الحداثةُ الشعريّةُ في كتاب "رؤى العالم" لجابر عصفور

د. أحمد البزور
أكاديمي وباحث/ قسم اللغة العربية/ كلية الآداب/ جامعة الزرقاء.
albzoor_ahmad@yahoo.com

تحاولُ المقالةُ استكناهَ طبيعةَ الخطابِ النَّقديّ الشِّعريِّ في تفكيرِ جابر عصفور، وتقديمَ رؤيةٍ شاملةٍ لكتابهِ الموسومِ بعنوان "رؤى العالم"، وما أمكنَ ملاحظتهُ، هو أنَّ جابر عصفور لم يخرج في تناولهِ للنُّصوصِ الشِّعريّةِ لمفهومِ الشِّعرِ بالمعنى الحداثيّ، كاشفاً تحوّلاتِ وعي الشُّعراءِ ودورهم في تأسيسِ نزعةِ الحداثةِ في الشِّعرِ العربيِّ المعاصر.
في البدايةِ، يُعَدُّ جابر عصفور واحداً من أصحابِ الفكرِ التَّنويريّ، وناقداً مُتمكناً من النّظرياتِ الأدبيّةِ الحديثةِ(1)، ويُعَدُّ أيضاً وريثَ التُّراثِ التَّنويريّ العقلانيّ المنتمي إلى الماضي، مُتجاوزاً مصطلحَ البعثِ، الذي رافقَ شعرَ الإحياءِ والنّهضةِ، مُستفيداً ومُتكئاً في الوقتِ ذاتهِ على الطُّروحاتِ النَّظريَةِ الغربيّةِ(2).
تتفقُ المدونّاتُ والدّراساتُ لا سيّما الأدبيّةُ بأنَّ الحداثةَ العربيّةَ ظهرتْ في نهايةِ القرنِ التّاسعِ عشرَ ومطلعِ القرنِ العشرين(3)، ومما لا شكّ فيه، أنَّ الشِّعرَ يُعَدُّ فناً أدبياً مهماً عندَ العربِ قديماً وحديثاً، وقد تطوّرَ تطوراً ملحوظاً شكلاً ومضموناً، وبهذا، بإمكاننا القولَ: بأنَّ الحداثةَ الشِّعريِةَ تتمثّلُ بالتَّغيراتِ التي طرأت على القصيدةِ العربيّةِ المعاصرةِ بشكلٍ مغايرٍ وشاملٍ لتنطوي على رؤيةِ العالمِ(4).
ونشيرُ إلى أنَّ شعرَ الحداثةِ العربيّةِ المعاصرةِ تأثرَ بالحداثةِ الغربيّةِ في إطارِ التّأثرِ بالثّقافةِ الغربيّةِ، وبطبيعةِ الحالِ، فإنَّ حداثةَ الشِّعرِ العربيِّ كما يرى جابر عصفور تنطوي على أنا لا تزال تحلمُ ببعضِ ما تمرّدت عليه نظيرتها الأوروبيّة(5).
إنَّ عنوانَ الكتابِ يشيرُ إلى مفهومٍ اُستخدمَ اِستخداماً ثقافيّاً وفلسفيّاً ونفسيّاً وتاريخيّاً وأدبيّاً، ويحيلنا مباشرةً إلى النّظريةِ البنيويّةِ التّكوينيّةِ، حيثُ يحتلُ مفهومُ رؤيةِ العالمِ مكانةً مركزيّةً، ليشير إلى موقفٍ كلّي من الحياةِ والعالمِ، ويمثّلُ مجموعةً من الطُّروحاتِ والأفكارِ، توحّد أعضاءَ مجموعةٍ اجتماعيّةٍ، تتعارضُ مع المجموعةِ الأخرى، بمعنى، أنَّ رؤيةَ العالمِ تتعارضُ مع الرّؤيةِ الفرديّةِ، لتتجاوز ما هو واقعيّ إلى ما هو مُستقبليّ، وبتعبيرٍ آخر، فإنَّ الرُّؤيةَ في الأدبِ تمثّلُ تعبيراً كُليّاً وشُموليّاً عن قيمِ وطموحاتِ الجماعةِ التي ينتمي إليها الأديبُ، شاعراً كانَ أو ناثراً.
عموماً، يفتحُ جابر عصفور أفقاً للبحثِ، من خلالِ الخوضِ في مسألةِ الرّؤيةِ في الشِّعرِ كمصطلحٍ نقديّ غربيّ، مُقدّماً تصوّراً للمفهومِ، مُتّخذاً البنيويةَ التّكوينيّةَ منهجاً لتحليلِ تجربةِ الحداثةِ الشِّعريّةِ العربيّةِ.
إنَّ مفهومَ جابر عصفور لرؤيةِ العالمِ أقربُ إلى النّقلِ منهُ إلى التّأويلِ، ليتسق تماماً مع المفهومِ الغربيّ بوصفها واقعةً اجتماعيّةً، لهذا، يوسّعُ جابر المفهومَ، مُنفتحاً على الفلاسفةِ والنقّادِ والشُّعراءِ الغربيينَ، مستلهماً تصوّرهم وما قدّموهُ من مفاهيمَ، ومقدِّماً تحليلاً نقديّاً لنصوصَ شعريّةٍ لشعراءَ معاصرينَ يضعهم في دائرةِ الحداثةِ، من مثلِ: نازك الملائكة، وصلاح عبد الصّبور، ومحمد الماغوط، وأدونيس، وأحمد حجازي.
ينطلقُ جابر عصفور في قراءةِ النُّصوصِ الشِّعريّةِ، مُحاولاً النّفاذَ والإنصاتَ إليها عبرَ أكثرِ من طريقةٍ ووسيلةٍ، وبالملاحظةِ، يرى أنَّ الحداثةَ العربيّةَ متأثرةٌ بالحداثةِ الأوربيّةِ، مُتتبعاً الحركاتِ النَّقديةَ الغربيَةَ، وما يقابلها في العربيّةِ مع نماذجَ شعريّةٍ، ويخلصُ بأنَّ العلاقةَ كانت وثيقةً بينَ تياراتِ الشِّعرِ الحداثي، شرقاً وغرباً.
إنَّ تشخيصَ الحداثةِ في نقدِ الشِّعرِ عندَ جابر عصفور يتمثّلُ بمحاكاةِ الشُّعراءِ الغربينَ في استخدامِ الرّمزِ بوصفهِ دالاً يفضي مدلولهُ إلى إبداعِ الشِّعرِ عندَ الشُّعراءِ، واستنتاجاً، نفهمُ بأنَّ الحداثةَ تنزعُ إلى نقلِ محورِ الفاعليّةِ الإبداعيّةِ من مستوى الرّسالةِ إلى مستوى التّرميزِ(6).
من هنا، يبحثُ جابر عصفور أبعادَ الدّلالةِ المركزيّةِ في الليلِ والنّهار في شعرِ نازك الملائكة، مُستنتجاً بأنَّ الليلَ يمثّلُ معادلاً رمزياً وملاذاً ورفضاً واغتراباً لعالمِ النَّهارِ، مُضيفاً بأنَّ دلالاتِ الليلِ والبحرِ امتدادٌ للتقاليدِ الرّمزيةِ الغربيّةِ التي أرساها "بايرون" و"تواس جراي"، مُشيراً إلى قضيّةِ التّأثرِ والتّأثيرِ في استلهامِ الشُّعراءِ المعاصرينَ الأساطيرِ الغربيّةِ.
يتمثّلُ الوعيُّ النّقديُّ الحداثي عندَ جابر عصفور في استخدامِ مُصطلحِ التَّطهيرِ، أو ما يسمّى بالتّنفيسِ الوجداني عندَ أرسطو في تحليله(7).
في القسمِ الثّاني، يتناولُ جابر عصفور ديوانَ صلاح عبد الصّبور الموسومَ بعنوان "النَّاس في بلادي"، اِنطلاقاً من نظريةِ رؤيةِ العالمِ، مُهتمّاً بثوابتَ الرّؤيّةِ، ومُستظهراً الرّموزَ المشكّلةَ في النُّصوصِ الشِّعريّةِ، ومُتتبعاً الملامحَ الشَّكليّةَ الجديدةَ للقصائد، مُقدِّماً نماذجَ شكليةٍ جديدةٍ من طرازِ "السّوناتا، والسّيمفونيّة، والدّراما..."، ومشيراً بأنَّ الدّيوانَ يومئ إلى مدلولاتٍ متعددةٍ، أوّلها المدلول الاجتماعيّ الوطنيّ، مُستخلصاً بأنَّ الشِّعرَ موضوعٌ موازٍ للوطنِ، من حيثُ إنّهُ أداةٌ لتحريره، ومجالٌ لتثويره(8).
ويرى بأنَّ قصيدةَ "النَّاس في بلادي" تتسمُ بالواقعيّةِ، ومسكونةٌ بالتَّمردِ الاجتماعيّ الوجوديّ في مواجهةِ الفقرِ الذي يزدادُ قسوةً مع غيابِ العدلِ. وبالتّأويلِ، يرى بأنَّ قصيدةَ "شنق زهران" إلى جانبِ أنّها تعتمدُ على لُغةِ الحياةِ اليوميّةِ، تمثّلُ أيضاً نموذجاً إيجابيّاً، مُتجسّداً في بطلٍ شعبيّ، صاغهُ الوجدانُ الجمعيّ، وصنعهُ من حكايةِ فلاحٍ بسيطٍ محبٍّ للحياةِ، واصطفاهُ لكي يكونَ تمثيلاً لهُ في علاقتهِ بالاستعمارِ، مُستبشراً الأملَ في الغدِ الواعدِ الذي يُضاحكُ السّماءَ(9).
إِجمالاً، إذا تتبعنا الحداثةَ النّقديةَ في معالجةِ النُّصوصِ الشِّعريةِ العربيّةِ وتحليلها عندَ جابر عصفور، إضافةً إلى ما سبق، لاحظنا أنها تظهرُ في الحديثِ عن ظاهرةِ المدينةِ في ديوانِ صلاح عبد الصّبور، حيثُ يستعيرُ في تحليلهِ مصطلحَ التّفكيكِ، أو ما يمكنُ أن نسمّيه بالتّقويضِ التّمركزِ البلاغيّ، قائلاً: "بأنَّ ما نقراهُ ليسَ بالكلامِ النّثريّ العاديّ، وإنّما هو شعرٌ، يسعى إلى تقويضِ أُسطورةِ الشِّعرِ وبلاغةِ مدينيةٍ جديدةٍ، تهدفُ إلى قصفِ رقبةِ البلاغةِ التّقليديةِ"(10).
وبمنظارِ نظريةِ رؤيةِ العالمِ، يوسّعُ مداركَ تحليله للنُّصوصِ الشِّعريّةِ، قائلاً بأنَّ القيمةَ الجماليّةَ في مفرداتِ اللغةِ موصولةٌ بالاستخدامِ السِّياقيِّ، مُستدركاً بأنَّ النَّصَ الشِّعريَ يُشكّلُ بناءً حيّاً وكلاً مُتكاملاً(11).
ونُزوعاً للحداثةِ الشِّعريّةِ، يتطرّقُ جابر عصفور في القسمِ الثَّالثِ إلى النّثرِ الشِّعريِّ المتحرّرِ إيقاعيّاً وعروضياً، مشيراً إلى ديوانِ "حزن في ضوء القمر" لمحمّد الماغوط، ليمثّل نموذجاً واعداً لشعريّةٍ جديدةٍ مغايرةٍ(12)، حيثُ إنَّ الحداثةَ الشِّعريّةَ كما يراها تكمنُ في التّمردِ والخروجِ على السَّائدِ والمألوفِ، ولتشكِّل في المقابلِ موازاةً رمزيّةً للواقعِ(13).
يتأسسُ تحليلُ جابر لنصوصِ أدونيس الشِّعريِة في القسمِ الرّابعِ على القناعِ بوصفه رمزاً، مُشيراً بأنَّ ديوانَ "أغاني مهيار الدمشقي" واحدٌ من أشدِّ أقنعةِ الشِّعرِ العربيِّ المعاصرِ لفتاً للانتباه(14). بالنّتيجةِ، فإنَّ جميعَ الآراءِ المذكورةِ في الكتابِ تتجمّعُ في مفهومٍ واحدٍ، وهو مفهومُ الحداثةِ الشِّعريةِ، وقد كانَ جابر عصفور على وعيٍّ نقدي بالتّنظيراتِ الغربيّةِ والحركاتِ الشّكليّةِ في الكتابةِ الشِّعريةِ الحديثةِ.
في النّهايةِ، نستنتجُ بأنَّ الكتابَ قدّمَ بدوره أفكاراً نقديّةً جديدةً؛ حيثُ إنّ مقاربةَ النُّصوصِ الشِّعريّةِ عند جابر عصفور، ينتظمُ في تقديري حداثةً نقديّةً برؤيةٍ مختلفةٍ وبأسلوبٍ جديد، رابطاً تحليلَ تجربةِ الحداثةِ الشِّعريّةِ العربيّةِ بالحداثةِ الغربيّةِ. وباختصارٍ، فإنَّ الرّاسبَ المعرفيّ الثقافيّ الغربيّ عندَ جابر عصفور يشكّلُ رافداً نقديّاً مركزيّاً، مُستمداً مادتَهُ وأدواتِه النقديّة التّحليليّة بالمسائلِ والطُّروحاتِ والنّظرياتِ الغربيّةِ الوافدةِ، وبالمحصّلةِ، نقولُ: بأنَّ جابر عصفور في قراءةِ النّصِّ واقعٌ تحتَ تأثيرِ الحداثةِ الغربيّةِ وموجاتها، مُسهماً في تشكيلِ أفكارِهِ النقديّةِ.
وأخيراً، في رأينا، وبعد قراءتنا لكتابِ "رُؤى العالمِ"، نأخذُ على عملِ جابر عصفور، بأنّهُ ارتكزَ ارتكازاً ملحوظاً على المنهجِ السِّياقيِّ، مُعطياً للسِّياقِ أولويةً في التّعاملِ مع النَّصِّ الأدبيِّ، حيثُ ينطلقُ من النَّصِّ إلى خارجهِ كالتَّاريخي، والاجتماعيّ، والنّفسي، رابطاً تجربةَ الحداثةِ الشِّعريّةِ العربيّةِ عندَ الشُّعراءِ بالبيئةِ، والمؤثراتِ، والظّروفِ التي ظهرت فيها.


الإحالات

(1) انظر، جابر عصفور ومفهوم الشِّعر: عمر حفيظ، فصول، ع107، 2022م، ص 430.
(2) انظر، جابر عصفور وتأسيس الحداثة العربيّة في الشِّعر: محمد السّيد إسماعيل، فصول، ع 107، 2022م، ص 337 ـ 338.
(3) انظر، الإبهام في شعر الحداثة: عبد الرّحمن القعود، عالم المعرفة، الكويت، مارس، ع 279، 2002م، ص 73 ـ74.
(4) رؤى العالم، عن تأسيس الحداثة العربيّة في الشِّعر: جابر عصفور، ط1 ـ 2008م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص 334 ـ 337.
(5) نفسه، ص 341.
(6) ندوة الحداثة في الشِّعر: فصول، مج 3،ع1، 1982، ص 261.
(7) رؤى العالم، سابق، ص 75.
(8) نفسه، ص 90.
(9) نفسه، ص 101.
(10) نفسه، ص 103.
(11) نفسه، ص 104.
(12) نفسه، ص 177 ـ 178.
(13) نفسه، ص 182 ـ 183 ـ 189 ـ 190.
(14) نفسه، ص 220 ـ 221.