المشروعُ الثقافيُّ المصريّ.. علاماتٌ ومرتكزات

أ.د نبيل حداد
أكاديمي وناقد أردني.
-1-
لعلَّ السمة الأبرز في الحياة الثقافيّة المعاصرة في مصر أنَّها قامت منذ البداية على قاعدة أساسها المشروع بما تحمله الكلمة من دلالات منهجيّة... أي المشروع الثقافيّ، سواء كان في الإطار المؤسسيّ الشامل الرسميّ، أو في النطاق الفرديّ الذي يمكن معه القول إنَّ كلَّ تجربةٍ من لدن أعلام الفكر والفن والأدب جادت بها عبقرية ما لا يقل عن ستة أجيال، يمكن أن ينظر إليها مجتمعةً على أنَّها مشروع النهضة الثقافيّة المصريّة في العصر الحديث..
ولعلَّ من نافلة القول إنَّ البداية كانت بخطوة نابعة من رؤية إستراتيجيّة صدرت من أعلى هرم السلطة، وظلت دينامياتها تتفاعل إلى اليوم وحتى ما شاء الله... رؤية ترى في الفكر والفن والأدب والثقافة، بشكلٍ عام، قوةً ناعمة ضاربة لا تقلُّ مفاعيلها عن القوة الخشنة الحربيّة؛ فهي الوسيلة الأجدى للتقدم واللحاق بركب العصر في أرض الكنانة، بموقعها الفريد ودورها الطليعيّ على مرِّ الزمان وتأثيرها من جميع الوجوه في كلِّ بقعةٍ من أرجاء محيطها العربيّ والإسلاميّ والإفريقيّ... هذه القوة الناعمة الضاربة، لم تهن ولم تتراجع حتى في فترات الضعف العسكريّ والسياسيّ؛ اللهم إلا في مراحل عابرة ومتقطعة، بل إنَّ ثمارها ظلّت متاحةً لكلِّ شعوب المنطقة من حولها، وظلَّ عطاؤها غامرًا لا ينقطع عن أيِّ جيل في أيِّ ركنٍ من محيطها القومي تحديداً قبل وبعد نهضتها الحديثة.
ولسنا اليوم بصدد تقديم عرض تاريخي لقصة النهضة الثقافيّة والفكريّة الحديثة التي بدأت مع تقلص ظلِّ الدولة العثمانيّة وبقايا السيطرة المملوكيّة في هذا البلد العربي الكبير بقدوم الحملة الفرنسيّة مع نهاية القرن الثامن عشر (1798) بل حسبنا التوقف عند بعض العلامات، والظواهر، ومن ثم الوقوف على المرتكزات التي قام عليها هذا العطاءُ الاستثنائيُّ المشع في تاريخ الثقافة العربيّة.
ولأنَّنا في الشرق، ولأنَّ معظم ما يؤثر في أرض الشرق يأتي من فوق، كما تشهد بذلك حركة التاريخ منذ عهد آدم إلى اليوم؛ فإنَّ من الضروري الإشارة إلى أنَّ عوامل النهضة قد توافرت مع توجّه الشخصيّة المؤسسة الأكثر تأثيراً في تاريخ المنطقة العربية في العصر الحديث، محمد علي باشا (1805-1947) إلى إقامة دولة حديثة على أسسٍ عصرية، نعم لقد توافق طموحه الشخصيّ مع تعطش شعوب المنطقة العربيّة للحاق بركب العصر وجني ثمار الحضارة الغربيّة التي بدأت تهب رياحها على المشرق العربيّ، فكانت الخطوة الأولى في هذا الاتّجاه لذلك الحاكم بعيد النظر، كما نعلم جميعاً، هي حركة التعليم وإيفاد البعوث وفتح الأبواب على مصرعيها لكلِّ رياح التقدم ولا سيّما تلك التي تهب من الغرب.
ومع منتصف القرن الثامن عشر تبدأ الملحمة الثقافيّة التي نعيش اليوم آثارها في الأدب شعراً ونثراً ومسرحاً وصحافةً، وفي جميع الفنون القديمة والمستجدة.
بدايةً يمكن القول إنَّ الحياة الثقافيّة والفنيّة في مصر، شهدت ست طفراتٍ مقترنة بستة أجيال متتابعة، ومع التأكيد بأنَّ الريادة لا تعني السبق الزمني فحسب، بل تعني كذلك تحوّل الحركة الرياديّة البازغة إلى نشاطٍ ديناميٍّ يترك أثره الفاعل؛ بل قل يخلق مساراً جديداً في حركة التاريخ الثقافيّ.
نستطيع أن نحدّد حركة الجيل الأول في البعث الثقافيّ الحديث في مصر بما بدأه رفاعة رافع الطهطاوي وتلاميذه ومريدوه. إنَّها حركةٌ ظلّت دينامياتها فاعلة إلى أن التقت بفضل دعوة الأفغاني مع رياح الفكر الليبراليّ التي بدأت تهب على مصر، وكان جيل لطفي السيد ورهطه عنواناً للمشهد الذي بات يتكوّن وينمو بسرعة بمنأى عن النهج التقليديّ، وهو تحوّلٌ بدأت به الطبقة البرجوازية البازغة وحمل تغيرات كاسحة في بنية المجتمع المصري وأنساقه الأدبيّة والفنيّة، تمثّل بظهور أنواع جديدة أظهرها المسرح.
أمَّا الجيل الثالث فهو جيلٌ بلا شك جيل المجدّدين فكراً وإبداعاً أدبيّاً وفنيًّا ويمكن أن يرمز إليه بجيل طه حسين والعقّاد، في حين يمكن النظر إلى يوسف إدريس بوصفه -من ناحية الإبداع السرديّ على الأقل- عنوان الجيل الرابع، أمَّا الجيل الخامس فقد تصدره إبداع جيل الستينيات، ولنا وقفة قادمة أطول عند إنجاز هذا الجيل. أمَّا اليوم فنحن نعيش عطاء الجيل السادس الذي تفتحت وروده مع منعطف القرن.
-2-
وربما كان من المناسب أن نبدأ مقاربتنا بوقفة قصيرة عند طه حسين لكون مشروعه الأكثر ارتباطاً بالجوانب الأخرى في مشروع النهضة الكبير، بل إنَّه أرسى معالم هذا المشروع نظريّاً في كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر "( 1938 )، وكانت معالم هذا المشروع قد تجسّدت بشكلٍ فنيٍّ دراميّ في بعض أعماله الأدبيّة ولا سيَّما في رواية" دعاء الكروان" (1934).
من الواضح أنَّ الرسالة الفكريّة "لدعاء الكروان" تضفي عليها المكانة الأكثر أهميّةً، وتحديداً من الجانب الفنيّ.
ولئن كان المشروعُ في أبسط معانيه: الأمر يُهيأ ليُدرس ويقرر، فإنَّ ما تحقّق على يدي طه حسين في "دعاء الكروان" تتويجٌ فنيٌّ وموضوعيٌّ لمشروعه الحضاريّ لنهضة المجتمع المصريّ، كما تصوّر هذه النهضة في فترة الهدوء النسبي التي أعقبت أزماته مع السلطة والمجتمع التقليديّ في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. "دعاء الكروان" من بعض الوجوه هي الوجه الآخر، أو بالأحرى هي التجسيد الفنّيّ للمشروع الحضاريّ عند طه حسين، هذا المشروع الذي يبسط مفرداته الفكريّة والفنيّة ضمن دعوتين: التعليم والنهوض بواقع المرأة.
وليس من قبيل الجزم غير المدروس أن نقول إنَّ "دعاء الكروان" ظلّت – حتى اليوم – من أكثر الروايات العربية نضجاً بين تلك التي حملت فيها المرأة مهمّة إيصال رسالتها الفنيّة والحضاريّة المنشودة. وثمة أمر لافت في هذا الصدد؛ ففي جميع الأعمال التي صدرت قبلها أو حتى في مرحلتها كان صوت الراوي الوحيد هو صوت الغائب المذوّت بوعي الروائيّ ووجدانه، وهو في العادة رجل المرحلة المثقف، أمَّا صوت الراوي في هذه الرواية فقد حمل عذابات المرأة بالأنا الساردة التي تقول لمنظومة الواقع الظالمة بإرادتها المتمردة: لا.
ومن الواضح أنَّ المسألة عند طه حسين لم تكن تقنية سرديّة عابرة تنشد التنوّع الجماليّ، بل إنَّ صوت الراوي الأنا / المرأة رسالة فكريّة أولًا. والدليل على هذا تلك المقاطع التي جاءت بصوت الراوي الغائب، وعادة ما كانت هذه تستحضر سنوات المعاناة بل العار الأسريّ في ماضي آمنة؛ فكأنَّ تقنية الانتقاء أتت لترسم معالم الموقف من الماضي؛ فجاءت الأنا تحمل إرادة النهوض بالواقع الإيجابيّ، وجاء صوت الغائب الذي يتناوب السرد مع الأنا لِما يراد مجاوزته من الماضي الأليم، بل طمسه الذي يشوش حاضر الشخصيّة، ويحاول أن يتسرب إلى أحلام المستقبل وصورته الواعدة. صوت الراوي عند طه حسين إذن لم يكن ذا وظيفة سرديّة فحسب، بل يحمل إيقاعًا يتساوق وسعي الشخصيّة لصنع مشروعها الحضاريّ الخاص بها، وصياغة واقعها الخاص، وتحديدًا بالطريقين اللذين شدّدت عليهما أدبيات طه حسين: المرأة ذاتها، والتعليم.
وفي رحلة الكفاح، ومن موقع هامش الهامش تخوض المرأة (آمنة) معركتها ضد المأثورات الجاهلية (الوأد) بالإرداة، حتى لو كان الثمن إدانة دور الأم، وهي إدانة لا تتم بصريح الخطاب، ولا حتى بالفعل الإيجابيّ، بل تتكفل بها إيماءات المسارات السرديّة والسياقات الدلاليّة؛ فيتمّ نفي التواطؤ ومن يجسّده من وقائع الحياة، ومن دهاليز الذاكرة (حسب موحيات السرد) بل من قاع الوجدان. لقد حرقت آمنة، بوعيها الجديد، الماضي حين طمست الجوانب المعتمة من كل مختزنات الذاكرة.
أمَّا المعركة ضد الجهل، فلا بدَّ أن تُخاض عنوةً، ولا بأس من الإفادة من تسامح الطبقات الأعلى وغض الطرف عن التطفل – من جانب السادة – أثناء الدرس، ليتم تحقيق الهدف في نهاية المطاف، حتى لو انطوت وسائل المشروع على اختلاس مشروع للفرصة.
ويا له من مشروعٍ إنسانيٍّ وحضاريٍّ وفنيٍّ متكامل (مشروع آمنة) أهداه طه حسين، لا لمسيرة الرواية العربية فحسب، بل لرحلة الوعي العربي لدى جيلين على الأقل!!.
ومن البدهي أنَّ طه حسين لم يُقم دعائم مشروع آمنة بالرؤيّة الرومانسيّة، ومن الواضح كذلك أنَّ رؤية كهذه لا تكفي لإنجاز مشروع حضاريّ تستطيع الشخصية (بطل المرحلة) من خلاله أن تواجه التحديات المستجدة للعصر. أجل لقد حضرت الرؤية الواقعيّة في "دعاء الكروان"، بل تضافرت هذه الرؤية مع رومانسيّة لم تتخلص منها أجواء الرواية، بل حضرت مع المعالجة الكلاسيكيّة للحبكة (الصراع بين العاطفة والواجب) ثم مع الأيلولة التي انتهت إليها الأحداث (الحلّ عن طريق التطهر) وهكذا فإنَّ تمازج الرؤى وتضافر المذاهب كان وراء إنجاز هذا المشروع الروائيّ للمرأة الذي لم يتخط عطاءه الفنيّ والحضاريّ أيُّ مشروعٍ مماثل، ربما حتى يومنا هذا.
-3-

ميزة نجيب محفوظ أنَّه صاحبُ مشروعٍ، بل إنَّ حياته على مدار ما يقارب القرن من الزمان سلسلة من المشاريع المتلاحقة، يسلم الواحد نفسه للمشروع التالي. لا ضرورة للتوقف طويلاً عند مشروعه الأول: دراسته الجامعيّة. فلو سار هذا المشروع حسب الافتراض الأول، لخسرنا الكثير. كان ذلك التصوّر يرى في نجيب أكاديمياً، فكان أن تدخلت اعتبارات العالم الثالث فحرمته من الابتعاث إلى أوروبا ليعود أستاذاً للاجتماع في جامعة القاهرة. ولم يلبث هو نفسه أن استأصل المشروع برمته من حياته، حين رمى عرض الحائط بما كان أنجزه من فصول من رسالة ماجستير كان ينوي التقدم بها إلى جامعة القاهرة. كانت الطريق قد اتضحت أمامه: الوظيفة (الصغيرة) لمواجهة متطلبات الحياة، والكتابة (الروائيّة تحديداً) استجابة لنداءات الأعماق. وهي نداءات لم تتمكن من مصادرتها، لحسن الحظ، الأعباء الأكاديميّة.
كانت الحلقة الأولى في مشروع نجيب الاستراتيجيّ (وهو باختصار الإخلاص لفنِّ الرواية بل الانقطاع شبه الكامل له)... ثلاثيته التاريخية الرائعة: "عبث الأقدار"، "ورادوبيس" و"كفاح طيبة". كتبها نجيب معتقداً أنَّها بدايات لمشروع طموح يشخص فيه تاريخ مصر القديمة بما لا يقل عن عشرين رواية. كان نجيب آنذاك(الثلاثينيات) ابناً شرعياً للاتّجاه الفكريّ الكاسح في حينه: التغني بالمجد الفرعونيّ. لكنَّه سرعان ما تدارك مسيرته وأدرك عقم جهوده في حمل الرسالة الكبيرة التي نذر نفسه لها بالعودة إلى الماضي البعيد، فعاد إلى الحاضر في انعطافة أنجزت مشروعه الأهم الذي صنع شهرته وبوأه المكانة الجديرة بمواهبه وعطائه: المرحلة الواقعيّة النقديّة. أهدانا المشروع الروائيّ الثاني لنجيب روائعه ذائعة الصيت: "القاهرة الجديدة"، و"زقاق المدق"، و"خان الخليلي"، و"بداية ونهاية"، والثلاثية العظيمة؛ (بين القصرين وقصر الشوق والسكريّة) ويمكن إيجاز تعاطي نجيب في هذه المرحلة بعبارتين فحسب: الفقر هاجساً والنموذج إنجازاً.

توقف نجيب عن الكتابة بعد إنجازه "الثلاثية" سنة 1952 (حسب روايته) واكتمل نشرها سنة 1956. توقف حوالي ست سنوات أي حتى 1959 حين أصدر روايته الأكثر إثارة للجدل حتى الآن: "أولاد حارتنا".
كانت بالتأكيد سنوات التوقف فترة كمون وبيات فنيّ يحمل في جنباته جنين مشروعه الثالث الكبير: المرحلة التعبيريّة، وكان المولود المفاجأة إحدى روائع الرواية العربيّة على مدار تاريخها: "اللص والكلاب".
ثم جاءت "ثرثرة فوق النيل" وبعدها بقليل "ميرامار" (1967) لتدق ناقوس الخطر؛ لكن الصرخة ظلّت معلقة بين السطور، في حين كانت "العوّامة" كلها تهتزُّ من أي خطوة، وتنذر بالخطب القادم كل من هم فوقها.
وبالإضافة إلى ما حملته هاتان الروايتان من رؤى جديدة، فقد جاءتا بإنجازاتٍ فنيّة جعلت من نجيب حارق مراحل بحق، فبهما أدخل نجيب تقنيات جديدة في تعدد الأصوات (البوليفون)، ومواقع الراوي، واتكأ على سرديات متقدمة في المنولوج وتيار الوعي والأحلام والانتقال من صيغ السرد التقليدي إلى أساليب العرض التلقائيّ.
مع إطلال الهزيمة (1967) بوجهها البشع بدا أنَّ نجيب يقوم بعملية مراجعة شاملة لا في الرؤى وأدوات التعبير فحسب، بل في الأشكال أيضاً، فقدم شكلاً جديداً في القصِّ العربيّ لا هو بالقصة الخالصة ولا هو بالمسرحية، شكلاً اتكأ فيه على أداة قصٍّ شبه وحيدة هي الحوار، فكان أن صدرت له بين سنتي 1969 و 1971 خمس مجموعات من هذا الشكل، وبدا من خلال هذه القصص أنَّ الهزيمة لم تخلخل معتقداته في التجربة السياسيّة والاجتماعيّة التي أعقبت ثورة يوليو فحسب، بل امتدت الخلخلة إلى التشكيلات الفنيّة، وعبّر عن ذلك أوضح تعبير عنوانُ مجموعته: "حكاية بلا بداية ولا نهاية".
كان هذا قبيل أكتوبر 1973، ثم لم يلبث بعد الحرب بأقل من عام أن أصدر روايته "الكرنك"، وهي رواية لا يمكن أن تستبعد أجواء المرحلة الساداتيّة وإملاءاتها في شكلها ومضمونها.
إنَّها أي (الكرنك) لا تمثّل إنجاز محفوظ، بل أستطيع أن أزعم أنَّها المقاربة الفنيّة لما تورّط فيه توفيق الحكيم (وتبرأ من عملية نشره قبل وفاته) من مقولات في كتابه المتشنج "عودة الوعي".
والملاحظ أنَّ نتاج نجيب في الثمانينات يوجز مسيرته كلها، بل قل إنَّه مزيج من الاتجاهات التي تجاذبته بين الثلاثينيات والسبعينيات.
ويشهد عام 1994 محاولة اغتياله على يد أحد الشبّان المتطرفين مما أعاد إلى أذهان بعض المثقفين الليبراليين في مصر حجة الناصريين القديمة -التي سلم بها علنًا نجيب نفسه- بأنَّه كان من المستحيل إقامة ديمقراطية ليبراليّة في مصر بعد محاولة اغتيال عبد الناصر على يد أحد شباب الإخوان في ميدان المنشية في الإسكندريّة، قبل محاولة اغتيال نجيب بأربعين عاماً.
وعوداً إلى مسيرة نجيب في الثمانينيات، أو إلى عودة نجيب إلى التاريخ ليمتاح منه المادة التي تلبي رؤاه الجديدة، فثمة رواية ثالثة عاد فيها إلى التاريخ الفرعونيّ هذه المرة، واختار أحد أهم المؤثرين في مجراه: "أخناتون"؛ فكانت "العائش في الحقيقة (1985)"حيث شخّص فيها تجربة ذلك الملك الفرعونيّ الذي كان أوّل من دعا في التاريخ إلى وحدة الإله (حسب طرح الرواية) ثم إنَّها - أي الرواية- جاءت في قالب روائيّ فريد جاوز فيه نجيب تقنية تعدد الأصوات وتضارب وجهات نظرها، كما هو الأمر في الإطار الذي جاءت عليه "ميرامار"، إلى أسلوب جديد جمع فيه بين تقنية تعدد الأصوات وإطار "التحقيق الإعلاميّ" المعاصر في سعيه للبحث عن الحقيقة. فالروّاة في "العائش في الحقيقة" ستة عشر، يستجوبهم شاب يافع لم يدرك "أخناتون" ولكنَّه أراد أن يفيد في تسجيل تجربته من معاصريه، أي معاصري الملك، وذلك على النحو الذي يسعى إليه الإعلاميون وراء "شهود العصر".
ويبدو أنَّ "أصداء السيرة الذاتية" (1995) كانت بداية للمشروع الأخير لنجيب محفوظ. إنَّه مشروع يقوم على الأحلام فحسب، وهو ما تجلّى في عمله الأخير "أحلام فترة النقاهة" (2006) وكما قال: "نعم، الحلم هو حدود عالميّ".
هكذا أوجز نجيب محفوظ حدود عالمه الحاليّ (أو الأخير) بكلمة واحدة: الحلم. فهو (الآن) يحلم بعبد الناصر الذي طالما أحبّه وطالما انتقده، وهو صاحب المعادلة الشهيرة في إيجاز الحكم على تجربته: عظيم الإنجازات عظيم الأخطاء. ولكن حلمه الأخير يشهد بأنَّ خلاص مصر بأصالتها، بخبزها الذي أنضجته الشمس كما كانت في عهد آدم وأخناتون. خلاصها – ربما- في الحلم الجميل الذي جسّدته التجربة الناصريّة. خلاصها في لقمة شاءت أقداره ألا تكون إلا قاسية؛ ولكنَّها من أعلى مراتب الوطن، من مصر العليا.
وما من شكًّ في أنَّ نتاج نجيب جدير بجائزة نوبل لا في نهاية الثمانينيات فحسب؛ بل ربما قبل ذلك بأكثر من ربع قرن، حين أنجز سفره العظيم الثلاثيّة، ومن بعده "الحرافيش" ولكن ما من شكٍّ أيضاً في أنَّ "السياسة" هي التي أخرت حصول نجيب على هذه الجائزة، والسياسة نفسها هي التي حرمت عمالقة عربًا من أمثال العقّاد وطه حسين وتوفيق الحكيم (الذي أخـذ يلهـث وراء الجائزة في أخريات عمره ولكن القطار كان قد فاته)، وما من شكٍّ في اعتقادي في أنَّ السياسة هي التي أفرجت (ولا أقول "أفرخت") عن الجائزة لينالها من يستحقها منذ زمن طويل، وذلك بعد أن وقّعت مصر اتفاقية السلام، وبعد أن أدلى نجيب محفوظ بتصريحات تصبُّ في "ثقافة السلام"، كما تراها لجان منح الجائزة.
وإذا كان هناك رابح وخاسر في قصة نجيب مع هذه الجائزة؛ فإنَّ الرابح الأول هو الرواية العربيّة والأدب العربيّ بعامة، لقد لفتت الجائزة الأنظار إلى هذا الأدب، وما إن مُنحت لأديبٍ عربيٍّ حتى سارعت دور النشر العالميّة لترجمة المئات من الأعمال الأدبيّة العربيّة من شعرٍ وروايةٍ ومسرح، ومن كتبٍ أدبيّة تراثيّة ظلّت بمنأى عن الغرب لقرون طويلة، وهنا نأتي إلى الحديث عن الطرف الخاسر: إنَّه الجهات التي تناصب العرب وثقافتهم العداءَ، وتحاول أن تصوّرهم على أنَّهم أمة متخلفة، ما من عمق حضاريٍّ أو ثقافيٍّ لها، ولا أظنُّ أنَّ الصهيونيّة العالميّة يهمّها أن تحقّق الثقافة العربيّة مثل الإنجاز الذي حقّقته جائزة نوبل للأدب العربيّ قبل أن تحقّقه لصاحب الجائزة.
-4-
بات من المعروف أنَّ أدب يوسف إدريس ينشغل في المقام الأول، بالقضايا الكبرى للوجود الإنسانيّ. ما يهمنا في هذه الورقة هو هذا الاشتباك المركب والنبيل بين معطيات القيم البرجوازيّة وما يتجذّر في أعماق أبطاله من ترسبات تستمد مادتها من طين مرجعيته الوجدانيّة في الريف المصري، أي المكوّن الثقافيّ الشعبيّ والأصيل إن شئت. ولهذا المكوّن عروقه التي تمور بدم الحياة في كل ما قرأت من أعماله، بل إنَّ تجذّر هذا المكوّن في بيئة شخصياته هو الذي يطرح الأزمة، ويصنع من ثم الحدث القصصي، سواء كانت البيئة الريفيّة الأصليّة كما في "حادثة شرف" مثلاً، أو في بيئة المجتمع البرجوازيّ المدنيّة، كما الأمر في معظم أعماله الروائيّة بخاصّة.
إنَّ الصراع هو الأساس الدراميّ لأيِّ عملٍ سرديّ؛ والمعروف أنَّ الصراع النفسيّ (الداخلي) يبهظ الشخصيّة بأشد مما يبهظها أي شكل آخر للصراع، وبخاصّة إذا ما ارتكز هذا الصراع على القيم. والصراع في معظم أعمال إدريس صراع قيم بامتياز... قيم الثقافة الشعبيّة بمواجهة الثقافة الفرديّة، أو البرجوازيّة، أو إن شئت الثقافة النخبويّة. هذا الصراع يتّسمُ بضخامة "الحدث النفسيّ" مقارنةً بالفعل الخارجيّ، بل إنَّ قصة "حالة تلبس" مثلًا، هي حكاية حدث نفسيّ أولاً وأخيراً، بحيث جاءت خلوًّا من أيّ شكلٍ من أشكال الحوار الخارجي (الديالوج).
والصدام القيميّ عند يوسف إدريس لا يقتصر على فنِّ القصة القصيرة فحسب، فها هو يحضر في رواية "العيب" مثلاً حين تنهار منظومة الثقافة الشعبيّة القيميّة بأجمعها، إذا ما استسلم عنصرٌ فيها لمغريات الكسب الماديّ على حساب المبدأ الذي ينشأ عليه عضو الجماعة، ولا سيّما إذا كان امرأة لا تلتزم بجزء من المنظومة، وتترك آخر. أمَّا الفلاح في مسرحية "ملك القطن" فإنَّ القيمة الأوسع في الثقافة الشعبيّة هي الانتماء للأرض، وهو انتماءٌ يتعالى حتى على حقِّ الملكيّة؛ فليس شرطاً أن تمتلك القطن حتى تنتمي إليه، لذلك نرى الفلاح البسيط في هذه المسرحية القصيرة ينقذ من الحريق محصولَ قطن صاحب الأرض الذي يسلبه تعبه وشقاءه، لا لشيء سوى أن جني المحصول تمَّ بعرقه.
-5-
كان المشروعُ الثقافيُّ الذي قاده الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة المصريّ في الفترة ما بين 1958-1962، و 1966-1970 المشروع الثقافيّ الثالث الذي تشهده منطقتنا (شرقنا العربي تحديدًا) في العصر الحديث. بدأ المشروع الأوّل -كما ذكرنا- بإيفاد محمد علي للبحوث المصريّة إلى أوروبا، وكان رمز هذه النهضة رفاعة الطهطاوي ثم علي مبارك، وفي الشام تأخرت الأمور حوالي نصف قرن ليبدأ المشروع مع بزوغ الفكر القوميّ وظهور الطبقة الوسطى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهو الوقت الذي بدأ فيه المشروع التنويريّ الثاني في مصر، بدءًا بجهود جيل جمال الدين الأفغاني، وانتهاء بجهود جيل طه حسين، وما إن جاءت ثورة 23 يوليو 1952 حتى كان هذا الجيل قد قدم أفضل ما لديه، ومن ثم بدأ المشروع الثقافيّ الثالث في مصر، وكان هذا جزءًا من مشروع نهضويّ شامل وضعه زعيم الثورة، واختار له الرجل المناسب: ثروت عكاشة.
حين تولى عكاشة هذا المنصب وضع نصب عينيه الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي يقول: "إنَّ للإنسان الحقَّ في أن يشترك دون قيد أو شرط في الحياة الثقافيّة للمجتمع، وأن يستمتع بالفنون، وأن يكون له نصيب في التقدم العلميّ وما يؤتيه من ثمار". ولمَّا كانت الدولة قد خطّطت لسياسة قوميّة في شتى المجالات من إنتاج وخدمات وغيرهما باستثناء الثقافة، فقد شعر الرجل بعظم المسؤولية وراح يضع فيما يمكن اعتباره أوّل "سياسة ثقافيّة" عربيّة في العصر الحديث، وأدرك الرجل مسؤولية الدولة في اكتشاف المواهب في كل حقل ورعايتها، وتيسير السبل أمامها للخلق والإبداع، إلى جانب إقامة المشروعات الثقافيّة الكبرى التي لا يقوى عليها الأفراد أو المؤسسات الخاصة. وظلَّ الهدف دائمًا رعاية الوجدان القوميّ وتغذيته وتنميته، توطئةً لتكوين الإنسان المعاصر المنتمي، والمواطن المستنير البصير بمصالح نفسه ووطنه ومصلحة الإنسانيّة جمعاء (مذكراتي في السياسة والثقافة، ثروت عكاشة،ج1، ص428).
لم يسع الرجل في مشروعه الكبير لتوفير أسباب الثقافة الاستهلاكيّة أو حتى التنويريّة لكلِّ قطاعات المجتمع فحسب، بل راح يؤسس إلى خلق جيلٍ من المثقفين الجدّد يحمل الراية من الجيل الذي أعطى كل ما لديه، جيل العقّاد وطه حسين، فكان أن تدارك المفهوم الحقيقيّ للمثقف، الذي يعني بكلِّ بساطة صاحب الموقف الحضاريّ الذي يدعو إليه ويبشر به؛ لأنَّ المثقف الحقيقيّ صاحب رسالة قبل أن يكون صاحب علم أو معرفة، وحتى يصل المرء إلى هذه المرحلة لا بد أن ينهل من معينٍ للثقافة لا ينضب، وأن يعيش في المُناخ الثقافيّ الذي يساعد على تفتّح المواهب، ويتيح للجميع فرص إنجاز مطامحهم وعرضها وإشهارها، وهكذا نشأت حركة نشر لم يسبق لها مثيل في الوقت الذي أُتيح فيه لأيِّ تلميذٍ في المرحلة الابتدائيّة أن يقتني أي كتاب مهما عظم شأنه بقروش قليلة، ولم تكن المسألة في النشر والترجمة مسألة كم فحسب، بل إلى جانب الكم كان هناك المستوى، وما زال القرّاء والمثقفون ينعمون حتى يومنا هذا بعطاء تلك الأيام.
ولم تقتصر الأمور على النشر، بل أُنشئت عشراتُ المسارح، ودورُ العرض السينمائي، كما أُنشئت عشراتُ المعارض التي استوعبت جهود الفنانين والموهوبين. واهتمّت الدولة بما عُرف بـ "الثقافة القوميّة" فلم تهمل فئة من فئات المجتمع في المدينة أو الريف أو حتى البادية من الارتشاف من المناهل الثقافيّة، وهكذا قامت نهضة ثقافيّة شاملة أسهمت حقاً في إزالة الفوارق بين طبقات المجتمع، فظهرت مراكز للفنون الشعبيّة لتذوق كل طبقة أو فئة فنون طبقة أو فئة أخرى، وشملت الإنجازات معهداً للتذوق الفنيّ لأوّل مرة خارج أميركا وأوروبا، وكذا معهدا لفنون الباليه للحدِّ من جمهور الرقص الشرقيّ، وظهرت فكرة التفرغ العلميّ للمبدعين والمجتهدين، وأُنشئت عشرات المتاحف، كما أُقيم في كل مدينة أو مركز محافظة ما عُرف بقصور الثقافة.
وأخيراً فإنَّ نجاح مشروع ثروت عكاشة وعثراته ومعاناته تستوجب الوقوف عند بعض الأساسيات في أيّ مشروع ثقافي:
أولًا: على أيّ مشروعٍ ثقافيّ "شامل" أن ينطلق من استراتيجيّة بعيدة المدى، فالحصادُ الثقافيّ ليس كالحصاد الإعلاميّ يعطي مردوده المباشر على الفور، بل إنَّ المردود الثقافي لا يظهر إلا بعد عقود وعقود.
ولعلَّ هذه المعادلة كانت السبب الرئيسي في إخفاق المشروعات الثقافيّة حين ترتبط بالعملية الإعلاميّة، ونعني ذلك الدمج الجائر الذي جرى العرف السياسيّ العربيّ عليه بين الثقافة والإعلام في مؤسسة سياديّة واحدة (الوزارة).
ثانياً: من الضروري للمشاريع الثقافيّة الاستراتيجية، بناءً على ما سبق، أن تصدر عن رؤية تنمويّة تمهّد الطريق للمواطن لأنَّ يحصل على الكفاية الوجدانيّة بمثل ما يتم تمهيد الطريق له للحصول على الكفاية الاقتصاديّة، أي إنَّ إدارة الثقافة، هي عملية تنمويّة شأنها في هذا شأن أي نشاط تنموي آخر.
ثالثاً: لا يمكن لأيّ مشروع ثقافيّ شامل أن يسير بخطى ثابتة وأن يحقّق من ثم الغايات التي وضع من أجلها، دون دعم قويٍّ ومباشر من أهم المرجعيات السياسيّة، ودون إدراكها أنَّ الإنجاز الثقافيّ يصبُّ في مصلحة الجميع، وأولها هذه المرجعيات.
رابعاً: وهي النقطة التي تستوجب التكرار: إنَّ القائمين على الثقافة ينبغي أن يكونوا هم (وليس غيرهم) القائمين بالفعل الثقافيّ، فالثقافة لا يمكن أن يديرها ويسهر على شأنها سوى المثقفين.
خامساً: وما سبق يقودنا إلى مسك الختام: إنَّ ثروت عكاشة- رحمه الله- لم يكن مؤلفاً مبدعاً فحسب، كتب عشرات الكتب حول الثقافة والفن، بل كان بالإضافة إلى كونه مؤلفاً، قائداً لأوركسترا فنيّة من المساعدين الأكفاء، صحيح أنَّ الواحد منهم كان موظفاً، ولكنّه كان فناناً، أو على الأقل مثقفاً، أو في أقل الأقل متذوّقاً للفنون مقدراً لدور الثقافة.
-6-
وإذ ننتقلُ إلى جهود الأكاديميين يتضح لنا أنَّ محمد مندور أدرك منذ وقتٍ مبكّر ما للصحافة، بكلِّ أشكالها، من تأثيرٍ واسعٍ ومباشر. إنَّها وسيلةُ اتصالٍ "جماهيريّ"، ومن الطبيعي أن تلبي هذه الوسيلة ما يطمح إليه من بثِّ أفكاره وتحقيق ما يراه واجباً عليه من تثقيف الناس بكلِّ قطاعاتهم، وهو الأكاديميُّ السياسيُّ المتطلع للمشاركة في الشأن العام، والساعي إلى عضوية البرلمان.
وأتاح له إتقانه عدداً من اللغات الحيّة والقديمة مخزوناً علميّاً ومعرفيّاً متراكماً، وكان متابعاً مثابراً لكلِّ ما يستجد من علوم ومعارف وإصدارات. فإذا اجتمع هذا في مثقفٍ وأكاديميّ وسياسيّ صاحب موقف ورسالة، لم يجد ما يسعف تطلعاته ويساعده في مسؤولياته تجاه عموم الناس، مثقفين ومتعلمين ومهتمين، أفضل من الوسيلة الأولى في التثقيف الجماهيريّ؛ الصحافة.
أضف إلى ما سبق أنَّ الصحافة ربما كانت المهنة شبه الوحيدة المتاحة أمام الرجل بعد أن تمَّ استبعاده عن العمل في المجال الأكاديميّ.
ولكن هل تمَّ أداؤه الصحفيّ على حساب المستوى؟ المعيار الصحيح هو قراءة هذا الإنتاج الذي قدّمه مندور من خلال نشره في الدوريات، ثم الحكم على هذه المادة النقديّة من خلالها، وليس من خلال الموقف الانطباعيّ السائد الذي يقوم على الحكم المسبق: هذا عملٌ صحفيٌّ؟ فهو انطباعيّ حكماً!
وعلى ما يبدو فإنَّ العديد -إن لم نقل كل- مؤلفات مندور التي نتداولها ونتّخذ بعضها مقررات دراسية لطلبتنا، وربما استندنا إليها في تدبير مفاهيمنا النقديّة بأيسر السبل، وأسلس الطرق ... كانت في الأصل مادة منشورة في الدوريات، ولكن تكمن وراءها فكرة الموضوع المتكامل الذي يجعل من السهل إعادة إصدارها على الأسس المنهجية المتكاملة والملبيّة لشخصيّة "الكتاب" وبنائه.
فقد ارتقى بالمادة الصحفيّة دون أن يهبط إلى بعض مستويات الخطاب الصحفيّ، وأسهم في جعل الصحف العامة والمجلات غير المتخصّصة أداة تثقيف حقيقيّة بل ناجعة ومؤثرة، ويكفي أن نستعرض فهارس كتبه المجمّعة مما نشر بالدوريات، ليظهر لنا أنَّنا إزاء عطاءٍ معرفيٍّ ومنهجيٍّ متميز. وبهذا فإنَّ جهود مندور أثرت الصحافة بما فاق معظم ما قدمه مجايلوه من النقّاد والكتُّاب من خلال هذا الطريق، كماً ومستوى.. بل عمقاً ونهجاً... فالعجالة العابرة التي كان مندور يقدّمُ من خلالها قضيّة ما أو مقاربة مكثفة لمذهب أو اتجاه ما زالت مادة يُعوّل عليها بسهولة لمن أراد الخروج بمفهوم واضح متماسك عن الواقعيّة الاشتراكيّة أو الواقعيّة النقديّة، مثلاً. نعم إنَّ جهود مندور أسدت للصحافة وللأدب والنقد وللمتلقيّ العربيّ خدمةً قد لا تضاهيها سوى الموسوعات، أو جهود الفريق المختص.
ويلاحظ المتفحّص لنتاج مندور الذي جاءنا عن طريق الصحافة أنَّ نشر هذا النتاج جاء متوافقاً، من حيث الموضوع والمضمون والشكل الكتابيّ، مع معطيات المرحلة التي نُشر فيها، ومع منظوماتها الفكريّة والسياسيّة.
ويمكن القول إنَّ هذا النتاج ينتسب، مرحليّاً (وموضوعيّاً تبعًا لذلك)، إلى ثلاث منظومات مرحلية هي: جهود الأربعينيات، ويغلب عليها المحتوى السياسيّ والصحفيّ ببعديهما الفنيّ والقانونيّ، ثم جهود الخمسينيات ويغلب عليها طابع التبشير السياسيّ (ببعده الاجتماعيّ) بالدعوة لقيام نظامٍ جديد ومجتمعٍ جديد يقوم على فكرة العدالة الاجتماعيّة، والمنظومة الثالثة -في الستينيات- غلب عليها التناول النقديّ التطبيقيّ للنشاط الأدبيّ والفنّيّ، في مختلف ألوانه وأشكاله.
إنَّها إذن منظومة متعددة الموضوعات، متنوّعة الاهتمامات، متكاملة الأهداف: السياسة والصحافة والفن. كل ذلك في رسائل محكمة تتغيا بلوغَ أوسع قطاعات الجماهير، ووراءها هدفٌ أساسيٌّ واحد: مجتمع اشتراكيّ يكفل عدالةً اجتماعيّة، مع ما يستتبع هذه المنظومة من استحقاقات سياسيّة من السلطة، وأدوار تؤسس لبنى فوقيّة تقدميّة؛ كيانها الأساسي من أصحاب الفكر والمثقفين؛ كتّاباً وباحثين وأكاديميين وإعلاميين... إلخ.
ومن الضروري أن نفترض بدايةً أنَّ هاجس مندور الأول مع بدء نزوله إلى الحياة الصحفيّة (بالشكل الاحترافيّ) كان الخوض في الميدان العمليّ. صحيح أنَّ الجانب الأكاديميّ ظلَّ حاضراً معه، ولكن "الميدان" العمليّ" في الصحافة والسياسة ظلَّ وجهته الأولى.
وكان من حسنات الظروف المعاكسة –كما يقولون- بدايات شدٍّ وجذبٍ اعتورت تجربة مندور الأكاديميّة... فأدرك مندور بأنَّ الوسيلة الأنجع لإيصال صوته الأدبيّ والنقديّ من جهة، ورسالته الفكريّة والثقافيّة من جهة أخرى، إلى الجماهير العريضة كانت الصحافة.. ومن هنا تأتي جهود النجل الأصغر لمندور، الدكتور طارق الذي كرّس الجزء الأكبر من وقته لجمع جهود والده المتناثرة بين عشرات الدوريات ليخرج لنا بالكنوز التي زوّد بها المكتبةَ العربيّةَ من لدن محمد مندور؛ كنوز أخرجها على شكل كتب نالت حقَّها من حسن التنسيق ودقة التبويب، وإحكام التوثيق، وإحاطة التقديم.
ومما خلصنا إليه –كما غيرنا- أنَّ مندور حين كان يكتب في الصحافة، لم يكن ضيفاً عليها شأنه في هذا شأن "الكتّاب المتعاونين" من الذين يقتصر اتصالهم بالصحافة على إرسال مادة ما لنشرها فحسب. بل كان الرجل من أبناء العائلة (الصحفيّة)، بل ربّ العائلة في العديد من التجارب سواء قبل ثورة 1952 حين أسّس مندور صحيفته الخاصّة ولاقى ما لاقاه من عنت ومعاناة، أو بعد ذلك حين كان يتمُّ تكليفه بموقع المحرّر أو رئيس التحرير من أرضية الكفاءة وصلابة التجربة... نعم إنَّ مندور هو الناقدُ والكاتبُ والأديبُ، وهو الصحفيُّ المحترف كذلك.
-7-
وإذا انتقلنا إلى أكاديميٍّ بارز آخر بحجم عز الدين إسماعيل نلاحظ أنَّه أطلَّ على القارئ العربيّ سنة 1955 بكتابٍ رياديّ بعنوان: "الأدب وفنونه"، وهو من أبرز الجهود التأصيليّة التي ظهرت في مرحلتها. وعلى الرغم من أنَّ صاحب هذا الكتاب كان في منتصف العشرينيات من عمره، فإنَّ هذا الكتاب يحمل محاولة تأسيسيّة مبكرة لوضع مفاهيم علميّة حصيفة ضمن تصوّر نظريٍّ وتطبيقيٍّ متطوّر للعديد من المفردات النقديّة المتداولة، بإطارٍ تنظيريٍّ منهجيّ يستوعبها ويحيط بأبعادها بحسب آخر ما توصلت إليه حركة النقد العالميّ وقت صدور الكتاب.
ثم توالى نتاج الرجل، وكان كل كتاب يصدر يحمل سمةً تجديديّة، وأحياناً دعامةً رياديّةً في موضوعه. ومن هذه المؤلفات يبرز كتابه الرياديّ: " الأسس الجمالية للنقد العربيّ"، حيث ربط عز الدين إسماعيل مبكراً بين الجهود العربيّة القديمة والنظريات الغربيّة الحديثة، وكان هذا الكتاب، رغماً عن كونه رسالة ماجستير في الأصل، من الركائز التي اتكأت إليها لجنة جائزة الملك فيصل العالميّة في تزكيتها له لنيل الجائزة.
ويأتي بعد ذلك كتابه " قضايا الإنسان في المسرح المعاصر"، ليُحدث إضافةً ملموسة للدراسات العربيّة حول المسرح العربيّ والعالميّ، وليقدم إسهامه في هذا الباب، أحدثت تفاعلاتها وأنتجت العديد من الدراسات على هديها.
ثم جاء كتاب "التفسير النفسيّ للأدب" ليشكّل أوّل محاولة جادة وموسّعة لربط النتاج الإبداعيّ العربيّ القديم والحديث بالعلوم الحديثة حول سيكولوجية الإنسان وبأدواتها المتقدمة، وكذلك في تقديم قراءات جديدة لهذا النتاج تربط بين المعُطى الأدبيّ ومعطيات الإنجازات العلميّة في حقولٍ أخرى، كعلم النفس مثلاً.
ويبقى كتاب "الشعر العربي المعاصر/ قضاياه الموضوعيّة وظواهره الغنيّة" كتاباً رائداً في موضوع الشعر الحر، بل ما زالت مفاهيمه حتى يومنا هذا من بين أكثر ما يمكن الوثوق به والبناء عليه.
ويلتفت عز الدين إسماعيل – مبكراً كعادته- إلى ضرورة ربط النتاج الأدبيّ بالعصر الذي كُتب فيه، لا بوصف هذا النتاج وثيقةً، فهذا أمرٌ لا يعنيه، بل بوصف النتاج مستقطراً لروح العصر ومعبراً في مستوى علويّ، عن حقائق هذا العصر، وشخصيته الإنسانيّة، ومن هنا تأتي أهمية كتابه: "روح العصر"..
كتب عز الدين إسماعيل إضافةً إلى ما سبق عشرات الكتب الأخرى التي لا مجال حتى لاستحضار عنواناتها في هذه العجالة، وفوق هذا قدّم للفكر النقديّ العربيّ والعالميّ مئات الدراسات والمقالات التي يحتاج حصرها وتبويبها لجهود فريقٍ علميّ، وبالإضافة إلى ذلك أنجز العشرات من ترجمات الكتب والدراسات العالميّة، التي تحاول استحضار أحدث ما توصلت إليه المدارس النقديّة العالميّة إلى القارئ العربيّ، في علم الجمال، والخطاب، والتلقي والتأويل، وغير ذلك مما تشهد عليه كتب رصينة ظلّت تترى حتى الأيام الأخيرة من حياته.
أمَّا إنجازه المؤسّسي فقد اختار له خطّاً واحداً فحسب: الخط الأدبيّ الأكاديميّ، وهكذا، كانت المناصب والمسؤوليات المهمّة تأتي إليه دون أن يسعى إليها جميعها في هذا الحقل: عميد كلية الآداب، نائب رئيس جامعة عين شمس، الأمين العام للمجلس الأعلى للآداب والفنون، رئيس الهيئة العامة للكتاب، رئيس أكاديميّة الفنون(المؤسسة العربية الأهم في نوعها) وغير ذلك....
-7-

كانت الستينيات إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في الحياة الثقافيّة في مصر، ومن ثم في أقطار المشرق العربيّ بعامة، ولا سيَّما في بلاد الشام وأرض الرافدين.
لقد بدأت بشائر عطاء جيل جديد في عقد الستينيات... جيل يمكن مقاربته ودون تعسف، بما وصفه "جون أوسبورن" بجيل الغضب في أوروبا والغرب بعامة، أو جيل الثورة الشاملة؛ ومن ضمنها الثورة الأدبيّة على تقاليد إبداعيّة ترسّخت -في المشرق- طيلةَ قرن من الزمان على الأقل، أو لنقل الجيل الذي أراد أن ينجز تجربته بوحيٍّ من قناعاته، ويمتاح من رؤاه الذاتية والتوجهات التي تمليها رؤاه الخاصة.
وبذلك يمكن القول إنَّ جيل الستينيات قدّم أدباً جديداً بل إبداعاً جديداً جاوز عطاء المؤسسة الثقافيّة القائمة، وظلَّ عطاء هذه المؤسسة سائداً، وتحوّلت تقاليدها إلى علامات ترسم الطريق لإبداعٍ متميّز، فقد أعطت ونعم ما أعطت!!، ولكنَّ التغيّرَ سمةٌ راسخة، ودينامية التحوّل قانون ملازم للحياة الإنسانيّة بكل وجوهها ومظاهرها وإنجازاتها؛ بل موجوداتها، في كل زمان ومكان.
إنَّه جيلٌ أراد أن يؤسس لنفسه أدبه الخاص، وأن يجدّد مفاهيمه وقناعاته ورؤاه، وأن يؤصل تجربته لا بالتقليد بل باستجابة خاصة لما جرى على أرض الواقع، ولا سيَّما في النصف الثاني من الستينيات بعد أن تبخر الحلم بالنصر، وبعد أن انجلى الواقع للجيل المثقف عن حقيقة مريرة بأنَّ الإنسان العامل المؤثر لم يعُد له مكان -في العديد من الحالات- إلا في المعتقلات بحسب كلمات بهاء طاهر.
وإذا تطرقنا إلى جابر عصفور بوصفه العنوان النقديّ والأكاديميّ الأهم في جيل الستينيات؛ نرى أنَّه ارتقى بالدور الأكاديميّ من درجة الأستاذ الباحث إلى درجة العالم المنظّر، ومن دور القارئ المتابع لما تشهده الساحة الأدبيّة من إصدارات إلى دور الناقد الفذ الذي لا يُشقُّ له غبار.
وبدءاً من الثمانينيات أصبحت للرجل شخصيته الثقافيّة المتكاملة التي لا تكتفي بالعطاء أكثر أو بالإضافة النوعية الجديدة، بوصفه ينتمي إلى جيلٍ فتيٍّ سعى بنجاح إلى إرساء ثقافة عربيّة تقدميّة جديدة تحتفي بكل جديد مفيد، دون أن يفوتها جلال التراث.
وظلَّ جابر عصفور المثقف الاستثنائيّ في إمكاناته الخلّاقة ووعيه الذي يجاوز عمره بل يجاوز مرحلته، متمسكاً بقناعاته الراسخة نحو مرحله الخمسينيات والستينيات على ما فيها من مفارقة مريرة، ودفع في النصف الثاني من السبعينيات ثمن هذه القناعة إبعاداً وشبه نفي، ومن هنا فإنّني مضطر إلى العودة إلى تعبير ربما كان قد عفا عليه الزمن، أيّ المثقف الثوريّ الذي لا ينفصل إبداعه عن ممارسته في الحياة، وكان جابر بما حباه الله من بصيرةٍ ثقافيّةٍ والتزامٍ أمين بالموقف، وثباتٍ على القناعات، وتطويرٍ للموقف الإيجابيّ استجابةً للتحديات؛ قد استطاع أن ينقل قناعاته إلى مواقعه التي تبوأها بجدارة. حقاً إنَّ شخصية جابر تقدّم مثالاً معبّراً عن المعادلة الشائكة، بين من يتبوأ الدور وبين استحقاقات الدور وأدبياته التي صاغتها التجارب البشريّة عبر العصور.
نجح جابر في استعادة شعلة الإصلاح التي أوقدتها جهود الإمام محمد عبده وشيوخه من الإصلاحيين، فقد حمل جابر عصفور شعلةَ التنوير، وكان رأسَ الحربة في التصدي للثقافة الظلاميّة، لا في جهوده الكتابيّة فحسب؛ بل بمنجزاته التنظيميّة التي تمثّلت بمؤسسات فكريّة وثقافيّة تشيع ثقافة النور إلى من حولها.
واذا انتقلنا إلى وجه آخر من وجوه هذه الشخصيّة الثقافيّة الاستثنائيّة، نتوقف عند جابر عصفور المؤسّسيّ وعند تجربته الطويلة نسبياً أميناً للمجلس الأعلى للثقافة، ولا أكشف عن جديد حين أنوّه بالدور الذي نهض به المجلس الأعلى للثقافة طيلة العقود الثلاثة الأخيرة في إعادة الأمور إلى نصابها بالنسبة لدور مصر المركزيّ في قيادة العمل الثقافيّ العربيّ؛ فكانت فعاليات هذا المجلس التي لا تضاهيها فعاليات أي جهة ثقافية عربية أخرى، عاملاً حاسماً في لمِّ شمل المثقفين والمبدعين العرب في مؤتمرات وندوات وملتقيات واحتفالات واستضافات لم تفرق بين قطر عربي وآخر، أو بين مثقف أو أديب وآخر، على أساس جهويٍّ أو مذهبيٍّ، فقد وجد المئات أماكنهم في ظلِّ فعاليات هذا المجلس العتيد؛ مما أسهم في استعادة العمل العربيّ لدوره المعهود في توحيد الوجدان، وأبرز دور مصر في لمِّ الشمل الثقافيّ عن استحقاق؛ لأنَّها فوق كلِّ الخلافات.
وقد رفض جابر عصفور بضراوة أن تتحوّل الثقافةُ إلى سلعةٍ، أو أن يخضعَ النشاطُ الثقافيّ بأيّ صورة من صور الفعاليات أو المنشورات التي تصدر عن المجلس الأعلى أو مركز الترجمة الذي شاده بمساعيه، لأيّ شكلٍ من أشكال الربحيّة، أو فرض رسوم رمزيّة أو جزء زهيد التكلفة، وبذلك يتجسّدُ الدورُ العظيمُ لمصر في العطاء الثقافيّ المستمر عبر مئات السنين، والمتعاظم في العصر الحديث تحديداً، مصر التي تقوم بهذا الدور رغم كل التعقيدات السياسيّة، وثقل الأعباء الاقتصاديّة.