاعران المهمّان: عبد الرحيم منصور ومجدي نجيب اللذان لفتا الأنظار.
لا أدري لماذا سألتُ محكّم المسابقة الشّاعر كمال عمّار عن مسوّغات النتيجة، وربما جاملني وقال: أنت الأول من بين شعراء القصيدة الفصيحة. وأذكر أنّني شاركتُ في مسابقةٍ شعريّة في كليّة دار العلوم أشرف عليها الأكاديمي الشّاب آنذاك محمود الرّبيعي، وحصلتُ فيها على مركزٍ متقدّم. وشاركتُ بعددٍ من القصائد في الجمعيّة الأدبيّة المصريّة التي كان من أنشط أعضائها عزّ الدين إسماعيل وصلاح عبد الصّبور وفاروق خورشيد وعبد الرّحمن فهمي وأحمد كمال زكي. وكان من روّادها أهمّ الوجوه الثّقافيّة المصريّة من أمثال عبد القادر القطّ ومجمّد النّويهي وشكري عياد وسعد أردش وغيرهم، وأذكر في إحدى ندوات الجمعيّة أنّ عبد المحسن بدر وأنا أقف إلى جانبه، قدّم عبد المنعم تليمة لعبد القادر القطّ بقوله: "عبد المنعم تلّيمة معيد عندنا بالقسم".
وكان من حسن الحظّ أنّ نقّادها كانوا متواضعين محبّين تملؤهم الحيويّة والحماسة؛ فأذكر ممن قدّمونا صلاح عبد الصّبور وعز الدّين إسماعيل، وأذكر أنني قرأتُ قصيدةً عنوانها " الفارس والساعة" قريبة في رؤيتها من قصيدة "أيّار وملّاح جديد" فكان الذي يعلّق على القصائد أستاذي شكري عيّاد الذي وقف فيها عند بعض ملامح الغموض. كان عدد الذين قرؤوا في تلك الأمسية اثني عشر شاعرًا.
لم يكن التعصّب للأشكال الشّعريّة عند الشّعراء الكبار حادًّا، بل كان الحديث أقرب إلى الهدوء والموضوعيّة، فأذكر في إحدى الندوات التي شارك فيها شكري عيّاد وصلاح عبد الصّبور، وقد تطرّق النقاش إلى مستقبل قصيدة التّفعيلة أنّ الحوار جرى على نحو ما أسلفت. كان عبد الصّبور واحدًا من روّاد قصيدة التّفعيلة، ولكنّه كان منفتحًا وموضوعيًّا ومتواضعًا. إذ قال ما معناه في هدوءٍ وموضوعيّةٍ وبتسامح:
"قد يبقى الشعر الحر (الجديد، شعر التفعيلة) ويرسخ، وقد يمر أربعون عامًا فيصبح أثرًا من بعد عين، الأمر مرهون بالزمن..."
ولم يكن عندئذٍ يعلم أن وقتًا ما سيأتي، تُنافس فيه قصيدة النثر، قصيدة التفعيلة وقصيدة الشطرين معًا.
كانت كليّةُ دار العلوم بالمنيرة شعلةَ نشاطٍ ثقافيٍّ في تلك الأيّام، وكان طلّابها يشاركون في الحركة الشعرية جنبًا إلى جنب مع كبار الشعراء أمثال محمود حسن إسماعيل، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد الفيتوري.
في هذا الجوّ الثّقافيّ الموّار عرفت محمد عزّ الدين المناصرة الذي أصبح اسم الشهرة لديه عزّ الدين، واسمه ليس مركّبًا. كان هو وصالح أبو أصبع بعدي بسنتين، ولكنّه كان نشيطًا في النّدوات واللّقاءات وكان من غرفته المتواضعة مراسلاً لمجلّة الأفق الجديد التي كانت تصدر عن دار المنار بالقدس، وقد أجرى مقابلاتٍ مع رموزٍ أدبيّة مهمّة وأدباء ناشئين.
نشرتُ في "الأفق الجديد" مقالةً نقديّة قصيرة، وقصّةً قصيرة عنوانها "انتحار بالتقسيط"، ظهر العنوان مع عنوان قصة محمود شقير " بقرة اليتامى" على غلاف المجلة، وقد أشارت لي المجلّة بأقلام كتّابها شاعرًا وقاصًا.

شاركتُ في ندوةٍ شعريّة في كليّة دار العلوم بترتيب من عزّ الدّين المناصرة مع عدد من كبار الشّعراء، وكان مبعث الفرح والاعتزاز أن رأيت اسمي أنا مع صديقيّ عزّ الدين المناصرة وعبد الرحمن غنيم على بطاقة رسميّة إلى جوار شعراء مكرّسين كبار مثل محمود حسن إسماعيل ومحمد الفيتوري ومحمد التّهامي وفاروق شوشة. وأذكر استقبال الشاعر الكبير علي الجندي، عميد كلية دار العلوم لنا في مكتبه قبل الندوة، إذ قال لنا: "إنَّ كبار القوم من حكام ورؤساء ووزراء يحلمون بأن يكونوا شعراء".
كان ثمّة أربع مجلاّت تّصدرها وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ تجتمع مكاتب محرّريها في مكان واحد: مجلّة الشّعر ويرأس تحريرها عبد القادر القطّ ويشاركه في التّحرير محمود حسن إسماعيل، ومجلّة القصّة ويرأس تحريرها ثروت أباظة، ومجلّة الرّسالة ويرأس تحريرها أحمد حسن الزيّات ويتولّى عبده بدوي سكرتارية التّحرير، ومجلة الثّقافة ويرأس تحريرها محمد فريد أبو حديد ويتولّى سكرتارية التحرير عامر بحيري.
لقد نشأت علاقةٌ طيّبةٌ مع عبد القادر القط الذي رجوته أن يقرأ مخطوطًا شعريًّا لي فرحّب بكرم نادر، ووجّهني توجيهاتٍ مهمّةً أفدت منها في كتابة نصوصي الّلاحقة، ثم نُشر لي في آب عام ١٩٦٥ قصيدة" البرتقالة الحزينة". وكم كانت فرحتي حين رأيت القصيدة في المجلّة تتوسّط قصيدة عز الدين إسماعيل الأولى وقصيدة صالح جودت الثالثة.
وقد اعتدتُ أن أجلسَ مع الشاعر عبده بدوي في زياراتي لهذا المكان، وأقرأ له بعض شعري، وكان يضحك كثيرًا حين يشعر بحماستي في التّعبير عن القضايا الوطنيّة والقوميّة. وقد شهدته في إحدى الزّيارات يقرأ من بعض الكتب للأستاذ أحمد حسن الزيّات الذي كان يعاني من ضعف بصره الشّديد. كانت جلساتٍ ممتعة، تعلّمت منها كثيرًا، لقد كانت تلك الجلسات مفعمةً بالمعرفة والتّواضع وسموّ الأخلاق.
ولا أنسى ما كنّا نختزنه في رؤوسنا وصدورنا من ذكرياتٍ عن الفنّ والأدب والحياة في مصر الجميلة، وننتظر الفرصة التي نغتنم فيها بعض هؤلاء المطربين والفنّانين المشهورين، فقد اتفّق الأصدقاء والزّملاء في الأيّام الأولى لوصولنا إلى القاهرة، بحماسةٍ شديدة، على حضور حفلةٍ غنائيّةٍ، ضمّت مجموعة كبيرة من المطربين منهم محمد عبد المطّلب وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ومحمد قنديل ومحرّم فؤاد وعبد اللّطيف التّلباني وعبد الوهّاب الدوكالي، وربّما فايدة كامل. كانت تذكرة الدّخول لكلٍّ منا بنصف جنيه فيما أذكر.
وفي هذه الأثناء سحرتنا الأوبرا المصريّة مبنىً ومعنى، كان بناؤها من الفخامة والعراقة ما يبعث في النّفس الرّهبة والرّغبة، وقد شاهدنا فيها أهمّ العروض لمسرح شكسبير، وأذكر حمدي غيث في دور "هملت" أو "مكبث" على المسرح والسيف في يده، وهو يرتدي قلنسوة الأمير.
وكم شهدنا مسرحيّات مختلفة على المسرح القوميّ المصريّ ومسرح البالون ومسرح الجيب والمسارح الأهليّة وسط القاهرة وفي أحيائها المختلفة، وكم شهدنا في دور السّينما من أفلام عربية وأجنبية. أذكر أنَّ أستاذنا عبد المحسن بدر وهو يدرّسنا مسرحية(بجماليون) لتوفيق الحكيم وجّهنا إلى مشاهدة فلم (سيّدتي الجميلة)
(My fair lady)المأخوذ عن مسرحية بجماليون لبرنارد شو.

وقد حضرنا، في الأيّام الأولى لوصولنا هذه المدينة السّاحرة التي لا تنام عروضًا للسيرك وعروضًا للسّحر وخفّة اليد. وكان رمضان وموسم سيّدنا الحسين من أمتع المناسبات التي كنّا نحرص على ألاّ تضيع بهجتها. نؤمّ سرادق الغناء الشّعبي الذي يتبارى فيه المطربون الشعبيًّون حيث تتجلّى "خضرة محمّد خضر" بأغانيها الشعبيّة الجميلة. وخضرة هي زوجة جامع التّراث الموسيقيّ الشعبيّ المشهور المشتغل بالمأثورات الشعبيّة زكريا الحجّاوي، وما عليك إلاّ أن تدفع سوى خمسة قروش، أو عشرة قروش(صاغ) ثمن فنجان الشاي الذي يؤهّلك بجدارة للحضور والاستمتاع.
وفي هذا الموسم الجميل، موسم سيّدنا الحسين يمكنك أن تشتري من معارض الكتب بأرخص الأسعار، فمن الكتب التي اقتنيتها كتاب الأغاني الذي صدر في ستة عشر جزءًا وفصلة صغيرة. اشتريت الكتاب بستة عشر قرشًا للجزء بخصم عشرين بالمائة من سعره الأصلي عشرين قرشًا، ولك أن تشتري كتابًا مترجمًا هو كتاب" إي إم فورستر" (بناء الرواية) ترجمة إبراهيم الصّيرفي بثمانية قروش، وتشتري عدد المجلّة بخمسة قروش.
ومن الذّكريات الجميلة التي لا تغيب عن البال ما نظّمه اتّحاد الطلّاب في الكليّة، فقد أعلن عن رحلةٍ إلى الإسكندريّة مدّتها ثلاثة أيّام، ولم يكن المبلغ المطلوب إلّا نصف جنيه. هذا المبلغ يغطّي السّفر بالقطار ذهابًا وإيابًا، والإقامة في فندق محترم، ووجبات ثلاث من المشاوي والأسماك. كانت هذه الرّحلة في شهر نوفمبر/ تشرين الثّاني زرنا فيها معالم الإسكندريّة، وزرنا قصر التّين، وتجوّلنا فيه، ولأوّل مرة أرى نجفة توزن بالأطنان. سرنا على شاطئ القصر، وجلست على صخرة تدكّها أو تفتّها الأمواج، خلتُها صخرةَ "خليل مطران" في قصيدة (المساء) التي مطلعها:
داءٌ ألمّ فخلت فيه شفائي من صبوتي فتضاعفت بُرحائي.
وفي هذا اليوم نعى النّاعي الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الشّهير. كان الناس رجالاً ونساءً يعبرون الشّارع من الشاطئ إلى أماكن سكناهم بلباس البحر، وكانت المدينة أشبه بمدينة أوروبيّة عريقة.
والذي لفتني في هذه الرّحلة أنّ الطلّاب والطالبات كانوا يعاملون بعضهم بعضًا في غاية الأدب والتّهذيب، مع أن الغناءْ قد يتجاوز المألوف كما حدث في القطار في رحلة العودة إلى القاهرة، مثل أغنية:
"شاميّة يا رنج شامي، يا مشقشق على الصّواني
قلتلها يا حلوة أوريني عَ خدّك وفرّجيني
قالت لي روح يا مسكينِ دا خدّي تفاح الشّام...".
إلى أن تبلغ الأمور إلى المحظور
قال الشباب مستأذنين الصّبايا: (حنلبّخ) فأخذوا الإذن، ولم تكن إلاّ البهجة المقرونة بالأدب والاحترام.
وأمّا التّهريج الذي يأخذ طابع التّمثيل فكان يبعث على البهجة مثل قول أحد الشباب محاكيًا اللهجة السّودانيّة الجميلة وفي حركاتٍ مسرحيّة:
"كنتِ ماشي في الأنفوشي، كبّوا ميّة على طربوشي
قلت لي كده يا أنفوشي، إنت ليه بِتَكُبِّ الميّة
طلع لي واحدْ، تخينْ مصارعْ،
يتعلّم فيَّ الحركاتْ"
ومثلها:
"كنتِ ماشي في المطريّة، كبّوا ميّة على جلابيّة
قلت لي كده يا جلبيّة، إنت ليه بتكبّي الميّة
طلع لي واحدْ تخينْ مصارعْ،
يتعلِّمْ فيَّ الحركاتْ".
ومما أذكره أنّ اتّحاد الطلبة كان ينظّم يومًا سياحيًّا لزيارة معالم القاهرة، مثل زيارة القلعة والمتاحف وسواها مقابل عشرة قروش فقط. لقد زرنا الأهرامات أيّام كان مسموحًا زيارة أقبيتها ودهاليزها وحجراتها، وزرنا متاحفها ومكتباتها ونواديها ومسارحها ومقاهيها وآثارها الثقافيّة كافّة، القاهرة التي تنطق بالعراقة والجلال والقدم.
وأذكرُ وأنا في السّنة الرّابعة، أي السّنة الأخيرة، زيارةً للوادي الجديد، حيث واحات الداخلة والخارجة، والوادي الجديد هو الوادي الموازي لوادي النّيل.
ركبنا القطار من باب الحديد باتجاه أسيوط، ومن أسيوط ركبنا الباصات باتّجاه الواحات. استغرقت الرحلة خمسة أيّام ممتعة، أدخلت البهجة على المشاركين فيها تلك الفرقة الموسيقيّة التابعة لكليّة الطبّ البيطريّ، وقد كان في هذه الكليّة العريقة طاقات فنيّة كبيرة من موسيقيّين وممثّلين. وتخلّل الأمسيات غناء وموسيقى وقراءات شعريّة ومطارحات وفكاهات.
ولا أنسى ذلك الفتى الواحاتي الذي اقترب منّا بحياء ولكن بشغف، خلته حينها أنّه الفتى طه حسين الطّلعة الذي يريد اكتشاف العالم الخفيّ، يسألُنا باهتمامٍ بالغٍ عن القاهرة، وعن كلّ ما يسمع عنه في هذه المدينة البعيدة مما تتوق له النّفس ويحلّق به الخيال، أملاً بأن يتحقّق له الحلْمُ في يومٍ ما، ولعلّه اليوم حقّق حلمه المستكنّ، وأصبح من خيرة الخيرة في وطنه وأمّته.
ولعلّ من أغرب ما علق بالذّاكرة أنّنا شاهدنا النّاس يخبزون على نحوٍ عجيب، إذ يضعون أقراص العجين تحت أشعّة الشّمس الحارقة في الشّتاء، وما هي إلاّ مدّة يسيرة إلاّ وقد نضج خبزًا لذيذًا شهيًّا. لقد كانت الرّحلة في شهر فبراير/ شباط، كان الجوّ شديد البرودة ليلاً، حارًا في النّهار.
وممّا أذكره في هذه الرّحلة أنّنا دخلنا قريةً بيوتها طينيّة، وشوارعها وأزقتها مسقوفة. وما أنْ رأتْنا نساؤها حتى هُرعن إلى بيوتهن يحتجبن عنّا. قرية خلتها من زمن الفراعنة. وقد نستغرب إذا عرفنا أن كلّ واحد منّا تكلّف جنيهين اثنين فقط، أو جنيهين ونصف مقابل كلّ شيء.
كانت رحلة ممتعة حقًّا، على الرّغم من مخاطر الطّريق، فقد كانت العواصف الرّمليّة تكدّس الرّمال في طريق الحافلة ما يدعو إلى التوقّف لإزالة هذه الأكداس من الرّمال. لقد كان التّعليم أشبه بالمجّاني، فكنّا لا ندفع رسومًا، مع أنّ الأونروا ملزمةٌ بتسديد الرّسوم لو تطلّب الأمر ذلك.
وهنا لا بدّ أن أذكر ما قاله صديقي الدكتور أحمد الرّشدان طبيب الأسنان: إنّ مصر قدّمت تعليمًا مجّانيًّا بكلّ متطلباته لأجيالٍ من المتعلّمين في مصر والعالم العربيّ.
ومن طريف ما أذكر أنّني حضرتُ مسابقةً شعريّةً في كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة، كان محكّماها لويس عوض وعبد القادر القطّ، وكانت المعركة محتدمة بين لويس عوض ومحمود محمد شاكر. كان لويس عوض المستشار الثقافيّ للأهرام قد نشر مقالة عن مصادر ثقافة أبي العلاء المعريّ، وأشار إلى أنّ أبا العلاء المعريّ قد مرّ، في زيارة لأنطاكية، براهبٍ في دير الفاروس واستقى منه بعض فلسفته وأفكاره، فاستفزّ ذلك محمود شاكر أبلغ استفزاز، واتّهم لويس عوض بأنّه نفخ في رواية ضعيفة، وأنّه خبيث القصد والطّويّة، وراح ينشر مقالةً كلَّ خميس في مجلة الرّسالة يردّ فيها على لويس عوض ويهجوه هجاءً قبيحًا. وقد نُشرت المقالات أخيرًا في كتابٍ عنوانه " أباطيل وأسمار" يبدأها بكلمة (بل) مثل (بل معيبًا)،(بل قبيحًا)، واستمرت المقالات إلى حين توقّفت المجلّة ونظيراتها الثلاث عن الصدور عام 1965.
قلتُ للويس عوض: ما رأيك في مقالات محمود محمد شاكر التي ينشرها في مجلّة الرّسالة؟. فأجابني في شيء من الاعتداد، ببيت شعرٍ للشاعر زياد الأعجم كنايةً عن عدم الاكتراث، وقد خالني من أنصاره أو مشجّعيه:
وإنّا وما تلقي لنا إن هجوتنا لكالبحر ما إن تُلقِ في البحر يغرقِ.
وألقيتُ السّؤال نفسه على عبد القادر القطّ، فعبّر عن استيائه من حدوث المعركة، وأنحى باللاّئمة، إلى حدٍّ ما، على لويس عوض الذي استفزّ محمود شاكر باعتماده روايةً ضعيفة، وأنّه تعرّض لقضيّة حسّاسة وليست من اختصاصه. ولم أكن من قبل قد رأيت محمود شاكر ( رأيته فيما بعد في ندوة حول عبد المحسن بدر بعد وفاته في مدرّج كليّة الآداب بجامعة القاهرة، ورأيته مرةً أخرى برفقة إحسان عباس في فندق ريجنسي بعمّان).
كانت الجامعات تستقطب في ندواتها كبار النقّاد والعلماء والشعراء، ومهمّة النّقد العالم في غاية الأهمية، لأنّ ضعف النّقد، أو المجاملة، يصيبان الحركة الإبداعيّة في مقتل.
عرفت أمل دنقل في الجمعية الأدبيّة المصرية، عرّفني عليه زميلي وصديقي سيّد أحمد الشّرنوبي. كان أمل، كما يقول سيّد، أستاذه في الإسكندريّة، ولا أدري كيف كان أمل أستاذه وهما متقاربان في العمر. كان أمل دافئًا ولكنَّه عصبيّ المزاج وخاصّة حين يستفزّه ما يتعارض مع مواقفه أو أفكاره. رحل سيّد مبكّرًا نتيجة التهاب الزائدة، أخبرني حسن توفيق، بمرارة، أنّه توفي نتيجة خطأ طبيّ. كان سيّد ناقدًا واعدًا لدرجة أن أمين الخولي علّق على مقالة له في حواشي مجلته "أدب".
ولقد كان بعض المفكّرين الإسلاميّين يقيمون الندوات في أماكن مختلفة. أذكر ندوةً تحدّث فيها أحمد الشّرباصي وأحمد علي باكثير. ومن طرائف ما شهدت في إحدى الندّوات ما جرى لراقص باليه بريطاني وكيفيّة دخوله في الإسلام. كان راقص الباليه البريطانيّ يتحدّث، ويترجم له مترجم ما يقول. يقول هذا الرّجل: كنت راقص باليه مشهور، حتّى تعبت من الشهرة والأضواء، وأحسست أنّ حياتي تافهة، فقرّرت أن أعتزل كلّ شيء، وأن أسافر إلى الهند باحثًا عن الحقّ والحقيقة. وهناك مارست المجاهدة ورياضة التصوّف، وعشت حياة الشّظف والتقشّف، آكل ما يقيم أودي، وأغسل ملابسي بنفسي، ورحت أمشي حافيًا على الصّخور حتّى دميتْ قدماي، سائلاً الله أن يرشدني إلى الحقيقة. وبينا أنا نائم وإذا برجلٍ على ظهر حصانٍ يقف أمامي، فأقول له: من أنت؟ فأجابني: أنا محمّد، نبيّ الإسلام. وعندما صحوتُ سألت عن الإسلام، ولم أكن سمعتُ عن محمّد أو عن الإسلام، فدلّوني على رجل يقرأ القرآن، وكان الرّجل هو صلاح أبو إسماعيل عضو البعثة الأزهريّة في الهند.
كان صلاح أبو إسماعيل مدرّس التربية الإسلاميّة في مدرسة الأورمان الثّانوية أنيقًا فارع الطّول وسيمًا غير ملتحٍ يستقطب طلاّب الجامعة في خطبة الجمعة في مسجد صغيرٍ في قبو عمارة في ميدان الدقّي، يضيق المسجد بهم فيجلسون خارجه، وقد جلسوا على السّجاجيد وأوراق الصحف.
اعتنق راقص الباليه الإسلام وقرّر أن يقيم في بلد الأزهر حيث أصبح مدرّسًا للغة الإنجليزية بجامعة الأزهر. وقد علّق أحد المنتدين على كلام راقص الباليه هذا: "أخشى أنْ يخيب ظنّ هذا الرّجل وهو يرى ما يتعارض مع ما يحلم به أو يرجوه في بلد الأزهر".
ولم يكن الشّعر الجديد كما سمّاه محمد النّوّيهي أحد فرسان النّدوات الثّقافيّة والأستاذ بالجامعة الأمريكيّة بالقاهرة، وأحد روّاد الجمعيّة الأدبيّة المصريّة مقبولاً من الجميع، فما زال الموقف مترجّحًا؛ فقد علّق مذيع على ما قالته سهير القلماوي حول ندوة شعريّة: " وسخرتْ ما شاءت لها السّخرية من الشّعر الحرّ أو الحديث" وراح صالح جودت يعيب الشّعر الحرّ، ويسخر منه:
"الشّعر لا الشّعر الجديد
المستبيح لكلّ عورة
الشّعر إن الشّعر إلهام وفكرة
لا ما يقول العابثون بكل قافية وشطرة
الشّعر لولا الشّعر ما قامت على الطّغيان ثورة".
كانت السّاحة تتسع لشعراء الشّطرين وشعراء القصيدة الجديدة، مثلما تتّسع لطه حسين، والعقّاد، وتوفيق الحكيم، والزيات، وأمين الخولي وشوقي ضيف وسهير القلماوي، وبنت الشاطئ، وعبد القادر القطّ، ولويس عوض، وعثمان أمين، وزكي نجيب محمود، وعبد الرحمن بدوي، وتوفيق الطويل، مثلما تتّسع لسيّد قطب، ومحمد الغزالي، وأحمد الشّرباصي، ومحمد محمد حسين، ومحمود شاكر وغيرهم.
وأذكرُ أنّ حديثًا جرى حول انتخابات رئاسيّة فخرجتْ مسيرة من كليّة الآداب على رأسها وكيل الكليّة عالم النفس الإكلينيكيّ عثمان نجاتي، توجّهتْ إلى مبنى مجلس النوّاب بعابدين الذي كان يرأسه أنور السّادات، وكانت المسيرة تهتف: "يا أنور، يا سادات، رشحْنا جمال بالذّات".
أمَّا عن الحياة الفنيّة فكانت تضمُّ الأعلام الذين يعزّ نظراؤهم في أيّ زمان. كانت القاهرة قبلة الباحثين عن الفنون من كلّ لون وجنس، ومنطقة الجذب لطلاّبها من أنحاء العالم العربيّ.
كان الغناءُ يشغل الرّأي العام في كثيرٍ من الأحيان ولا سيّما حين يتّصل الأمر بكبار المطربين والموسيقيّين؛ فلا أنسى ما ضجّت به وسائل الإعلام حين التقت أمّ كلثوم بمحمّد عبد الوهّاب، وكان المانشيت الرئيسيّ في الأهرام : "ًلقاء السّحاب بالسّحاب"، حين غنّت أم ّكلثوم أغنية " انت عمري" من كلمات أحمد شفيق كامل وألحان محمد عبد الوهّاب.
ولا أنسى الحركة الصحفيّة؛ فقد كان مقال محمد حسنين هيكل (بصراحة) المقال الذي ننتظره كلّ يوم جمعة في الأهرام. فعلاوةً على ما كان لهيكل من أسلوب أدبيٍّ جميل يجعل مقالته مشوّقة جدًّا، كانت جذّابةً أيضًا لما تتضمّن من معلومات وأفكار وأخبار لصلته المباشرة بمطبخ السّياسة، فقد كان قريبًا من جمال عبد النّاصر وصانعي السّياسة في مصر.
أذكر أنّني قرأتُ له مقالةً يسوّغ فيها استقالة كمال الدّين حسين وعبد اللّطيف البغدادي من مجلس قيادة الثّورة، قيل آنذاك، بسبب معارضتهما لمشاركة الجيش المصري في نصرة الثورة في اليمن، فقد قال ما معناه: إن للثّورة تقاليد تحفظ فيها ما لأعضائها من تاريخ، وإذا اختلفت معهم تقول لهم: نحفظ لكم ما قمتم به وارتاحوا.
أذكر أنّني استغربت ذلك التّسويغ.
كان هناك ثلاث صحف رئيسيّة هي: الأهرام والأخبار والجمهورية التي كان يرأس تحريرها ناصر الدين النشاشيبي، إلى جانب صحيفة المساء، وكان من كتاب الأعمدة الكبار بعض الصحفيّين العرب مثل عميد الإمام.
وكانت الحركة الرياضيّة في أوجها، كان أغلب الناس من أنصار الأهلي والزّمالك، وكانت الأندية تضمّ بعض اللاّعبين العرب مثل مروان كنفاني وفؤاد أبو غيدا لاعبي النّادي الأهلي. أمّا أنا وزميلاي في السّكن عبد الرّحمن ومنذر فكنّا من أنصار نادي الترسانة (الشّواكيش) وكنّا معجبين باللاّعبين الرّائعين حسن الشاذلي ومصطفى رياض.

ومن الذّكريات الجميلة احتفاء الجمعيّة الأدبيّة المصريّة بصدور المسرحيّة الشعريّة "مأساة الحلّاج" للشّاعر صلاح عبد الصّبور التي رأى النقّاد أنها تأثّرت بمسرحيّة "ت. س. إليوت" "جريمة قتل في الكاتدرائيّة" التي ترجمها صلاح عبد الصّبور نفسه.
كانت الأمسية عبارة عن قراءة للمسرحيّة بصوت المخرج المسرحيّ اللامع سعد أردش. افتتح الأمسية عزّ الدّين إسماعيل بقوله: جميلٌ أن يجد النقّاد أعمالاً بين الحين والآخر ينشغلون بها مدةً طويلة مثل هذا العمل المهم "مأساة الحلاج"، وكأنّ النقّاد في راحةٍ، ينتظرون عملاً ليمارسوا نشاطهم. كانت تلك أشبه بدعابة من صديقه عزّ الدّين إسماعيل.
قرأ سعد أردش العمل كلّه بصوته المسرحيّ الجميل قبل أن يبدأ النقاش والحوار والتعليق.
وأذكرُ أنّنا بعد حضور إحدى الندوات رافقْنا الشّاعر كمال نشأت باتجاه رمسيس مشيًا على الأقدام. أثاره أحد الأصدقاء حين ذكّره بتعليق أحمد كمال زكي في البرنامج الثاني، والبرنامج الثاني كان مختصًّا بتقديم البرامج الثّقافيّة.
راح يشتم الحالة الثقافيّة والشلليّة والتحيّز الإيديولوجي. والنّفخ في شعراء ليس لهم حظّ من الشّعر، شتائم مقذعة، قال أحمد كمال زكي عن كمال نشأت: وكان يمكن له أن يكون ثالث ثلاثة لولا أنَّه... وراح ينقده نقدًا لاذعًا. عدّه كمال نشأت نقدًا منحازًا وغير موضوعيّ.

وقد أسعدني الحظّ بأنْ كنتُ في مرحلة اللّيسانس أو البكالوريوس ضيفًا دائمًا على إذاعة فلسطين، وأظنّها كانت تابعة لإذاعة صوت العرب. كان ثمّة برنامجٌ ثقافيٌّ يعدّه ويقدّمه المذيع والشاعر الشابّ خليل عيلبوني، انعقدت بيني وبينه صلةٌ أدبيّة وإنسانيّة رائعة، فأصبحت أشبه بضيفٍ دائم على هذا البرنامج الثّقافيّ الذي له صلة وثيقة بالقضيّة الفلسطينيّة والقوميّة. ومن طريف ما جرى حول هذه الصّلة الدّائمة بالبرنامج أنّ خليل عيلبوني أطلعني في إحدى المناسبات على تعليق طريف لمدير الإذاعة آنذاك علي هاشم رشيد شقيق الشاعر هارون هاشم رشيد يقول فيه: ليس من المعقول أن تقتصر الإذاعة على شاعر واحد.
كنت أحصل على مكافأة مجزية نسبيًّا عن كل مادّة أو مقابلة آنذاك، قدرها أربعة جنيهات تقريبًا. ومن الطّريف أنَّني كنت أرى كبار المطربين مثل فايزة أحمد يقفون للحصول على مكافآتهم أمام صندوق المحاسبة في مبنى الإذاعة في شارع الشريفين، ومكان المحاسبة أقرب إلى كشك مستقلّ في وسط المبنى.
ربّما كانت مكافآتهم بالمئات أو الآلاف، وأنا أقف كذلك معهم من بعيد.
أذكر أنّ خليل عيلبوني وبعض المشتغلين بالثقافة والإعلام تحدّثوا عن فكرة إنشاء رابطة أو اتحاد للكتّاب والأدباء الفلسطينيين في منتصف الستّينات، ولكنني لا أعرف ما تمّ بشأن تنفيذ الفكرة أو الإجراءات التي تمّت فيما بعد.
كنت أحيانًا وأنا أجلس مع خليل أرى بعض الممثّلين والممثّلات في الإذاعة يمثّلون وأمامهم عمود معدنيّ أسود اللّون، على كلٍّ من طرفيه ميكروفون يسمح بالحوار. كانت هذه فرصة ثمينة لمشاهدة ما كان يدور بيني وبين نفسي في الخيال.
وأذكر في إحدى زياراتي للإذاعة في شارع الشّريفين أن سنحت لي الفرصة بالجلوس وأحد الزّملاء وأظنّه إبراهيم الفيّومي، مع غالي شكري الذي كان له رأي طريف في عنصر الحوار في روايات نجيب محفوظ؛ انتقد غالي شكري لغة الحوار لدى نجيب محفوظ الذي يحرص على أن يكون باللّغة العربيّة الفصيحة. قال غالي شكري: "إنّ حوار نجيب محفوظ غير واقعيّ، ولا يحاكي لغة الشخصيّات ومستوياتها الفكريّة، فليس من الطبيعيّ أن تتحدّث الشخصيّات بالعربيّة الفصيحة، والشخصيّات كلّها تتحدث العاميّة، إنّ حوار نجيب محفوظ لا يحاكي الواقع، وإنّما يترجم ترجمةً، أيْ من العاميّة إلى الفصيحة". كنا نستمع ولا نعلّق. فقد كنتُ في ذلك الحين أرى أنّ ما يفعله نجيب محفوظ هو الصّواب، فلماذا حين نترجم حوار روايةٍ أجنبيّة نترجمه إلى العربيّة الفصيحة؟!
ومن الذين أثّروا في تجربتي الشّعرية بعد أستاذي عبد الله شبيب، الشّاعر عبد الرّحمن بارود الذي يمتلك حصيلةً لغوية وفيرة، فقد سنحت لي الفرصة للقاء الشّاعر الذي تحدّث عنه أستاذي عبد الله شبيب معلّم اللّغة العربيّة بمدرسة عقبة جبر الثّانويّة طويلاً، وأشاد بشاعريّته. كان أستاذي معجبًا بشعره، وكان ينشر قصائده في مجلة "الأفق الجديد" التي يشرف على تحريرها الشّاعر أمين شنار. أمّا قصائده فكانت من شعر الشطرين الرّصين، وقد أُتيح لي أن أحضر مناقشة رسالته للماجستير بعنوان " أراجيز رؤبة بن العجّاج" بإشراف شوقي ضيف وعضوية خليل يحيى نامي وعبد العزيز الأهواني، وأذكر عبارةً علّق بها الأهواني على موضع في الرّسالة: "لقد نحتها بارود من شاعريّته". وقد نالت الرّسالة إعجاب المناقشين.
عرضتُ شعري على عبد الرّحمن بارود، ووجّهني بما يناسب رؤيته للشعر، ومما قاله لي: إنَّ البحر الخفيف قادرٌ على الامتداد بالفكرة والصورة حتى تكتمل، وأُعجب بقصيدة لي أقرب في حقولها الدلاليّة إلى الرومانتيكيّة، مطلعها:
"هاتفٌ في الخيال عذبُ النّداءِ
داعبَ الحلمَ في عيون الهناءِ
أرقص النّور في ظلام الحنايا
واستثار الإلهامَ حلوَ السّناءِ
...
وبهيجٌ يرى اخضرار الرّوابي
بعد جدب الثّرى وشُحّ السّماءِ".

كان يمكن لبارود أن يكون من ألمع الشعراء في جيله بما امتلك من شاعريّة أصيلة ولغة ثريّة طيّعة ولكنّه، كما سمعت، انصرف عن الشّعر إلى ما هو أهمّ، كما رأى، وقد عانى ما عانى- رحمه الله- بسبب أفكاره وآرائه. وقد اطّلعت على شعره أو بعض شعره مطبوعًا في مجلّدٍ واحد.
وممّن وجّهني في هذه المرحلة أستاذي عبد المحسن بدر، فقد عرضت عليه قصيدة لي فيها أمشاجٌ من الرومانتيكيّة عنوانها: " نهاية ملّاح" مطلعها:
"الموج يضرب في الشّطوطِ مصارعًا كرّ السنين
والرّيح مُعْوِلَةُ تدمدم في انتحاب النّادبين
والنّورسُ المحزون يعلو ثمّ يهبط في أنين".

كانت النّهايةُ فاجعةً تؤذن بموت البحّار، وليست كنهاية "سانتياغو" بطل رواية "إرنست همنغواي" "الشيخ والبحر". لم تعجب النّهاية عبد المحسن بدر، فقال لي: "وماذا أضفت إلى شعر علي محمود طه، وإبراهيم ناجي؟".
فغيّرت النّهاية، وبدأتُ أراجع موقفي من الرّومانتيكيّة وموضوعاتها من النّاحيّة النّظريّة، وإنْ كانت لا تفارقني في التّطبيق.
كان المُناخ العامّ مُناخ الواقعيّة، وعلى الرغم من انكسار النّمطين الرومانسيّ والواقعيّ كما ذهب إلى ذلك شكري عيّاد في مقالة له في مجلة عالم الفكر الكويتيّة في مرحلة لاحقة، فإنّ الموجة الرومانسيّة كانت تلقى ازورارًا بل اتّهامًا، ولعلّ ذلك يذكّرني بزميلي الرّوسي المختصّ بالمعاجم حين قال لي: إنّ مصر بعيدة عن الاشتراكيّة. فسألته لماذا كوّنت هذا الانطباع؟ فقال لي بحسم: "ما تزال هناك محلاّت يملكها أفرادٌ يعمل لديهم أفراد". وكأنّه يترجم مقولة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وقد كان يُشير إلى بعض محلاّت البقالة في ميدان قريب من حديقة الأورمان. استمعت لصديقي جيّدًا وأنا أتخيّل السّذاجة حين تزحف الفكرة النّظريّة إلى التّطبيق.
حاولتُ بعد ذلك أن أبتعد عن الموضوعات المغرقة في الذّاتيّة، حتّى لا أُعدّ من الذين يُجارون التيّار الرومانتيكي الذي يتّهمه بعض النقّاد بأنّه منسحبٌ من هموم الحياة ومشكلاتها. حتّى زميلي السيّد الشّرنوبي أخذ عليّ في قراءته لقصيدتي "البرتقالة الحزينة" الحديث عن لغة تشابهت لدى شعراء القضيّة، حتى شاعت لديهم مفرداتٌ بعينها أصبحت من "الكليشيهات"، من مثل البرتقال، دون أن يقف عند رمزيّة المفردة في دلالتها على المعنى البعيد.