الدكتور زكريا إبراهيم رائدُ الثقافة الفلسفيّة المعاصرة

خليل الجيزاوي
روائي وناقد مصري
يُعدّ الدكتور زكريا إبراهيم رائد الثقافة الفلسفية، وتُعدّ مؤلفاته حلقة مفصلية مُهمّة في حلقات تاريخ الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، فقد بدأ كتابة مقالاته الفلسفية مُبكراً وهو لا يزال طالباً بكلية الآداب جامعة القاهرة، فكتب عدة مقالات في مجلة اليقظة: طب النفوس أكتوبر 1939، مشكلة الجبر والاختيار الحلقة الأولى: أكتوبر 1941، مشكلة الجبر والاختيار الحلقة الثانية: نوفمبر 1941،" الله " الحلقة الأولى: يناير 1942، "الله" الحلقة الثانية: فبراير 1942، وعرض أفكار مقالاته بطريقة مبسطة لتكون بين القراء يسيرة وبعيدة عن صعوبات كلمات الفلسفة المعجمية وتعقيداتها.
حياة قصيرة ثريّة
ولد زكريا إبراهيم بمدينة القاهرة يوم 24 يوليه 1924؛ وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بمدرسة فاروق الأول الثانوية، والتحق بكلية الآداب قسم الفلسفة عام 1940 ــــ وكان من بين زملائه في الدفعة نفسها الدكتور يحيي هويدي عميد كلية الآداب جامعة القاهرة الأسبق ــــ وحصل على الليسانس عام 1944؛ وتم تعيينه معيداً بقسم الفلسفة، وحصل على الماجستير عن الفيلسوف الفرنسي "موريس بولندل" عام 1949، وسافر في منحة دراسية لباريس فرنسا؛ ليحصل على الدكتوراه من جامعة السربون عن الفيلسوف الأمريكي "وليم أرنسنت هوكنج" بتقدير امتياز عام 1954، ورجع إلى مصر؛ ليعمل أستاذاً فرئيساً لقسم الفلسفة بكلية الآداب، وسافر للعمل بجامعة الخرطوم، ثم الجامعة الأردنية، وكانت سفرته الأخيرة للمغرب، حيث توفي إثر تعرضه فجأة لأزمة قلبية أثناء عمله بجامعة الملك محمد الخامس مدينة الرباط بالمملكة المغربية يوم 27 أبريل 1976؛ ولم يتجاوز عمره 52 عاماً، وبالرغم من هذا العمر القصير؛ إلا أنَّه كتب وألّف أكثر من 35 كتاباً في مجالات الفلسفة والتربية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع والسير والتراجم؛ لعلَّ أشهرها سلسلة المشكلات الفلسفيّة مثل: مشكلة الفلسفة عام 1963، مشكلة الحب عام 1964، مشكلة الحرية عام 1967، مشكلة الفن عام 1967، مشكلة الحياة عام 1971، وفي سلسلة الأعلام: أبو حيان التوحيدي عام 1964، ابن حزم عام 1966، وفي سلسلة نوابغ الفكر الغربي: برجسون عام 1956، وفي سلسلة عبقريات فلسفية: كانط والفلسفة النقدية عام 1963، هيجل والمثالية المطلقة عام 1971، وفي تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، دراسات في الفلسفة المعاصرة عام 1956، الفلسفة الوجودية عام 1957، تأملات وجودية عام 1963، وفي مجال الفن: فلسفة الفن في الفكر المعاصر عام 1966، الفنان والإنسان عام 1973، وفي مجال المرأة والشباب والأسرة: سيكولوجية المرأة، الزواج والاستقرار النفسي عام 1957، نداءات إلى الشباب العربي، سيكولوجية الفكاهة والضحك عام 1958، وفي الدراسات الاجتماعية: الأخلاق والمجتمع عام 1966، الجريمة والمجتمع عام 1959، الثقافة الاجتماعية والمنطق عام 1959، مبادئ الفلسفة والأخلاق عام 1966، كما ترجم كتاب: الزمان والأزل، وأسهم بكتابة المقالات بالدوريات الثقافية مثل: مجلة المجلة، مجلة الفكر المعاصر، مجلة القافلة، وكان من هيئة مستشاري مجلة الفكر المعاصر فترة رئاسة الدكتور فؤاد زكريا لتحريرها، وأسهم بالكتابة بالعدد التذكاري الخاص بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر عدد نوفمبر عام 1970.
تساؤلاتٌ شائكة
ميزة زكريا إبراهيم الفلسفية أنَّه يطرح وجهات النظر بحيادية تامة تسمح للقارئ رؤية الحقيقة، دون أن يتحيّز لوجهة نظر على حساب وجهة النظر الأخرى، يطرحها في تلقائية مبسطة حتى تتسرب أفكاره إلى عقل وقلب القارئ بسهولة ويسر، وهي موهبة وملكة في الكتابة قلما يمتع بها الكثير من الأدباء والمفكرين.
نجد ذلك واضحاً جليّاً في كتابه: "مشكلة الحياة"، الذي يثير تساؤلاتٍ شائكةً عن ماهية الحياة وتفاصيلها، كمناشط الحياة: كالفكر، الفعل، القول، ومباهجها: كالحبّ، اللعب، الضحك، ومخاوفها: كالفشل، الشيخوخة، الموت، ومعانيها: كتحقيق الذات، وفي الفصل الأول: الفكر: يطرح عدة رؤى فلسفية تُنشّط عقل القارئ، عن علاقة الفكر بالشقاء، وعلاقة التفكير بالسعادة، وميزة أخرى للدكتور زكريا أنَّه يطرح أفكاره في عدة تساؤلات؛ ليفكر القارئ معه أثناء القراءة، فيتساءل الدكتور زكريا: هل مبعث التفكير هو الشعور بالألم بوجود الشرّ؟!
وهل السعادة رديف للتفكير أم ضده؟ وهل يشقى الإنسان لأنَّه يفكر، أم يفكر لأنَّه يشقى؟!
وفي حديثه عن مركزية الفكر والتفكير يتساءل أيضاً: هل يمكن أن يكون التفكير هو موضوع التفكير، أي: هل نفكّر في التفكير؟!
الفكرُ نشاطٌ تجريبيٌّ
ونضرب مثالاً آخر من مقالاته الفلسفية المُهمّة، ففي مقاله بمجلة القافلة/ السعودية، عدد: يونيو/ يوليو 1974) بعنوان العلم لا يصنع الإنسان، يُعدّد الدكتور زكريا إبراهيم الفتوحات العلمية الكثيرة التي قام بها العلم لتحقيق السعادة والرفاهية في حياة الإنسان: بداية من السيارة، ومصعد البنايات العالية، والهاتف وأجهزة الاستقبال السمعية والبصرية، والأجهزة الالكترونية، فيكتب: (ليس من قبيل الصدفة أن تزداد ثقة الإنسان المعاصر في العلم، فإنَّ الفتوحات الكثيرة التي حقّقها العلماء ورجالات التقنية العلمية في مضمار الذَرّة والأسلحة النووية والأجهزة الإلكترونية وشتى الوسائل التكنولوجية الحديثة، قد عملت على ربط الجهد العلمي بضرب من الإيمان القوي بالنجاح حتى أصبح العلم شعار الإنسان المعاصر في سعيه المستمر نحو مزيد من التقدّم في ميادين الصحة والرفاهية والسعادة).
ويواصل الدكتور زكريا طرح الأسئلة كعادته فيتساءل: هل يستطيع العلم أن يخلع معنى على الوجود البشري؟
ويكتب إجابة سؤاله المشروع في المقال نفسه قائلاً: (بعد أن أصبح العلم هو محور ارتكاز الحضارة البشرية المعاصرة لم يعد في وسع أحد أن ينادي بالاستغناء عن التقنيّة، أو يدعو إلى الانتكاس نحو مرحلة من المراحل السابقة على العهد الصناعيّ، ولكن الإنسان المعاصر لا يزال يملك القدرة على حقِّ تقرير مصير الشخص البشريّ في وجه شتى المحاولات التي يراد من ورائها الهبوط بالذات إلى مستوى الموضوع، ومعنى هذا أنَّ الثورة على أسطورة الأخلاق العلمية، ليست سوى مجرد نقد أصيل لشتى القيم من أجل العمل على تنظيمها جميعاً بالنظر إلى الوجود الإنساني نفسه، وحين يقع في ظنِّ بعض المتحمسين للوضعية العلمية أنَّ العلم سيصنع الإنسان مستقبلاً، فلا بدَّ من أن نُذكّر أمثال هؤلاء الواهمين الحالمين بأنَّ الإنسان هو الذي يصنع العلم وليس العكس).
ويختتم الدكتور زكريا هذا المقال بعدما ظنّ الإنسان أنَّه قادرٌ على الإحاطة بكل علوم المعرفة واستغلالها حتى يحقّق سعادته ورفاهيته فيكتب: (إنَّ الإنسان المعاصر الذي أصبح يجد نفسه مُهدّداً بالتحوّل إلى مجرد وحدة إحصائيّة، لايزال يفعل المستحيل من أجل استعادة طابعه الإنساني، واكتشاف ملاءة البُعد البشري، وهو حين يرفض شتى الدعوات التي تناديه إلى الخضوع؛ لسيطرة التكنولوجيا الحديثة، إنَّما يؤكد مرّة أخرى أنَّه هيهات للعلم أن يصنع الإنسان، وأنَّه هيهات للتقنية أن تُضفي معنى على الوجود البشري).
هكذا ينهض مقال الدكتور زكريا إبراهيم على أنَّ العلم عليه استقراء الوقائع وتجريبها، والتجريب يستند إلى العلاقات بين الظواهر، ولكن العلم ليس مجرد عملية تسجيل للوقائع، بل هو بحثٌ عن النظام في صميم عالم الوقائع، ومعنى هذا أنَّ العلم (واقعة) تدعم (فكرة)، والفكرة تدعم الواقعة، إذن الفكر نشاطٌ تجريبيٌّ عقليٌّ يعمل على إشاعة النظام في حياتنا، وعلينا أن ندعم هذا التفكير التجريبي إذا أردنا أن نصل إلى تفكيرٍ علميٍّ دقيق.
وكم نحتاج لإعادة قراءة المشروع الفكري للدكتور زكريا إبراهيم؛ لتنهض أمتنا العربية على قاعدة صحيحة من الفكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ