الثقافة بين التَّرابط الاقتصادي والتقني ‏ والتفتُّت السياسي والاجتماعي

د. وليد عبد الحيّ

 

أستاذ العلاقات الدولية والدراسات المستقبلية/ جامعة اليرموك- الأردن

 

 

تنطوي ظاهرة العولمة على بُعدين متناقضين، فهي تتسارع في ربط المجتمعات ‏والدُّول ببعضها بعضًا اقتصاديًّا وتقنيًّا، فحجم التجارة الدوليّة ارتفع 35 ضعفًا منذ ‏عام 1950، وهناك 220 منظمة تربط اقتصاديات العالم، و60 ألف شركة متعدِّدة ‏الجنسيّات لها نصف مليون فرع، و3.5 مليار نسمة يستخدمون الإنترنت للتواصل.‏

بالمقابل، هناك 65 دولة فيها حركات انفصاليّة، ينجح منها سنويًّا 3 حركات كل ‏عامين، ويقيم 85 مليون فرد خارج وطنه بتزايُد بمعدَّل 4 ملايين فرد سنويًّا.‏

ذلك يعني أنَّ الثقافات تواجه أزمة حادّة للتكيُّف مع اتِّجاهين متضادين، فالتَّرابط يغذّي ‏نزوعًا براغماتيًّا لمزيد من المكاسب وبمسوّغات ضغط الضرورة، والتفتُّت يشدّ الثقافة ‏نحو وجدان تاريخي يحدِّد هويّتها ليميِّزها عن الهويّات الثقافيّة الأخرى.‏

لمواجهة هذه المعضلة، دعا علماء الاجتماع الثقافي لتأسيس "علم اجتماع عولمي"، ‏فعلم الاجتماع التقليدي بقي أسير الدولة القوميّة ومحصورًا في إطار النموذج ‏الويستفالي، ممّا يستدعي بناء علم اجتماع ينظر للعالم كنسق واحد منتقلًا من المنظور ‏التَّجزيئي  (‏Reductionism‏) الذي يجعل وحدة تحليلِه الدولة والمجتمع إلى ‏المنظور الكُلّاني (‏Holistic‏) المعني بالتفاعلات داخل العالم كنسق واحد.‏

إنَّ الحدود الفاصلة بين المجتمعات تتماهى تدريجيًّا، وأضحى الجميع يطرح الأسئلة ‏الثقافيّة نفسها ولكن من منظور "مُعولم" وكُلّاني، فالإنسان أنتج بنيته الثقافيّة عبْر ‏التاريخ لتتواءم مع نسقِه الأوَّل (الأسرة) ثم نسقِه الثاني (المجتمع) فالثالث (الدولة) ‏وهو الآن يحاول التكيُّف مع نسقِه المُعولم.‏

لقد أعادتنا العولمة للهَمِّ الميتافيزيقي انطلاقًا من التفكير فيه من قاعدة البيانات نفسها، ‏خلافًا لما كان عليه الأمر تاريخيًّا، حيث كانت البيانات والمعلومات والمناهج متنوِّعة ‏ومختلفة بحسب البيئة الاجتماعيّة والطبيعيّة، أمّا الآن، ففي كلِّ الجامعات والمدارس ‏يتلقّى الدّارسون المعلومات والنماذج والمناهج نفسها، ويكملون دراساتهم بالانتقال من ‏جامعة لأخرى في بلد آخر دون مشاكل جوهريّة، ويجري توحيد تدرُّجي للمنظومة ‏المعرفيّة التي تشكِّل الوعاء الذي تتدفَّق منه الثقافة.‏

وعليه، جعلت العولمة الفعل الاجتماعي وللمرَّة الأولى في التاريخ دون بيئة خارجيّة، ‏فقد تعولمت البيئة، فدَفْن النّفايات الذريّة وسباق التسلُّح النوويّ والزيادة السكانيّة تمثِّل ‏أزمات للجميع، فاتفاقيّات المناخ تجسيد للإحساس بالانتماء للمكان الواحدة، لكنَّ هذا ‏الإحساس -ككلّ ظاهرة اجتماعيّة- لا يولد ناضجًا، بل متطوِّرًا وبكيفيّة خطيّة.‏

لقد أدّى التطوُّر العلمي التراكمي لتحوُّلٍ في مفهوم الزَّمان والمكان في بنية الثقافة، ‏فحدود المكان اتَّسعت من مجتمع الأسرة لمجتمع القبيلة ثم لمجتمع الدولة القوميّة ‏وأخيرًا لمجتمع العولمة الذي يعمِّم ثقافة حقوق الإنسان لا حقوق "المواطن" متحرِّرًا ‏من هويّته الفرعيّة، أمّا الزَّمن، فإنَّ اختراع الساعة "والتوقيت الموحَّد (غرينيتش)" ‏جعل العالم يتناغم في ضبط إيقاع حراكِه مع بعضِه بعضًا، والهبوط على سطح القمر، ‏كثَّف شعور البشريّة بالانتماء لـِ"مكان واحد".‏

بالمقابل، أيقظت العولمة وجدانًا تاريخيًّا وقلقًا على هويّةٍ تُميِّز المجتمع عن غيره، ‏فكما يأبى الفرد تماهي شخصيّته، يأبى الوعي واللاوعي المجتمعي الذوبان في بنية ‏ثقافيّة مُغايرة، ممّا اقتضى المُواجهة، ووَجَدتْ المجتمعات أنَّ هويّاتها الثقافيّة الفرعيّة ‏‏(الدين واللغة والعرق) هي الحصن الذي يجب التَّمترس فيه، فَتَماثُل العالم وترابطه في ‏أزيائه ومنتجاته ومعماره وأدبه وعلومه ونظمه السياسيّة، يُكْرِه هذه الأنساق على ‏مقاومة شلّال العولمة وتوظيف آليّاتها لتترابط شظاياها عبر الحدود لضمان صمود ‏الهويّة التاريخيّة وعدم ضمور الولاءات الفرعيّة في دورق العولمة، وهنا تنشطر ‏المجتمعات ثانية، فبعضها تَعالى على موازين القوى بين العولمة والمحليّة، وسعى ‏لكبح العولمة تحت غواية قوّة هويّته الثقافيّة التي تظهر بين الحين والآخر فتُعزِّز ذلك ‏الإحساس لديه، لكنَّ مجتمعات أخرى رأت تيّار العولمة واثقَ الخطوة يمشي مَلكًا، ‏فتكيَّفت معه وهذَّبته بدلًا من التوهُّم بتغييره، وعليه أصبحت الثقافة المعاصرة مركبًا ‏هيجيليًّا من التَّرابط والتفتُّت.‏