الحداثةُ الشعريّةُ العربيّة من منظور جابر عصفور

مجدي ممدوح/ كاتب في الفلسفة والنقد الأدبيّ
majdimam@hotmail.com
كان للعرب حداثةٌ أولى، قبل حداثة القرن العشرين الوافدة من الغرب. ويبدو أنَّ الحداثة الأولى قد شملت مختلف جوانب الحياة الفكريّة والاجتماعيّة والأدبيّة. يلاحق جابر عصفور خيوط الحداثة العربيّة في بواكيرها الأولى، ويحاول أن ينسجَ شبكةً من العلاقات بين هذه الحداثات. ظهرت الحداثة الشعريّة المبكرة برأي عصفور تحت مسمّى الشعراء المحدثين مثل أبي تمام وأبي نواس وبشار بن برد، والذين برزت في أشعارهم الكثير من التحولات الفكريّة المتأثرة بظهور الملامح الأولى للعقلانيّة العربية التي دشنها المعتزلة من خلال الإعلاء من شأن العقل وجعله أصلاً من أصولهم في أمور العقيدة والحياة الاجتماعيّة. لقد ظهرت في أشعار المحدثين الكثير من الحكم والأمثال التي يمكن إدراجها تحن مسمّى الفكر، لأنَّها تطرح أفكاراً مجرّدة داخل فضاء القصيدة. وبالرغم من هذا التوجّه الجديد، إلا إنَّ الموازنة بين الجانب الجماليّ والجانب الفكريّ ظلّت هاجس الشعراء على الدوام، وفي الحالات القليلة التي كان يطغى فيها الجانب الفكريّ التجريديّ على الجانب الجماليّ، كان النقّادُ في ذلك الزمان، ومن أشهرهم الجاحظ، لا ينظرون بعين الرضا لهذا الإغراق في التجريد. ليس مطلوباً من الشاعر برأي الجاحظ أن ينحو منحى الفلاسفة في نظمه للشعر، فثمة فرق بين الفكر الفلسفيّ والفكر الشعريّ. لقد كان الجاحظ صريحاً في نقده لشعر صالح بن عبد القدوس والذي يُعدُّ من أبرز الشعراء المحدثين. يشير الجاحظ إلى كثافة الحكم والأمثال والمواعظ في شعر ابن عبد القدوس، حتى أنَّها أثقلت شعره وغيّبت الجانب الجماليّ الفنيّ فيه. وقد كان الجاحظ يفضّل أن تتوّزع الحكم والأمثال وتتناثر مثل الدرر النادرة، وأن لا تكون لها السيادة في القصيدة.
هنا نستطيع أن نرصد تحولاً مهمًّا في شعر الحداثة أو المحدثين، حيث أنَّ الشعر لم يعد عندهم مجرد حادثة لغوية نستمد منها معارف حول الماضي وقواعد اللغة، بل أصبح للشعر دورٌ معرفيّ في قراءة الحاضر وفهمه وتحليله. كان لا بدَّ لظاهرة الشعراء المحدثين من حركة نقديّة تسندها وتمنحها المشروعيّة، وإلا عُدّت بدعاً من القول، ولم تجد لها صدى بين الجمهور.
* ويمكن القول إنَّ التيار العقلانيّ الذي دشنه المعتزلة قد اضطلع بهذا الدور النقديّ، مستنداً في ذلك للمرجعيات الفكريّة والأسس العقليّة للفكر المعتزليّ الجديد. وهو فكرٌ جديدٌ تمرّد على الكثير من القوالب التي وضعها الفكر السنّي القائم على الاتباع والتقليد. يمكن تلخيص الفرق بين النقد القديم والنقد المحدث كما يلي: كان النقد القديم يبدأ وينتهي بالقياس على الماضي، حيث كان الماضي هو النموذج الأمثل الذي يجدر بالحاضر النسج على منواله، وكل ما هو مشابه للماضي فهو ذو قيمة، وكل ما يخالف الماضي فهو بلا قيمة. أمَّا النقد المحدث، فعلى العكس من القديم، اعتبر الحاضر هو المقياس وهو الأنموذج، وأنَّ الحاضر يمتلك قيمته وأصالته من ذاته، أي أنَّه معيار ذاته. بالرغم من النزعة العقليّة الواضحة لدى المعتزلة، إلا أنَّهم لم يتبنوا العقلانيّة بشكلها الفلسفي الخالص. ظهرت الفلسفة في الحضارة العربية الإسلاميّة بعد المعتزلة بزمنٍ يقرب من القرن. ويمكن اعتبار الفارابي هو أوّل فيلسوف عربي بالمعنى الدقيق للفلسفة. وقد كانت للفارابي آراء حول ضروب الفن المختلفة بما في ذلك فنّ الشعر؛ بل إنَّ جابر عصفور يشير إلى أنَّ الفارابي امتلك نظريًّة في الفن استطاع من خلالها مقاربة النتاج الفنيّ لعصره. ويبدو أنَّ الفارابي أعاد صياغة رؤية النقّاد المحدثين الذين سبقوه دون تغيير جوهري في المضمون. فقد دأب الفارابي على محاكمة نصوص معاصريه وفق ثنائية الإمتاع والفائدة، وكان يرى أنَّ الشعر الجيّد هو الذي يحقّقُ التوازن بين طرفيّ هذه الثنائيّة. ويبدو أنَّ النزوع الفكريّ الذي خلقه المحدثون في القرن الثاني الهجري قد تراجع، أو أنَّه انزاح نحو الامتاع والعجب واللعب وفق التوصيفات الجديدة التي قال بها الفارابي. لم يتوان الفارابي عن تقديم رؤيّةٍ للفنِّ في مدينته الفاضلة على غرار جمهورية أفلاطون. لقد حذا الفارابي حذو أفلاطون في الإعلاء من شأن الفلسفة والفلاسفة، ووضعهم في قمة الهرم القائم على تراتبيّة صارمة، ولم يحقِّر من شأن الفنون، بل أنَّه وضعها في المرتبة الثانية بعد الفلسفة. لقد كان أفلاطون واضحاً في تشخيص العداء المستفحل بين الشعراء والفلاسفة، وانحاز بطبيعة الحال للفلاسفة وطرد الشعراء من جمهوريته بوصفهم مصدراً للاضطراب. لا شكَّ أنَّ الفلاسفة أو المفكرين قد عانوا في العهد اليونانيّ من الإقصاء في مجتمعات كانت تفضّل الشعراء، بل أنَّ الشعراء دأبوا على ازدراء أهل الفلسفة والحطِّ من قدرهم. وبما أنَّ أفلاطون كان ينطق بوضوح باسم النخبة الفلسفيّة، فإنَّ موقفه من الشعراء يبدو مفهوماً. خطاب الفارابي في المدينة الفاضلة جاء مختلفاً، لأنَّه كان ينطق باسم فئة اجتماعيّة مختلفة. وضمن هذا التصوّر الجديد يرى الفارابي أنَّ للفنِّ وظيفةً فاضلة، وهي التوسّطُ بين عقلِ الفلاسفة وحواسِّ العامة.
يشير جابر عصفور إلى أنَّ مَيل الشعراء المحدثين للخوض في بعض القضايا الفكريّة ومحاولة الكشف عن عوالم مستقبليّة جديدة، قاد بالضرورة إلى ظهور الغموض وللمرة الأولى في الشعر العربيّ، حيث لم يعتد العرب على الكلام الذي يحمل دلالاتٍ متعددةً ولا يذهب مباشرة لمراده. وفق هذا السياق يمكن أن نفهم حِجاج أبي تمام مع الذين لاموا عليه الغموض، حيث قالوا له: لماذا تقول ما لا يُفهم؟ فأجابهم: ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟. هذا الحجاج يشير إلى نقلة نوعية في الشعر العربيّ، أصبح بعدها المتلقي مطالباً بحدٍّ أدنى من الاستعداد والذائقة الشعريّة لكي يستطيع فهم المراد، مما يرفع الشعر إلى منزلةٍ أعلى من القول العاديّ المبتذل بين الناس في حياتهم اليوميّة، والانتقال بالشعر إلى مرتبة الفن. ومن الملاحظ أنَّ الجمهور لم يستنكر هذا التوجّه الجديد للشعر الممزوج بالفلسفة والحكمة، ولكنَّه بالمقابل عدّها ضرباً من الظرف والمِلَح.
إنَّ رؤية جابر عصفور للشعر العربيّ، قديمه وحديثه، تنطلق من رؤيته الحداثيّة. وبالرغم من أنَّ الحداثة بالمعنى الاصطلاحي المتعارف عليه هي ظاهرةٌ أوروبيّةٌ حدثت في زمانٍ ومكانٍ معينين، إلّا أنَّ جابر عصفور، ومن خلال فهمه المعمّق لجوهر الحداثة، بادر لتأصيل هذه الظاهرة واكتشاف بعضاً من عناصرها في النتاج الشعريّ العربيّ. وفيما يخصُّ الحداثة الشعريّة العربيّة ال

معاصرة، فقد ربطها بحركة التجديد التي دشنتها نازك الملائكة وتبعها في ذلك شعراءُ كُثُر كان من أبرزهم بدر شاكر السياب. ويبدو أنَّ هذه الحركة الشعريّة الجديدة قد تأثرت بنظرياتٍ وافدة من خلال الترجمات والاطلاع على الآداب الغربيّة وخاصة الشعر الإنكليزيّ. ويمكن القول إنَّ الموجةَ الأولى من الحداثة الشعريّة العربيّة كانت منزاحةً للنمط الإنكليزيّ، ولكنَّ الموجةَ الثانيةَ سرعان ما اتّخذت من الحداثة الشعريّة الفرنسيّة نموذجاً جاذباً؛ كما ظهر عند "شارل بودلير". لقد بادر عصفور لتوثيق هذه التحوّلات الحداثيّة في كتابٍ تناول فيه تجاربَ ثلاثة من الشعراء العرب المعاصرين هم: نازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور، ومحمد الماغوط. ويمكن القول إنَّ هؤلاء الشعراء مثّلوا المشهد الشعريّ العربيّ المعاصر بأطيافه المختلفة. لقد كان للشعر منزلةٌ خاصّة في رؤية جابر عصفور الحداثيّة، وقد كان يقتبسُ مقولةَ "أمل دنقل" في وصف الشعر بأنّه فرحٌ مختلس.