سميحة خريس*
نأمل أنَّنا خرجنا من سنوات "كوفيد" اللئيمة مقبلين على الحياة، قادرين على اجتراح الفعل الثقافيّ، مراهنين أنّنا -برغم صعوبات المرحلة الاقتصاديّة والاجتماعيّة- سنظلُّ نكتب ونغني ونتحاور ونرسم، والأهم سنظلُّ نفكِّرُ، وتلك أجملُ أدوات المقاومة والصمود.
راهنا على استمرار مسيرة الفكر والتنوير رغم كل ما نراه حولنا من تداعٍ لثوابت أقامت فينا ردحًا، ولعلّنا في ذلك نجد في التغيير فرصةً للإصلاح ومحاسبة نقاط الضعف، والبحث عن الجديد الذي يشبه عصره. ورغم تميّع وضبابيّة المشهد أحيانًا، وتسلّط ما بات يُعرف بزمن التفاهة، فإنَّ نخبًا تتناثر كالنجوم في صفحة سوداء قادرة على إبقاءِ شعلةَ التنوير متقدة.
مجلة "أفكار" تحملُ رسالةً تقوم عليها بإخلاصٍ واجتهاد، مخترقةً كلَّ الاجتهادات التي تدعو إلى تراجع القراءة الورقيّة الجادة المشغولة بعناية. في هذا العدد الذي بين أيديكم، نلتفتُ إلى قضيّة قديمة حديثة، تباحثنا فيها مطولًا وما نزال نبحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ مريرةٍ تتعلق بواقع الترجمة وإشكالياتها في عالمنا العربيّ، في حين أنَّ كلَّ من تعرض إلى المسألة يتأسى على واقع الترجمة، القائم على فوضى الاستخفاف والعمل الارتجاليّ، ويعدد الحالات القليلة التي تمكّنت من تجاوز الواقع الفقير، فإنّنا نذهب إلى دراساتٍ حصيفة في قلب إشكالية الترجمة، آلياتها المقنّنة التي يستوجب توفرها شرطًا لترجمةٍ فعّالة وفاعلة، وما ينطوى عليه من تحدٍّ كبيرٍ للقيام بترجمة العلوم في عصرٍ نجد فيه أنَّ لغتنا تلحق لاهثةً بالمصطلحات العلميّة الموزعة بين المراكز اللغويّة؛ مما يقود إلى تشتّت الدلالة والمعنى، ثم المعمار الشعريّ العربيّ بشروطه المعروفه وإمكانيته الخفيّة وما يحدث له عند الترجمة، ومن هم الذين يترجمون فكرنا وأدبنا وحتى أوراقنا الرسميّة؟ وهل حقّقوا قدرًا من الكفاءة يخوّلهم لأن يكونوا جسورًا متينة وآمنة لعبور الثقافات فوقها وتبادل الأفكار والإبداع والعلوم؟ كيف يتمُّ إعداد مترجمٍ متمرس؟ أليست هذه قضيّةٌ على درجة من الأهميّة؟
يحاولُ ملف "أفكار" فتحَ باب المناقشة لهذه الأفكار مجتمعةً بأقلام عددٍ من الباحثين والمختصّين، على أملٍ أن يظلَّ هذا البابُ مفتوحًا على الحوار والمتابعة في الساحة الثقافيّة.
وعلى ذات المنوال الجاد والمادة الزاخرة بالمعرفة، تذهب "أفكار" الأردنيّة – العربيّة إلى الحفر في موضع الخطاب التنويريّ وعلاقته المباشرة والوطيدة بالفعل الثقافيّ، لأنّنا وبسبب الانحيازات التي عصفت بالفكر، بتنا أكثر حاجة إلى الفكر التنويريّ، فهو سلاحنا لمقاومة الأفكار المحمّلة بالعتمة، والتي تدفعنا إلى الخلف بصلفٍ منذرةً بتراجعنا عن دورنا الحضاريّ، كما نعرض لمحاولة بناء مفهوم الخطاب السجاليّ، الذي يتيح مساحةً للحوار والنقاش وفهم الآخر والقبول بالتنوّع والتعدديّة.
من جانب آخر نسترجع أبرزَ الأعلام الذين خاضوا في تلك التجارب الفكريّة علمًا وفلسفةً وأدبًا، فيحضر طه حسين وتوفيق الحكيم وابن رشد والتوحيدي، وليست العودةُ إلى هؤلاء فرارًا إلى الخلف، بقدر ما هي تنبيه إلى بذور وبدايات الفكر الحر التنويريّ في ثقافتنا، إنَّها استعادةُ الرموز القادرة على مجابهة الردة الفكريّة. يقدِّمُ تلك التجاربَ الرائدةَ مجموعةٌ من الأساتذة المتخصّصين.
ولأنَّ حفرنا الفكريّ لا يقدّم تنظيرًا جافًا، ولكنَّه يشتبك مع الراهن بكل إحباطاته ومظاهره، فإنَّ باحثين يعرضان لنقطتين عايشناهما وتسببا في انقلاباتٍ اجتماعيّة وفكريّة وسياسيّة أثّرت على حاضرنا، وقد تتركان تأثيرهما المريع على مستقبلنا القادم إذا لم نتصدى لفهمهما وتحليلهما ومقاومتهما، فقد قاد التطرفُ إلى تحوّلٍ غريبٍ في الشخصيّة العربيّة بل والعالميّة، مما أوجب دراسته عبر الثقافة كظاهرة تستشري كما النار في الهشيم، يرافقها أيضًا ذلك الفهمُ لتراث الأجداد؛ بل والذهاب إلى تدميره عبر ظاهرةٍ عاثت فسادًا في مجتمعاتنا العربيّة وسبّبت خرابًا كبيرًا، ألا وهي ثقافةُ الإرهاب، تفكيكُ تلك الظاهرة وفهم أسبابها ونتائجها كفيلٌ في المساعدة للخلاص منها، وفي تطهير ثقافتنا وشخصيتنا العربيّة من السمعة السيئة التي لحقت بها جراء الحركات الإرهابيّة.
ثم، ألسنا في عصر التكنولوجيا المذهلة المتسارعة؟ ألا يجدر بنا دراسة تأثير تلك التقنيات الرقميّة وتتبع بصماتها على أدمغتنا؟ إنَّه بحثٌ علميٌّ ولكنَّه مرتبطٌ بالتطور الإنسانيّ.
وفوق ذلك كله لا يغيب عن مجلة "أفكار" جانب الفنون الجميلة العالية، التي تخاطب العقل والروح معًا، من عرضٍ لتجربة مسرحيّة، ونصوصٍ لكتّابٍ أردنيين وعرب مبدعين.
لقد أخلصت تلك المجلةُ القادمةُ من مدينة عمان للفكر في زمن تقلصت فيه الصحافة الثقافيّة العربيّة، وستظلُّ تواصل أداء دورها الفاعل في إثراء الحوار وتناول القضايا الجادة والأكثر التصاقاً بحياة المثقف، كما ستواصل انفتاحها التي تعتزُّ به على المبدعين والمفكرين العرب، ذلك أنَّها لم تكن يومًا مجلة محليّة ضيقة الأفق، ولكنَّها بوابةٌ مشرَعةٌ لكلِّ معرفيٍّ وجميل يأتي من العالم العربيّ، أو هذا الكون الذي بتنا نعرف أنَّه صغيرٌ جدًّا، أصغر مما تصورناه.
*عضو هيئة تحرير مجلة أفكار.